Sawanih Amira
سوانح الأميرة
Noocyada
في عهده فتحت أبواب الرزق على مصراعيها، وفي زمنه مهد السبيل لإشراق شمس المدنية على ربوع هذه البلاد، الأمر الذي أدى إلى رقيها السريع ونجاحها الباهر. ولو أن الخلف اقتفى أثره في سبيل إصلاحاته وحافظ على محاسن آثاره، فمن يدري إلى أي حد كانت تصل سعادة مصر المادية، وفي أي درجة من العز والإقبال تكون حياتها المعنوية؟
عند زيارته الأخيرة لعاصمة الإسلام ارتاحت نفسه الكريمة إلى رؤية الجامع المعروف ب «نور عثماني» ووقع شكله المعماري من نفسه موقع الرضى والاستحسان، فأمر عند عودته إلى مصر ببناء جامع يماثله في الشكل والهيئة واختار له مكانا في القلعة التي بناها صلاح الدين الأيوبي، إلا أن الأيام لم تمهله ليرى الجامع الذي أمر ببنائه، فقد اغتالته المنية قبل إتمامه، بعد أن سلخ خمسا وأربعين ربيعا قضاها في سبيل إسعاد مصر، فدفن في الجهة اليسرى من جامعه المذكور رحمه الله رحمة واسعة.
في نفس العصر الذي عاش فيه محمد علي ولعب دوره الخطير على مسرح التاريخ، كان يعيش عظيم آخر من عظماء التاريخ هو نابليون الأكبر، فخر فرنسا وأكبر علم في تاريخها، تدرب هذا القائد في مدارس فرنسا الحربية ثم أظهر نبوغه وعبقريته في جملة وقائع استولى فيها على أهم العواصم الأوروبية، وجعل نفسه الحاكم المطلق لا على فرنسا فقط بل على نصف أوروبا، وبذلك خلد لنفسه ذكرى دائمة محفوفة بالمجد والعظمة في طيات التاريخ. إلا أن تاج المجد الذي تقلده كلف وطنه فرنسا ثمنا غاليا هو خرابها وانحلال قواها لمدة سنين. وتلك العظمة الكاذبة التي تربع على عرشها كانت واهية الأساس لم ترد عنه عادية النفي وتحمل آلام الغربة في جزيرة تبعد مئات الأميال عن أرض فرنسا.
أما محمد علي فقد كان مناط أمله توطيد ملكه على أساس ثابت، وكانت همته موجهة بالأكثر إلى راحة مصر في مستقبل أيامها، ولذلك كان أهم عمل له هو وضع حد للفتن والدسائس وتطهير مصر من أمراضها المزمنة، وإن التاريخ ليسطر له بالفخر والإعجاب أنه ما انتقل إلى رحمة الله إلا بعد أن مهد السبيل إلى إسعاد مصر فتقلد خلفه زمام الإدارة، وهي على أتم نظام وترتيب.
فلو أراد ناقد منصف أن يوازن بين عملي هذين البطلين اللذين عاشا في عصر واحد ونظر إلى آثارهما نظرة إنصاف، فمن منهما يفوز بنصيب أكبر من إجلاله وتقديره؟ أهو ذلك الفاتح الأمي الذي أبدل ظلام مصر بالنور؟ أم ذلك القائد الذي أراد أن يسخر العالم بعبقريته ونبوغه؟
هذه هي الليلة الوحيدة التي أرى فيها عظمة جدي الأكبر متجلية بأبهج مظاهرها، بل يخيل لي في هذه اللحظة أن أنوار تلك العظمة كانت تتماوج على سطح النيل المتلألئ بالأنوار السابحة فيه.
أما القلعة المتعالية بالبهجة والإشراق على جبل المقطم فكنت أراها كالإكليل المرصع يزيده هيبة وإجلالا.
أما الدعوات الصادرة من قلوب الحاضرين في جامع القلعة تلك الليلة فكانت تخيل لي أنها تمتزج بالأدعية المخطوطة في اللوحات النادرة المعلقة على جوانبه لتكون كالوحي المقدس ينير القلوب بشعلة الغفران ويذكي فيها شرارة الأمل.
ومما زاد بهجة هذه الليلة ظهور البدر شيئا فشيئا من وراء المآذن والقباب بعد أن كان محتجبا عن الأنظار خلف ستار رقيق من الضباب. وما كاد يظهر ويمزج نوره بأضواء الكواكب القريبة منه حتى غمر العالم بطوفان من الفضة. وجماع هذه الحالات الروحية اللطيفة كانت تدفع النفوس إلى الابتهال باستنزال أنوار الرحمة والغفران على روح ساكن الجنان، جدي الأكبر محمد علي.
مصر، 11 ربيع الأول سنة 1333ه
Bog aan la aqoon