في ستين كلمة اكتملت قصة معجزة .. من ناحية الزمن لحظة. أب يهم بقتل ابنه ويتله للجبين فيوحي إليه ربه قد صدقت الرؤيا وينقذ الابن.
من ناحية الموضوع واحد لم يتغير .. أب يقول لابنه إنه أوحي إليه أن يقتله، فيقول الابن في روعة الإيمان وعظمته وأمنه المطمئن افعل ما تؤمر به. لم تحد القصة عن موضعها قيد أنملة.
من ناحية الأشخاص اثنان لا ثالث لهما .. وليس أقل من الاثنين إلا الواحد، وما أحسب أن الواحد يستطيع وحده أن يصنع قصة.
من ناحية البداية والقمة والنهاية .. البداية رب هب لي من الصالحين، القمة افعل ما تؤمر به، وتله للجبين، النهاية وفديناه .. البداية أروع ما تكون البداية؛ فالسورة تبدأ منذ إسماعيل، دعاء يتوجه به إبراهيم عليه السلام إلى ربه .. والقمة أروع ما تكون القمة، أب يقتل ابنه، وابن يرحب أن يقتل في سبيل الله .. والنهاية أروع ما تكون النهاية .. لقد وضع الله نبيه وابنه في بلاء عظيم يمتحن صبرهما، حتى إذا أبدياه واضحا جليا عفا .. وأعاد الابن إلى أبيه، والحياة إلى الابن .. فكلاهما جميعا في فرح مقيم.
ألم أقل لك إنه الإعجاز؟
وثمة شيء آخر. كثيرون يعتقدون أن الشخصية المسطحة عيب في العمل القصصي. وهذا وهم فالشخصية المسطحة دائما تقدم أعظم الأعمال الدرامية؛ لأن الشخصية المسطحة في القصة أو الرواية، إنما يبين لك منها جانب واحد، هو الجانب الذي اختارت القصة أو الرواية أن تقدمه لك، وهو دائما الجانب الفذ .. فإسماعيل في هذه القصة شخصية مسطحة، ولكنه في نفس الوقت قمة إنسانية.
وسيدنا إبراهيم في هذه القصة شخصية مسطحة، ولكنه في نفس الوقت قمة إيمانية. ولم تشأ الآيات أن تظهر من أعمال سيدنا إبراهيم أو سيدنا إسماعيل .. إلا هذين الجانبين .. أب يتمنى ابنا صالحا، فيهبه له الله، ثم يأمره أن يقتله فيمتثل .. وابن مقبل على الحياة يقول له أبوه إني قاتلك امتثالا لأمر ربي، فيقول افعل ما تؤمر به .. القصة لا تريد أن تروي أكثر من هذا الجانب الكامل من النبيين الكريمين .. ولو لم يكن لكل منهما إلا هذا الجانب الذي قدمته الآيات لكان هذا كافيا ليصبح الأب أبا الأنبياء جميعا، وليصبح الابن نبيا وابنا لهذا الأب العظيم.
دقة التبسيط في قصة موسى
ألوان الرواية كثيرة؛ فمنها الرواية التي تتخذ مادتها من الجماعة أو الأسرة . ومنها الرواية التي تتخذ مادتها من الفرد وحربه ضمن الظروف أو المجتمع .. وفيها الرواية التي تتخذ قوامها من تشابك الظروف فيها .. وهناك الرواية الرمزية. وهناك الرواية التي ترسم المجتمع في فترة معينة من الزمن .. وهناك أيضا الرواية التي ترسم الأزمة وأثرها ومدى ما تنداح دائرتها في أوساط المجتمع. وما أحسبني قادرا أن ألم بكل ألوان الرواية.
ولعل قصة سيدنا موسى من أعظم أنواع الروايات التي تلم بين أطوائها جملة ألوان من فنون الرواية؛ ففيها صراع الفرد ضمن القوة الطاغية .. ثم صراع المرء ضد الظروف .. ثم صراع الجماعة في سبيل الحق .. ثم ارتباط الناس بما تعودوه من حياة لا يغيرون ما بهم مهما تتغير أفكارهم وعقائدهم .. إنها قصة من القصص المعجز .. وما أحسبني قادرا أن أجمع كل ما تتسم به من إعجاز وشمول في أسطر قلائل .. ولكن نستطيع أنا وأنت أن نحاول قراءتها، لعلنا نصل إلى بعض من أسرار إعجازها إن كان إلى ذلك من سبيل .. وما أظن.
Bog aan la aqoon