فلم أفقه معنى للشطر الأخير من كلامه، وعجبت لقوله «بلادكم» كأنه أجنبي عن هذه البلاد! وقلت له بدهشة: أنت أعلم مني بما تسأل عنه يا دكتور!
فقال مبتسما: الحق أني حديث عهد بالوطن، ولم أفتح عيادتي هذه إلا منذ أيام.
فأدركت لماذا وجدت عيادته مقفرة؟ ولماذا لم أر لافتته من قبل؟ بيد أنني بت أدرك كذلك أن هذه المرمطة التي ابتليت بها قد انتهت إلى لا شيء، فعاودني القنوط والكمد. واستطرد هو قائلا: ليس بك من نقص مطلقا، وإنك تستطيع أن تقوم بالواجبات الزوجية، وستقوم بها يوما ما، فلا تدع لليأس سبيلا إلى نفسك. كثيرا ما يحدث هذا لبعض الشبان ثم لا يلبثون أن يعودوا إلى حالتهم الطبيعية بعد فترات متفاوتة، فانتظر يومك بثقة لا شك فيها. وأنصحك أن تمر علي للغسيل حتى تزول حالة الاحتقان الخفيفة.
أصغيت إليه باهتمام وبكل جوارحي، وتنازعني اليأس والأمل بعنف وقسوة. متى يأتي هذا اليوم؟! وهل يأتي حقا؟! انتهى الطبيب من عمله وقوله، ولكنني لم أبد حراكا وظللت متشبثا بمكاني، وثبتت عيناي عليه في استغاثة وضراعة، ثم سألت: ماذا عنيت بالعيادة النفسية؟ - أوه .. إنها عيادات من نوع حديث ولا أحسبها توجد في بلادنا؛ ولكن لا تلق بالا لما قلت، ولا أظنك في حاجة إليها. - قلت إنني ربما كنت أعاني أزمة نفسية، فما معنى هذا؟! - قلت لك لا تلق بالا لما قلت، قد غاليت في تقديري، ولست على أية حال طبيبا نفسيا فلا أخوض بك أمورا عسى أن تضر أكثر مما تنفع. إن علاجك بيدك فلا تيئس، ولا تفقد ثقتك بنفسك، واقهر الخوف والقلق، وانتظر الشفاء بثقة لا شك فيها!
وسألته سؤالا أخيرا: أرأيك هذا حاسم لا شك فيه؟
فأجابني بثقة: أجل!
وغادرت العيادة خيرا مما دخلتها. عدت وبي أمل ورجاء، وقلت لنفسي: إن الطبيب لا يكذب ولا يخطئ؛ فاستخفني السرور، وقطعت الطريق إلى البيت مشيا على الأقدام. ومررت في طريقي بالعمارة التي تقطنها أسرة زوجي؛ عمارة الذكريات، فحلق بي الخيال بعيدا، وعلى حين فجأة فتر حماسي واستحوذ علي القلق، ولم ألبث أن انقلبت إلى التجهم، بيد أنني رحت أردد على مسمعي ما أكده لي الطبيب متلمسا الثقة بأي سبيل.
45
وبالرغم من قلقي الدائم كنت أعلل النفس بالشفاء. وواصلنا حياتنا البريئة يحدوني هذا الأمل. وكنت أسترق إليها النظر إذا اشتد بي القلق وأسأل نفسي: ترى أهي سعيدة حقا كما تبدو لي؟ أما تزال تحبني؟ أما هي فكانت تبدو سعيدة راضية، محبة مخلصة، ولم تعد إلى ذكر أمها، فلم أدر إن كانت المرأة انقطعت عن تساؤلها أم كانت حبيبتي تخفي عني ما يدور بينهما من حديث. لشد ما أحبها يا ربي! إن امتزاجنا في حياة واحدة لم يذهب عني سحرها، بل أسكنها أعمق مكان في قلبي. وإني لأهيم بها وهي لصقي على المقعد أو الفراش كما كنت أهيم بها وهي تلوح في الشرفة أو وراء زجاج النافذة. وإنه لمن التعاسة حقا أن ينغص علي سوء الحظ تلك الأيام الحافلة بأشهى فرص السعادة والهناء.
وكأن سوء الحظ لم يقنع بما رماني به في نفسي، فرماني بأمي أيضا!
Bog aan la aqoon