وانتهى الحديث عند ذاك كما تمنيت، وشعرت بأني تخطيت أكبر عقبة في سبيلي. وكان ينبغي أن أكون سعيدا، وقد كنت سعيدا بلا شك؛ ولكن شاب سعادتي إحساس بالقلق طالما عذبني في حياتي. إنه لا يفتأ يطاردني حتى في أحفل ساعاتي بالسرور، وما من مرة أجمع الرأي فيها على قرار حتى أجد همسه يفت في عضدي وينغص صفوي .. بيد أن سعادتي هذه المرة كانت أجل من أن يؤثر فيها مؤثر.
35
وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى المحطة وبي أمل جديد مسكر. وكأنها كانت تنتظرني، رأيتها وراء زجاج النافذة معصوبة الرأس بمنديل أبيض. واستخفني الفرح فابتسم مني الفم والعينان والقلب، وتسامت إليها عيناي في شجاعة غير معهودة. وما كان أشد سروري وسعادتي حين رأيت الوجه الصبيح يجود بابتسامة. انتهى عهد التعاسة والحرمان، وانقشعت ظلمة النفس، ولاحت طلعة حبيبتي بعد اختفاء طويل معذب، وصرنا أصدقاء نتبادل الابتسام! يا لها من حقيقة لا تصدق! حتى هذا الصباح كنت أخاف أن يكون لكلام الأمس معنى غير الذي فهمته. أما بعد هذا الانتظار المثير وهذه الابتسامة المشرقة، فأستطيع أن أستسلم لنداء السعادة في صفاء لا يشوبه شك. ذهبت إلى الوزارة كالثمل .. ما أغربك يا دنيا! إن من يتعسه الحظ برؤية تجهمك لا يتصور أنك تجودين بمثل هذه الابتسامة. وتمليت الحقيقة التي لا تصدق؛ ابتسامة حبيبتي، فقلت لنفسي: إن معنى هذا أن أبواب السماء مفتحة تسح على قلبي هناء، ولكن لا يجوز أن أجمد أو أن أصمت بعد اليوم، وفزت بابتسامة أخرى عند الأصيل، وثالثة في صباح اليوم التالي، وشعرت بأنه ينبغي أن أقطع الجمود بالعمل الحاسم. وجاء صباح الجمعة بعد ذلك اليوم، فغادرت البيت في معطفي الأسود بادي الأناقة، ممتلئا تصميما وعزما. ووجدت حبيبتي في الشرفة تتشمس. فتبادلنا تحية الابتسام ثم ألقيت على ما حولي نظرة حذرة، وأومأت إليها أن تنزل لمقابلتي، يا لها من جراءة! من كان يصدق هذا؟ وثبت نظري عليها في إشفاق وخوف، ورنت إلي بهدوء، ثم جرت على شفتيها ابتسامة لطيفة وتراجعت إلى الداخل، هل تجيء لمقابلتي؟ .. رباه لقد قضيت ليلة الأمس كلها في عمل «البروفات» لهذه المقابلة المأمولة. ولاحت الشقيقة الصغرى في الشرفة، ثم تبعتها الأم بعد قليل، وجعلتا تنظران نحوي، هل تعلمان؟ هذا ما أتمناه حتى آمن خطر محمد جودت. وبدت حبيبتي وراء النافذة وهي ترتدي معطفها، فخفق فؤادي خفقة عنيفة، وانتظرت كمن في حلم. ومن عجب أن إحساسي بالسعادة تغير فجأة، فتر، كأنه صوت جميل اعترضته سعلة، وساورني قلق لم أدر سببه، وحيرة مؤلمة كأنني أحاول أن أتذكر أمرا هاما يضن به النسيان، ثم شعرت بخطورة الخطوة التي أرفع رجلي لأخطوها، فاستحوذ علي التردد والخوف، ونازعتني نفسي إلى الهروب! بيد أنها كانت لحظة عابرة ولت عني بسرعة، فاستعدت الثقة والسرور، وتنهدت في ارتياح عميق، ورحت أقطع الطوار محبورا سعيدا في انتظار حبيبة القلب المشوق .. ثم رأيتها تبرز من باب العمارة في معطف سنجابي فارعة أنيقة مليحة، وجاءت المحطة تخطر في خطواتها الوقور، ووقفت بعيدا عني. وكانت الأم في الشرفة كأنها تبارك اللقاء وتضفي عليه شرفا، فشعرت - إلى سعادتي - بالمسئولية. وجاء الترام الذي سيقلنا، فنظرت إليه بامتنان ودعوت له بالسلامة ولسائقه بالسعادة وزيادة الأجور! وصعدنا معا، ورأيتها تتجه على غير عادتها إلى مقصورة الدرجة الأولى فتبعتها على الأثر، ولم يكن بالمقصورة إلا رجل وامرأة، فجلست فتاتي موردة الوجه من الحياء، ولعلها انتظرت أن أجلس إلى جانبها، وأن أسلم عليها، ولكن خانتني الشجاعة فجلست على المقعد المقابل في ارتباك وحياء وسخط على نفسي. وسار الترام يطوي الطريق، وأنا أخالسها النظر في صمت وصبر، حتى عبر الترام جسر عباس، فنهضت قائمة وغادرت المقصورة وأنا في إثرها، ونزلنا في المحطة التالية. وسارت صوب شارع يمتد وشاطئ النيل، فتبعتها، وتدانيت منها بقلب خافق، متعثرا في خجل قهار، وقلت بصوت لا يكاد يسمع: صباح الخير!
فابتسمت دون أن تلتفت إلي وغمغمت في مثل حيائي: صباح الخير!
وغمرني رد التحية بسرور، فسرنا جنبا إلى جنب وأنا أقول في نفسي بحرارة: «يا سيدة يا أم هاشم نظرة!». كنت خائفا حقا شديد الارتباك والخجل. وحاولت أن أتذكر «بروفات» أمس، ولكن الاضطراب غلبني على أمري فوجدت رأسي خاويا ولساني منعقدا، وقطعنا مسافة غير يسيرة دون أن أنبس بكلمة. كيف أبدأ الحديث؟ ما عسى أن أقول؟ وتولاني ضيق شديد لأني أدركت بطبيعة الحال أنه ينبغي أن أتكلم، وأنه لا يليق بي أن أصمت هكذا، ومع ذلك فلم يفتح الله علي بكلمة واحدة، وبدا كأن الكلام وظيفة لم أمارسها قط. وكأنها أدركت سر ارتباكي، فنظرت إلي وعلى شفتيها ابتسامة رقيقة، فابتسمت في حياء شديد، ولم أجد ما أقوله إلا أن أعيد التحية قائلا: صباح الخير.
فازدادت ابتسامتها اتساعا وقالت: صباح الخير.
رباه! أأفلس معجمي، وعدت إلى العذاب مرة أخرى؟ إني أشعر كأن يدين حديديتين تشدان على عنقي، ولن أتحمل هذا الموقف المزري أكثر من هذا. وتملكني اليأس فغلب في نفسي الخجل واستغثت بها قائلا: اعذريني! .. لا أدري ماذا أقول .. هذه أول مرة أخاطب فتاة!
ولم تتمالك نفسها فندت عنها ضحكة قصيرة، ولعلها تشجعت بحيائي نفسه، فتغلبت على حيائها، وقالت في دعابة: بل هذه ثاني مرة إن صدقت!
آه! إنها تشير إلى مطاردتي لها منذ ثلاثة أيام! وذكرتها بدهشة، كأنني لم أكن بطلها الجريء. مهما يكن من أمر فقد شجعتني دعابتها وخففت عني الارتباك والحياء، وأمكنني أن أقول: لا تسيئي بي الظن، فوالله لو أسعفني لساني لما وسعتني الدنيا كلاما!
وضحكت وهي تصعد في نظرها وتصوب، ثم قالت: ألا ترى أننا لم نتعارف بعد؟
Bog aan la aqoon