ومضت تتكشف لي الحقائق؛ فعلمت أن معاش جدي قد انقطع بوفاته. وأحصيت تركته فوجدت أنه ترك بالمصرف أربعمائة جنيه، ولما كانت أمي وخالتي وريثتيه الوحيدتين فقد خص الواحدة منهما مائتا جنيه صارت كل ما لنا عدا ماهيتي الصغيرة! صرت إذن رب أسرة، وقد لفت عمي نظري لهذه الحقيقة وهو يودعني، فكرر لي العزاء، ووصاني بأمي قائلا: أكرم أمك ما وسعك، فأنت رب البيت، وأنت خلف جدك!
وتلقيت قوله بخوف وتشاؤم، ونظرت إلى المستقبل المجهول بوجوم وامتعاض، وآلمني أن أجد نفسي مسئولا عن غيري .. أنا الذي ألفت أن توكل مسئوليتي بغيري! ولما خلا البيت من المعزين ورحل كل إلى طيته، وجلست وأمي منفردين نتبادل الرأي قالت بلهجة أسيفة: اللهم عونك!
ورفعت إليها بصري الحائر في خوف وكآبة، سألتها بإشفاق: ماذا ترين يا أماه؟
فقالت بأسى: لن تمضي الحياة في يسر كما عهدناها. هذا أمر الله، وعلينا أن نذعن ونصبر ونشكر، وإنه ليسوءني أن أكون حملا ثقيلا عليك؛ ولكن ما باليد حيلة.
فقلت بحرارة: لا تقولي هذا، أنت كل ما تبقى لي في الحياة، ولولاك ما عرفت لنفسي مأوى آوي إليه.
فافتر ثغرها عن ابتسامة حزينة، ودعت لي طويلا، ثم قالت: سيكون ما ورثته من مال قليل رهن إشارتك تستعين به عند الحاجة، حتى يكبر مرتبك.
ولذت بالصمت متفكرا، وعيناها الحزينتان لا تفارقان وجهي، ثم استدركت بصوت متهدج: لم يعد هذا البيت بالمسكن المناسب لنا، فهو كما ترى كبير، وأجرته تعادل مرتبك، ولعلنا نجد شقة صغيرة بما لا يزيد عن مائة وخمسين قرشا في حينا هذا.
وساد الصمت مرة أخرى، ورحت أتساءل عما أعماني عن هذا المصير الذي كان متوقعا من قبل، حتى عادت أمي تقول بصوت منخفض: وينبغي أن نستغني عن الخدم، ولن نحتاج في المستقبل إلا لخادم صغير.
يا له من ضيق لا أدري كيف يتحمله صدري؟!
لست أعلم شيئا على الإطلاق عن الكفاح الذي يشقى به الناس في سبيل الحياة، فلذلك حدجت أمي بنظرة ناطقة بالاستغاثة وسألتها: بماذا تقدرين تكاليف المعيشة بما فيها من سكن وطعام وخادم وغيرها؟
Bog aan la aqoon