فوقع قولها في نفسي موقعا أليما وهتفت بها: كلا .. كلا .. لن تموتي أبدا!
وربتت على رأسي بحنان وقالت برقة: ادع لي بطول العمر كما أدعو لك، يستجيب لك الرحمن الرحيم.
وبسطت كفي الصغيرتين ودعوت الله من أعماق قلبي، وعيناي مغرورقتان بالدموع.
5
أأظل الدهر في حجرها كأنني عضو من أعضاء جسدها؟! جاوزت الرابعة من عمري، وجاء سن الرفاق واللعب. ولم يكن لي من مهرب في البيت إلا الشرفة، وهي تطل على فناء البيت، وتشرف على الطريق. وكان أطفال الأسرة التي تسكن الدور الأول يلعبون في الفناء، فجعلت أنظر إليهم بعينين مشوقتين، فيتطلعون أحيانا بأعين قرأت فيها دعوة صامتة اهتزت لها جوانحي، واستأذنت أمي يوما في الانضمام إليهم، فقالت لي بارتياع: ماذا حدث لعقلك؟ .. ألا ترى أنهم لا يكفون عن العراك؟! .. ما عسى أن أفعل لو ضربوك أو جرحوك؟ .. أو خرجوا بك إلى الطريق لا تنقطع به العربات؟ بل ماذا تفيد منهم إلا الشقاوة وسوء الأدب؟ أما أنا فأقص عليك القصص، وإذا شئت خرجنا معا لزيارة السيدة .. إذا كنت تحبني حقا فلا تفارقني.
ولاح في وجهي التذمر والامتعاض، فاستطردت تقول: لقد حرمت رؤية أختك وأخيك، ولم يبق لي في الدنيا سواك، وها أنت تود فراقي، سامحك الله!
فتوددت إليها قائلا: إني أحبك أكثر من أي شيء في الدنيا؛ ولكني أريد أن ألعب!
ولكنها لم تكن لتذعن لرغبتي تلك، وكنت إذا ضقت بإصرارها بكيت أو ثار بي الغضب ثورة لا أعف فيها عن شد شعوري وتمزيق ثيابي، ولكن شيئا لم يكن ليجعلها تذعن لرغبتي في الابتعاد عنها. وفيما عدا ذلك لم تدخر وسعا لمرضاتي. كانت تبتاع لي اللعب أشكالا وألوانا، وإذا لمست ضيقي ومللي دعت بطفل من أطفال الجيران ليشاركني لهوي تحت سمعها وبصرها. بيد أن ذلك كله لم يرو غلتي، فتحينت منها غفلة يوما وانسللت هاربا من الشقة أكاد أخرج من جلدي فرحا، واستقبلني الأطفال في الفناء بدهشة وترحاب معا. ومع أنه كان بيننا شبه تعارف إلا أنه لم يسعني الاقتراب منهم، فوقفت مكاني في ارتباك وحياء، وسرعان ما أطلت أمي من الشرفة ونادتني في حدة الغضب، ولكن أكبر الأطفال تقدم مني، ودعاني إلى اللعب، وهو يقول لي: لا تبالها! ولأول مرة لم أبال صوتها. فاندفعت إلى حلقة اللعب، وأخذت مكاني في سرور لا يوصف، ولم تكد تمر دقائق حتى شجر خلاف بيني وبين أحدهم فلطمني على وجهي، وذهلت ذهولا شديدا، فلعلها كانت أول لطمة تلقيتها في حياتي، وارتميت على ساعده وغرست فيه أسناني، ولم يتردد رفاقه فانهالوا علي ضربا وركلا، وتوعدتهم أمي في غضب شديد، ولكنهم لم يقلعوا عني حتى هددتهم بقذفهم بالقلة، فغادروني في حالة يرثى لها. ودعتني للصعود إليها، وكنت ألهث والدموع ملء عيني، فقهرني الحياء وتسمرت قدماي فلم ألب نداءها، ولم أرفع بصري عن الأرض، ولم أفارق موقفي حتى جاء البواب فحملني إليها، وغسلت لي وجهي وساقي وهي تقول في انفعال شديد: تستاهل .. تستاهل .. هذا جزاء من يخالف رأي أمه، إن الله يغفر كل شيء إلا من يعاند أمه فلن يغفر له, هذا هو اللعب مع الأطفال، فكيف وجدته؟!
آلمتني هزيمتي أمامها أضعاف ما آلمني الضرب، ورحت أؤكد لها كذبا أن الحق كان علي، وأني كنت المعتدي. ومن عجب أن أمي نفسها لم تكن تكثر من الاختلاط بالناس، فلم يألف بيتنا الضيوف إلا فيما ندر. وكان جدي يضيق بعزلتها، ويحثها دائما على المعاشرة لتسري عن نفسها. ثم شاء الله أن يؤنس وحشتنا، فحلت خالتي ضيفة ببيتنا هي وأسرتها! كانت خالتي تقيم مع زوجها - مدرس لغة عربية - بالمنصورة، فانتقلوا إلى القاهرة ليقضوا بيننا شهرا من العطلة الصيفية. وجدت نفسي بين ستة من الأولاد وبنت، فأفلت الزمام من يد أمي على رغمها. وكان أكبر الأولاد في العاشرة، وأصغرهم يحبو؛ فانقلب البيت الهادئ سركا تقفز به القرود والنسانيس، فلعبت ولهوت حتى كدت أجن من الفرح والسرور .. لعبنا الجديد والحجلة، والوابور، والاستغماية.
ولما ضقنا بالبيت انطلقنا إلى الطريق وأنا لا أكاد أصدق. وأرادت أمي أن تحول بيني وبين الانطلاق معهم، ولكن خالتي تصدت لها قائلة: دعيه يلعب مع الأولاد يا أختي .. لو كان بنتا ما جاز لك أن تحجبيه قبل الأوان!
Bog aan la aqoon