وحين بلغنا المحطة لاذ بالصمت، ووقعت علي عيناه فحدجني بنظرة قاسية وأصر على أسنانه وقال لي بحدة: وأنت يا سي قطران أتظل عمرك بغلا؟! ألم يفتح الله عليك بكلمة طيبة؟ ماذا كان عليك لو تظاهرت بالتودد إليه؟ أحسبته يا أحمق سيرتمي عليك عشقا وولهها؟!
وأفزعني غضبه كما يفزعني الغضب عادة، وارتعشت شفتاي كالطفل إذا شرع في البكاء، ورأى حالي فنفخ مغيظا محنقا، وصاح بي: ما أسرع أن تبكي! .. ما الذي يبكيك؟ .. هل ظلمتك؟ هل تجنيت عليك؟ .. لقد أخطأت خطأ غبي أحمق، وما زدت على أن قلت لك أخطأت، فهل كفرت؟!
ولم أنبس بكلمة طوال الطريق، ولبثت محزونا منكسر الخاطر، حتى ذكرت أني عائد إلى أمي، وأني سأحدثها بكل شيء عما قليل، فسري عني.
13
وزارنا يوما مدحت أخي في الأسبوع الذي تلا مقابلتنا لأبي. ولما تفرست في وجهه تلك المرة أيقنت أنه صورة طبق الأصل من أبي. وتساءلت في حيرة عن سيرته وأخلاقه، وهل يشابه أباه فيهما كما شابهه في تكوينه الجسماني؟ والحق أني رمقته بنظرة غريبة لم يفطن إليها أحد. على أني أحببته كثيرا كما أحبنا كثيرا. وقد عاتبته أمي على ندرة زياراته لنا، فقال لها: أنت أدرى بأخلاق المجنون!
فضحكت بسرور لا مزيد عليه، ورنوت إلى شقيقي بامتنان، فالتفت نحوي وقال آسفا: علمت بما حدث في المقابلة الأخيرة!
فسألته أمي باهتمام: هل أخبرك عنها؟
فقال ضاحكا: حدثني بها عم آدم البواب.
وداخلني استياء شديد فهتفت مستنكرا: البواب! .. أكان يسترق السمع؟!
فقال مدحت: كلا، ليس به من حاجة إلى استراق السمع، فما من كبيرة أو صغيرة إلا ويحيطه بها أبي، فهو سميره القديم الذي يفضي إليه بمكنون صدره؛ وإن لم ينج من شر لسانه في غالب الأحايين، ولكم أحزنني الموقف الذي وقفه من جدي! فوددت لو لقيته اليوم هنا لأعتذر إليه وأقبل يده.
Bog aan la aqoon