87

وكان قد خبر من أحوال المرأة والرجل ما أقنعه أن الخيانة بينهما ليست من الصعوبة والامتناع بحيث يتوهمان، فما من رجل كبر أو صغر إلا والمرأة واجدة بديلا منه يغنيها عنه في جميع نواحيه أو بعض نواحيه. إن كان محبوبا ففي الرجال من هو أحب، وإن كان مهيبا ففي الرجال من هو أهيب، وإن كان جميلا أو سريا أو قويا ففي الرجال من هو أجمل وأسرى وأقوى، ولقد تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فليس من الضروري أن تفاضل المرأة بين الحسن والصالح والأصلح، وليس من الضروري - إن هي فاضلت - أن تكون مختارة مفتوحة العينين فيما تدع وفيما تأخذ، فقد تكون مخدوعة مسوقة ثم تستنيم إلى الخديعة، وقد تؤثر الرجل على الرجل شهوة طريق، كما يذهب الإنسان إلى غدائه فيلقاه مطعم يفعم أنفه ببعض روائحه، فيميل إليه وقد يعافه في غير تلك الساعة.

وكان همام يعتقد أن الغش عند المرأة كالعظمة عند فصائل الكلاب، يعضضها الكلب المدلل ويدخرها حيث يعود إليها وإن شبع جوفه من اللبن واللحم والأغذية المشتهاة؛ لأن ألوفا من السنين قد ربت أسنانه وفكيه على قضم العظام وعرقها، فهو يطلبها ليجهد أسنانه وفكيه في القضم والعرق ولو لم تكن به حاجة إلى أكلها.

وألوف من السنين قد غبرت على المرأة وهي تخاف وتحتال وتراوغ وترائي وتلعب بمواطن الضعف في الرجل، حتى أصبح بعض النساء ممن قويت فيهن عناصر الوراثة وبرزت في طباعهن عقابيل الرجعة ينشدن الغش التذاذا به وشحذا للأسنان القديمة التي نبتت عليه. ويسرهن أن يصنعن الشيء ويخفينه ولو لم تكن بهن حاجة إلى صنعه ولا اخفائه؛ لأن المرأة من هؤلاء تشتهي العظمة بجوع عشرين ألف سنة، وتشتهي اللحم واللبن بجوع ساعات.

ولقد عرف همام سارة، فلماذا لا يعرفها غيره؟ ولم يصعب عليه أن ينال عطفها، فلماذا يصعب على غيره أن يناله؟

إنه لم يكن يستبعد الغش والخيانة، وليس بين الشيء الذي لا يستبعد والشيء الذي يتوقع إلا خطوة وعلامة محسوسة، على أن الإنسان قد يتوقع الغش لفرط إشفاقه من الفقد والخسارة لا لفرط اتهامه وسوء ظنه.

فالخزانة التي تتركها فارغة هي بعينها الخزانة التي تملؤها بالذهب والفضة والجواهر الثمينة، لكنك تخشى على متانتها وهي حافلة عامرة ولا تخشى على متانتها وهي فارغة منسية.

وربما خرج الرجل الواحد من المنزل تنتظره فيه أم حنون وزوجة قالية، فإذا تأخر عن موعد الإياب فأول ما يخطر على بال الأم أن ابنها قد أصابه مكروه، وأول ما يخطر على بال الزوجة أن زوجها يعبث ويعربد، ولا يمكن أن يكون الرجل الواحد رجلين في الرشد والحصافة والقدرة على دفع الأخطار، وإنما اختلف التوقع باختلاف الشعور والخشية، فتتوقع الأم المكروه؛ لأنها تخشى المكروه ولا تبالي سواه، وتتوقع الزوجة العربدة؛ لأنها تخشى العربدة ولا تبالي سواها، ولا يسوءها أن يصاب زوجها البغيض كما يسوءها أن يصيبها في غيرتها وكرامتها الزوجية.

لهذا أصبح همام يحذر الخيانة حين أصبحت هذه الخيانة شيئا يهمه ويشغل باله، ولم يتأهب لنفيها كما تأهب لقبولها، ولم يكبح خواطره عن التمادي في الظلم؛ لأنه علم أن ضمان العدل موجود لا يغفل! وضمان العدل أن سارة عزيزة عليه، فما هو بمستعد للتفريط فيها تجنيا عليها ومطاوعة لوهم عارض أو شبهة طفيفة، وما هو بقادر على التفريط إلا وقد أصبح وأمسى وليس له عن التفريط محيد. •••

خذوا أسرارهم من صغارهم ... وسر «سارة» إنما طرق مسامع همام - أول ما طرقها - من لسان طفلها الصغير.

كانا يتنزهان يوما في أرباض القاهرة ومعها طفلها الصغير، فلعب الطفل ومرح وعدا وطفر ما شاء له من مرح الطفولة ومرح المكان ... ثم اتجه - طفرة أيضا - نحو أمه وهو لا يدري ماذا يصنع، فاتخذ منها موقف العاشق المدله وجعل يفوه بألفاظ من عبارت المناجاة والغزل والتحبب والتدليل لا تسمع إلا بين عاشقين في خلوة غرام، وانطلق يرصها رصا كأنما يتلقاها من ملقن أو يتلوها من كتاب، فصحا همام من حلمه الذي كان سادرا فيه على مهل وتكاسل كأنه لم يتبين بعد معنى ما يسمع، وأسرعت هي فانتهرت الطفل انتهارا شديدا وعنفت عليه وهي تبالغ في نهيه أن يسترسل في تمثيل دوره، وأرادت أن توقع في روع همام بغير اكتراث ظاهر أنها إنما تزجر الطفل لبذاءة الكلام الذي يسرده لا لأنها تكتم سرا يوشك أن يفضحه بثرثرته وهذره، فقالت: تلك مصيبة العشرة السيئة والقدوة المرذولة ... ما أدري والله ماذا صنع بهذا الطفل في سنه الصغيرة؛ فلا هو يصلح للمدرسة ولا هو يطيق الحبس والعزلة عن أنداده وأترابه، ولا هو يسلم من معاشرة الأنداد والأتراب.

Bog aan la aqoon