فانفجر الصحاب ضاحكين وأطالوا في الضحك، وأمين لا يدري مم يضحكون، حتى سأله أحدهم: أواطلعت على النمر؟
فأخذ يفطن لسهوته البارعة، وحاول أن يصلحها كعادته فقال: أوكنتم تريدون الوقوف عليها؟
فزادوا ضحكا وركبوه بالعبث من جميع نواحيه، وجعل هذا يقول له: «لا، معاذ الله! وهل يليق أن نربح إلا الجنيه والجنيهين؟» وذلك يجذبه من كسائه ويصيح به: «يمينا لو ربحنا النمرة الكبيرة لنقذفن بها في التراب، وهل ثمانية عشر ألف جنيه مما يساوي عناء السؤال؟» ... وذلك يناديه: «اقعد يا شيخ اقعد، لا كانت النمر الكبيرة ولا كان من يسأل عنها، إنما القناعة كنز لا يفنى، وإنما المعول على الدراهم والملاليم!» ... وآخر يصطنع الجد ويقول وصاحبنا يتوقع منه الإنصاف: «لا، لا يا إخوان، أنا أعرف ما ينتظر أمين ... إنه ينتظر كشف الخسائر والغرامات!»
فلم يجد الرجل مخلصا من هذه الحملة المتداركة إلا أن يلوذ هربا بمكتب المواساة ويرجع إليهم بأرقام النمر الكبيرة ويقتحم في سبيل ذلك زحام المزدحمين الذي تلاحقوا من كل صوب في تلك اللحظة، وتكوفوا حتى أغلقوا مسالك المكتب ... وعناء على كل حال أخف من عناء.
وأفلح الرجل، ووصل إلى الكشف، وكتب الأرقام الأربعة، ورجع بها ليقرأها على أولئك المشاغبين الذين لا يرحمون، ولم يبق إلا شيء يسير جدا هو الذي فاته يحسب حسابه، وهو قراءة الأرقام.
فإن الأرقام الملعونة تآمرت عليه مع المتآمرين، وأبت أن تنقرئ لا من اليمين ولا من الشمال ولا من الأعلى ولا من الأسفل، وراح المسكين يجاهد ويعالج، وراحت هي تأبى وتصر على الإباء ... ويحمر وجهه ولا فائدة! ويحملق ولا فائدة! ويحاول أن يفسر عجزه ولا فائدة! حتى رحمه أحد الصحاب فانتزع منه الورقة فإذا هي تذكرة ترام، وإذا بالأرقام مكتوبة على صفحة التذكرة التي تمتلئ بالكتابة، ومن ورائها صفحة أخرى يوشك أن تكون فارغة لم يلتفت إليها أمين لأنها - لأمر ما لا يعلمه هو ولا يعلمه أحد - غير جديرة بالالتفات!
لقد كانت الحملة الأولى رحمة سماوية بالقياس إلى الحملة الأخيرة؛ فأينما تحول ببصره فثمة لسان بارز أو تحية ساخرة أو تبويخة حاضرة، وهو صامت يغوص في أعماق القريحة عن المعاذير والمسوغات، ولا تطمئن عزيمته الماضية إلى التسليم والاعتراف.
ومن عادته إذا اعتذر أن يجيء بطرفة أطرف من الأضحوكة الأصيلة التي أثارت الضحك والمشاغبة، وعرف أصحابه ذلك منه فطفقوا يحرضونه على الكلام كلما بدرت منه تحفة من تحفه المأثورات، وبالغوا في الإلحاح يومئذ لينظروا بماذا يتجلى عليه السهو المبارك بعد تلك السهوات الألمعيات، فلم يخلف ظنونهم آخر الأمر فتكلم، وكان ما قال بيت القصيد وآية الآيات في ذلك اليوم الخصيب.
انقلب من الدفاع إلى الهجوم، وقال لهم مستجمعا سكينته واعتداده: تترقبون ألوف الجنيهات! تريدون أن تكسبوا ... وهل أنتم وجه مكسب، الله لا يكسبكم؟! إنني تعمدت أن أجيئكم بالأرقام، واكتفيت بما أذكر من أرقام الأستاذ همام وأرقامي ولم أحفل بما عدا ذلك! وهل كنتم من البلاهة والغفلة حيث تحسبون أنني أراجع لكم أرقامكم ومكاسبكم لأكسب منكم هذا الهراء الذي لا تفلحون في غيره؟!
ويلاحظ أنه لم يختلق هذه المعذرة إلا بعد ما حصل الصحاب على الكشف وراجعوا الأرقام ويئسوا جميعا من الأرباح، ولم يختلقها قبل ذلك مخافة أن يكذبه الواقع عند مراجعة الكشف فيسقط في يديه.
Bog aan la aqoon