162

أجاب: «لماذا يجب أن أثبته. إنه لا حاجة إلى إثبات أي شيء! هذه عقيدتي وليس لي أقل رغبة في إقناعك. وعلى أن هذا عبث.»

فقال يوري بحذر: «إذا سايرناك في أسلوب تفكيرك كان الأولى أن نحرق كل كتب الأدب.»

فأجابه سانين: «لا لا! لماذا تفعل هذا؟ إن الأدب شيء جليل جدا وممتع جدا. والأدب الصحيح الذي أعنيه ليس جدليا وليس صاحبه كذلك الدعي الذي لم يكن يجد ما يصنع ذهب يعالج أن يقنع كل إنسان بأنه آية في الذكاء وتوقد الذهن. إن الأدب يجدد الحياة ويعيد إنشاءها ويتغلغل وينفذ حتى إلى دم الإنسانية جيلا بعد جيل. ففي القضاء عليه سلب لكل لون للحياة وكل طعم وروح لها.»

فوقف فون دايتز وترك يوري يمر به ثم قال لسانين: «أرجوك أن تزيدني! إن ما قلته الآن ممتع لي جدا.»

فاستغرق سانين في الضحك ثم قال: «إن ما قلته بسيط جدا وفي وسعي أن أفيض في البيان إذا شئت. وعندي أن المسيحية قامت بدور ضئيل في حياة الإنسانية. ذلك أنها في الوقت الذي أحس فيه الناس أن حالهم لا يطاق وصمم فيه المضطهدون والمستعبدون لما ثابت إليهم مداركهم على أن يقلبوا نظام الحياة الجائر وأن يعصفوا بالطفيليات الآدمية - أقول في هذا الوقت ظهرت المسيحية وديعة متواضعة تعد الجزيل، فانحت على النزاع واستنكرته وألاحت للناس بصورة النعيم المقيم، وعللت الإنسانية بأنغامه حتى أتعستها وانطلقت تنشر دين الإذعان والتسليم لسوء المعاملة، وقصارى القول أنها جاءت بمثابة «متنفس» للحنق المكتوم، فعاد بها ذوو الشخصية القوية الذين درجوا ونشئوا وسط روح الثورة، وكانوا يحنون إلى خلع نير القرون - أقول عادوا - وقد فقدوا كل حرارة كانت تحفزهم، فساروا كالحواريين إلى ميدان الفناء يطلبونه بشجاعة خليقة بغرض أسمى. ولم يكن خصومهم يبغون بالبداهة غير هذا. والآن فسيحتاج الأمر إلى قرون ظلم فاضح قبل أن توقد نيران الثورة مرة أخرى. ولقد خلعت المسيحية على الشخصية الآدمية العنيدة التي لا تصبر على الرق ثوبا من التوبة والندم يخفي تحته كل ألوية الحرية. وخدعت الأقوياء الذين كان يسعهم الآن أن يستحوذوا على الثروة والسعادة بأن نقلت مركز ثقل الحياة إلى المستقبل - إلى عالم أحلام لا وجود له - عالم لن يراه أحد منهم. وهكذا اختفت روعة الحياة وفتنتها وماتت الشجاعة والعاطفة والجمال. ولم يبق إلا الواجب وحلم العصر الذهبي في المستقبل - ذهبي للآتين - نعم لقد كان دور المسيحية صغيرا. واسم المسيح ...»

فقاطعه فون دايتز صارخا ووقف: «أبدا! إن هذا يتجاوز الحد!»

وجعل يلوح بذراعيه الطويلتين في الظلام.

فسأله يوري مضطربا: «ولكن ألم يخطر لك قط أي عصر فظاعة وإراقة دماء كان خليقا أن يكون لولا أن حالت المسيحية دون ذلك؟»

فأجابه سانين بإيماءة استخفاف: «ها! ها! حدث في بادئ الأمر أن «الميدان» - تحت ثوب المسيحية - تلطخ بدماء الشهداء، ثم حدث بعد ذلك أن الناس كانوا يذبحون أو يلقون في السجون أو محابس المجانين. والآن يسفك كل يوم من الدم أكثر مما يمكن أن تريقه ثورة عامة. وشر ما في الأمر أن كل تحسين في حياة الإنسانية لا يتم إلا بسفك الدماء والفوضى والانتفاض، وإن كان الناس لا يفتئون يدعون أن حب الإنسانية وإيثار الجار هما قاعدة حياتهم وأعمالهم. والأمر كله ينتهي بمأساة سخيفة كاذبة ليست من هذا ولا ذاك في شيء. أما أنا فإني أوثر أن تنزل بالعالم كارثة عامة وحية تقضي عليه، ذلك خير عندي من وجود نباتي فاتر يمتد على الأرجح ألفي عام أخرى.»

فصمت يوري ومن الغريب أن ذهنه لم يكن موجها إلى ما يقول سانين بل إلى شخصيته. وساءه من سانين يقينه المطلق ولم يطق أن يحتمل هذا منه، فقال وهو مدفوع بعامل قوي إلى إيلام سانين: «هل لك أن تتفضل علي فتخبرني لماذا تتكلم دائما كأنك تعلم أطفالا صغارا؟»

Bog aan la aqoon