الأمر الغريب أن التقدم الظافر للحضارة المادية والاستعمار كان قد أبطأ الآن، بل توقف في حقيقة الأمر. وظل الاتصال المادي بين عوالم المجرة الفرعية قائما لكنه لم يزد، وتوقف الاستكشاف المادي للحد المجاور من «القارة» المجرية. وفي نطاق المجرة الفرعية نفسها، لم تكتشف أي كواكب جديدة. واستمرت الأنشطة الصناعية لكن بوتيرة أقل، ولم يتم إحراز أي تقدم آخر في مقياس الرفاهية المادية. والواقع أن التصرفات والعادات قد غدت أقل اعتمادا على الأدوات المساعدة الميكانيكية. في العوالم التكافلية، صارت الشعوب العنكبوتية أقل عددا، أما الشعوب السمكية فقد عاشت في زنزاناتها في المحيط في حالة دائمة من التركيز والاتقاد الذهني، وهو ما شاركهم فيها بالطبع شركاؤهم من خلال الاتصال التخاطري.
كان هذا الوقت هو الذي ألغي فيه الاتصال التخاطري بين المجرة الفرعية المتقدمة وبين العدد القليل من العوالم اليقظة الموجودة في القارة إلغاء تاما. في العصور الحديثة، كان التواصل قد صار متقطعا للغاية. كان من الواضح أن عوالم المجرة الفرعية قد تفوقت على جيرانها حتى إن اهتمامها بتلك العوالم البدائية قد صار مقتصرا على أغراض الدراسة الأثرية فحسب، وتدريجيا قد طغت عليه تلك الحياة الآسرة التي يعيشها مجتمعها واستكشافها التخاطري للمجرات البعيدة. بالنسبة إلينا، نحن فريق المستكشفين، الذي كان يحاول بشدة الحفاظ على الاتصال بين عقلنا المشترك وبين العقول الفائقة التطور في تلك العوالم، صارت الأنشطة الراقية التي تقوم بها عوالم المجرة الفرعية صعبة المنال علينا في الوقت الحاضر. لم نشهد سوى ركود الأنشطة المادية والذهنية الأكثر بروزا في أنظمة العوالم هذه. بدا في البداية أن هذا الركود لا بد أنه قد حدث بفعل عيب غامض في طبيعتها. أكان ربما المرحلة الأولى من انهيار لا رجعة فيه؟ غير أننا قد بدأنا نكتشف بعد ذلك أن هذا الركود البادي ليس علامة على الموت بل على حياة أكثر نشاطا. لقد تحول الاهتمام عن التقدم المادي لأن ذلك قد فتح مجالات جديدة من الاستكشاف والنمو الذهني. والحق أن اتحاد العوالم العظيم، والذي كان أعضاؤه يتألفون من آلاف الأرواح العالمية، كان مشغولا في استيعاب ثمار تلك المرحلة الطويلة من التقدم المادي، وقد بدأ يجد الآن أنه قادر على أداء أنشطة مادية جديدة وغير متوقعة. كانت طبيعة هذه الأنشطة محجوبة عنا تماما في بداية الأمر، لكننا قد تعلمنا بمرور الوقت أن نترك أنفسنا لهذه الكائنات البشرية الفائقة كي ترتقي بنا حتى نتمكن على الأقل من الحصول حتى على لمحة غامضة عن تلك الأمور التي أسرتهم للغاية. بدا أنهم كانوا معنيين جزئيا بالاستكشاف التخاطري لتلك المجموعة الضخمة التي تتألف من عشرة ملايين من المجرات باستخدام أسلوب الانضباط الروحاني والذي كانوا يسعون إلى استخدامه للتوصل إلى رؤية أكثر تبصرا بطبيعة الكون والتمتع بدرجة أرقى من الابتكار. وقد عرفنا أن هذا ممكن لأن مجتمعهم المثالي من العوالم كان يتيقظ بانتباه إلى مستوى أرقى من الوجود، على هيئة عقل واحد مشترك يكون جسده هو عوالم المجرة الفرعية بأكملها. وبالرغم من أننا لم نستطع المشاركة في حياة هذا الوجود الراقي، فقد خمنا أن شغفه الأساسي لم يكن يختلف كليا عن توق أنبل أنواعنا البشرية إلى «الالتقاء بالرب وجها إلى وجه». لقد كان هذا الوجود الجديد يرغب في أن يتمتع بالفطنة والقوة لتحمل رؤية مصدر كل هذا الضوء والحياة والحب رؤية مباشرة. والحق أن شعب هذه العوالم بأكمله كان مستغرقا للغاية في رحلة طويلة وصوفية. (5) مأساة المنحرفين
كانت تلك هي حالة الأمور في «القارة» المجرية الأساسية حين ركزت الإمبراطوريات المتحدة المجنونة قواها على ذلك العدد الضئيل من العوالم والتي لم تكن عاقلة فحسب، بل أرقى في المرتبة الذهنية أيضا. لقد تحول انتباه السلالات التكافلية وزملائها في المجرة الفرعية الفائقة التحضر عن الشئون التافهة في «القارة» منذ فترة طويلة. وقد وجهته عوضا عن ذلك إلى الكون بأكمله وإلى انضباط الروح الداخلي. غير أن أول جريمة إبادة من ثلاث قد ارتكبتها الإمبراطوريات المتحدة في حق شعب أكثر تطورا منها بدرجة كبيرة، يبدو أنها قد أحدثت دويا كبيرا تردد صداه، إن جاز لنا القول، في جميع النطاقات الأرقى من الوجود. وحتى في الفترة الأكثر زخما من مسيرتها، كانت عوالم المجرة الفرعية تتمتع بالبصيرة. مرة أخرى تحول الانتباه إلى القارة المجاورة من النجوم بالاتصال التخاطري. وفي أثناء دراسة الموقف، حدثت جريمة الإبادة الثانية. كانت عوالم المجرة الفرعية تعرف أنها تتمتع بالقدرة لمنع أي كوارث أخرى. بالرغم من ذلك، فقد انتظرت بهدوء إلى أن وقعت جريمة الإبادة الثالثة، وهو ما أثار دهشتنا وهلعنا ولم نتمكن من استيعابه. والأكثر غرابة أن العوالم المنكوبة نفسها، لم ترسل بأي نداء لطلب المساعدة من عوالم المجرة الفرعية بالرغم من أنها كانت على اتصال تخاطري معها. كان الضحايا والمشاهدون على السواء يدرسون الموقف باهتمام هادئ، بل حتى بابتهاج واضح لا يختلف كثيرا عن الاستمتاع. ومن مستوانا الأدنى، بدا لنا في بادئ الأمر أن هذا الانسلاخ وهذه الرعونة الظاهرة، هي تصرفات بعيدة كل البعد عن الملائكية، بل وحشية في حقيقة الأمر. هنا كان يعيش عالم بأكمله من الكائنات الحساسة والذكية في خضم الحياة المتقدة والنشاط المشترك. هنا كان يعيش أحباء قد اجتمعوا حديثا، وعلماء في خضم أبحاث عميقة، وفنانون منهمكون في أوجه الفهم الراقية الجديدة وعمال يخوضون آلاف المشروعات العملية الاجتماعية التي لا يتصورها البشر. كان هذا العالم يزخر بالفعل بتنوع ثري من الحيوات الشخصية التي تؤلف عالما فائق التطور. لقد كان كل من هذه العقول الفردية يشارك في العقل المشترك للجميع؛ إذ يرى أنه الروح الجوهرية للسلالة لا فرد خاص فحسب. غير أن هذه الكائنات الهادئة قد واجهت دمار عالمها دون انزعاج يزيد عما يشعر به المرء منا لتنازله عن دوره في لعبة مثيرة. وفي عقول مشاهدي هذه المأساة الوشيكة لم نلحظ أي معاناة تنم عن التعاطف بل بعض من الشفقة الممتزجة بالدعابة، مثلما قد نشعر به تجاه لاعب تنس مميز قد هزم في الجولة الأولى من إحدى البطولات بسبب حادثة تافهة كالتواء الكاحل.
بعد صعوبة تمكنا من فهم مصدر هذا الهدوء الغريب. لقد كان الضحايا والمشاهدون على حد سواء منهمكين للغاية في الأبحاث الكونية، وعلى وعي كبير بثراء الكون وإمكانياته، وفوق ذلك كله كان التأمل الروحاني قد تملك منهم؛ حتى الدمار قد نظر إليه، حتى من جانب الضحايا أنفسهم، من وجهة النظر التي يدعوها البشر بالإلهية. كان انتشاؤهم البهيج ورعونتهم الظاهرية متجذرين في حقيقة أنهم كانوا يرون أن الحياة الشخصية وحتى حياة العوالم المفردة وموتها جوانب ضرورية تساهم في حياة الكون. فمن وجهة النظر الكونية، كانت الكارثة في نهاية الأمر أمرا تافها للغاية وإن كان محزنا. علاوة على ذلك، إذا كانت التضحية التي تبذلها مجموعة أخرى من العوالم حتى وإن كانت عوالم يقظة على نحو رائع، يمكن أن تؤدي إلى تحقيق فهم أعمق لجنون الإمبراطوريات المجنونة، فإنها تضحية تستحق القيام بها.
إذن فقد ارتكبت جريمة الإبادة الثالثة، ثم حدثت معجزة. لقد كانت المهارة التخاطرية لدى المجرة الفرعية أكثر تطورا بكثير من مهارة العوالم الفائقة المتناثرة في «القارة» المجرية. لقد كان باستطاعتها الاستغناء عن الاستعانة بالاتصال العادي، وكذلك التغلب على أي مقاومة. وكانت تتمكن من الوصول إلى الأعماق حيث شرنقة الروح المدفونة حتى لدى أكثر الأفراد انحرافا. ولم تكن تلك القدرة تدميرية فحسب وتستخدم لتفجير العقل المشترك بالتنويم الإيحائي، بل كانت قوة للتنوير والإيقاظ تؤثر في الجوهر المتعقل الخامل لدى جميع الأفراد. كانت هذه المهارة تمارس الآن على القارة المجرية مع تحقيق نتائج ظافرة لكنها مأساوية أيضا؛ فحتى هذه المهارة لم تكن كلية القدرة. لقد ظهر بين أفراد العوالم المجنونة هنا وهناك «مرض» عقلي غريب ومنتشر. لقد بدا للإمبرياليين التقليديين أنفسهم أنه درب من الجنون، غير أنه كان في حقيقة الأمر يقظة متأخرة وواهية إلى التعقل لدى كائنات كانت طبيعتها قد صيغت تماما من الجنون في بيئة مجنونة.
كان مسار «مرض» التعقل هذا في عالم مجنون يدور عادة على النحو التالي. كان الأفراد في شتى الأنحاء بينما يؤدون دورهم في الإجراءات المنضبطة والتفكير المشترك للعالم، يجدون في أنفسهم شكوكا وشعورا بالتقزز تجاه أعز الافتراضات في العالم الذي كانوا يعيشون فيه؛ إذ تتولد لديهم شكوك بشأن أهمية السفر المحطم للأرقام القياسية والإمبراطورية المحطمة للأرقام القياسية، وتقزز من عقيدة الانتصار الميكانيكي والخنوع الفكري وألوهية السلالة. ومع تزايد هذه الأفكار المزعجة، كان الأفراد يبدءون في الخوف على «تعقلهم» الخاص. وبعد وقت قصير، كانوا يبدءون بحذر في فحص حالة جيرانهم. وشيئا فشيئا، يصبح الشك أكثر انتشارا وأعلى صوتا. وفي نهاية المطاف، بالرغم من أن أقليات عديدة في كل عالم تظل تؤدي واجبها الرسمي، فإنها تفقد الاتصال مع العقل المشترك وتصبح محض أفراد منعزلين، لكنهم أفراد أكثر تعقلا من العقل المشترك الراقي الذي خرجوا من عباءته. أما الأغلبية التقليدية التي أرعبها هذا التفكك الذهني، فقد كانت تستخدم عندئذ تلك الأساليب المألوفة القاسية، والتي كانت تستخدم بنجاح كبير في المستعمرات الحدودية غير المتحضرة للإمبراطورية. كان المنشقون يعتقلون وإما أن يتم تدميرهم في الحال أو اعتقالهم في الكوكب الأقل ملاءمة للحياة على أمل أن يكون تعذيبهم تحذيرا فعالا للآخرين.
فشلت هذه السياسة. وانتشر المرض الذهني الغريب بسرعة أكبر وأكبر إلى أن صار عدد «المخبولين» يفوق عدد «العاقلين». تلت ذلك حروب أهلية واستشهاد جماعي لدعاة السلام المخلصين، وانقسام بين صفوف الإمبرياليين، وزيادة مستمرة ل «الخبل» في جميع عوالم الإمبراطورية. انهارت المؤسسة الإمبريالية بأكملها، ولأن العوالم الأرستقراطية التي كانت تشكل العمود الفقري للإمبراطورية صارت عاجزة، كعجز جنود النمل، فيما يتعلق بالحفاظ على نفسها دون ما تتلقاه من خدمة وتكريم من عوالم الرعايا، فقد حكم عليهم ضياع الإمبراطورية بالموت. وحين صار شعب مثل ذلك العالم عاقلا بأكمله تقريبا، كانت تبذل جهود كبيرة لإعادة تنظيم حياته من أجل الاكتفاء الذاتي والسلام. ربما كان المتوقع أن تلك المهمة على صعوبتها، لم تكن لتهزم شعبا من الكائنات التي كان ذكاؤها الخالص وولاؤها الاجتماعي أكبر من أي شيء قد عرف على الأرض على الإطلاق. بالرغم من ذلك، فقد كانت هناك صعوبات غير متوقعة، وقد كانت نفسية لا اقتصادية. لقد صممت هذه الكائنات للحرب والاستبداد والإمبراطورية، ومع أن التحفيز التخاطري من عقول أكثر تفوقا قد تمكن من إحياء بذرة الروح الخاملة فيهم، ومساعدتهم على إدراك تفاهة غاية عالمهم بأكملها، لم يتمكن التأثير التخاطري من إعادة تشكيل طبيعتهم إلى الدرجة التي تجعلهم يعيشون منذ ذلك الوقت من أجل الروح مع نبذ حياتهم القديمة. وبالرغم من تهذيب النفس البطولي، كانوا غالبا ما يهوون إلى حالة من الخمود كالحيوانات البرية عند استئناسها أو تتملكهم حالة من السعار فيمارس بعضهم على بعض غرائز الهيمنة التي كانت موجهة قبل ذلك إلى عوالم الرعايا. وقد كانوا يفعلون ذلك كله بوعي عميق بالذنب.
كان من المفجع لنا أن نشاهد معاناة هذه العوالم. إن هذه الكائنات الحديثة الاستنارة لم تتخل قط عن رؤيتها للترابط الحقيقي والحياة الروحانية، لكن بالرغم من أن هذه الرؤية كانت تتملكهم دوما، فقد فقدوا القدرة على تحقيقها في أفعالهم. علاوة على ذلك، مرت أوقات بدا لهم فيها تغير السريرة الذي عانوا فيه تغيرا إلى الأسوأ؛ ففي السابق كان جميع الأفراد ملتزمين تماما بالإرادة الجماعية، وسعيدين للغاية بتنفيذها دون البحث القلبي عن المسئولية الفردية، أما الآن، فقد صار الأفراد أفرادا فحسب، وكانوا جميعا معذبين بالشك المتبادل والنزعات العنيفة تجاه البحث عن الذات.
كانت مسألة هذا الصراع المروع في عقول هؤلاء الإمبرياليين السابقين تتوقف على درجة تأثير تخصصهم في الإمبراطورية عليهم. في بضعة من العوالم الناشئة التي لم يكن التخصص قد تعمق فيها، حدثت فترة الفوضى وتلتها فترة من إعادة التوجيه والتخطيط للعالم، إلى أن تلت ذلك فترة من الطوباوية المتعلقة في الوقت المناسب. غير أن ذلك المسار لم يكن ممكنا في معظم هذه العوالم؛ فإما أن الفوضى كانت تستمر إلى أن تبدأ السلالة في الانهيار، ويسقط العالم إلى المرحلة الإنسانية ثم دون الإنسانية ثم الحيوانية المحضة، أو، كما هي الحال في حالات قليلة فحسب، كان التباين بين المثالي والواقعي مؤلما للغاية فتنتحر السلالة بأكملها.
لم نستطع أن نتحمل لفترة طويلة مشهد تلك العوالم الكثيرة وهي تتحطم نفسيا، غير أن عوالم المجرة الفرعية التي تسببت في هذه الأحداث الغريبة وتابعت استخدام قواها في تنقية العقول ومن ثم تدميرها؛ قد راحت تشاهد صنيعها دون وجل. لقد شعروا بالشفقة مثلما نشعر تجاه طفل قد حطم لعبته، لكنهم لم يحزنوا على المصير الذي وصل إليه هؤلاء.
Bog aan la aqoon