لم يكن الرجل يرتدي حذاء فحسب، بل قفازين أيضا بدا أنهما كانا مصنوعين من جلد خشن. كان حذاؤه قصيرا للغاية. وقد اكتشفت بعد ذلك أن أقدام هذه السلالة أو «البشر الآخرين» مثلما سميتهم، كانت أشبه بأقدام النعام أو الجمال. كان مشط القدم يتكون من ثلاثة أصابع كبيرة تنمو معا. وبدلا من الكعب، كان هناك إصبع آخر عريض وقصير وممتلئ. كانت اليدان بلا راحتين، كل منهما تتألف من ثلاثة أصابع غضروفية، وإصبع إبهام.
ليس الهدف من هذا الكتاب أن أروي مغامراتي، بل أن أقدم فكرة عن العوالم التي زرتها؛ ولهذا فلن أروي بالتفصيل كيف استقر بي الحال بين البشر الآخرين؛ فالحديث عن نفسي تكفيه بضع كلمات. حين درست هذا المزارع لبعض الوقت، بدأت حقيقة عدم إدراكه الكامل لوجودي تتملك مني على نحو غريب. وبوضوح مؤلم، أدركت أن الهدف من رحلة حجي ليس هو الملاحظة العلمية فحسب، بل أيضا الحاجة إلى إجراء تبادل ذهني وروحاني من نوع ما مع عوالم أخرى للانتفاع بالثراء والتواصل المشترك. كيف عساي أن أتمكن من تحقيق هذه الغاية ما لم أستطع إيجاد طريقة ما للتواصل؟ فقط بعد أن تبعت رفيقي إلى منزله وقضيت أياما عديدة في ذلك المنزل الحجري الدائري الصغير ذي السقف المصنوع من الخوص المغطى بالطين، اكتشفت القدرة على الدخول إلى عقله، ورؤية الأشياء من خلال عينيه، والإحساس من خلال أعضائه الحسية جميعها، وإدراك عالمه مثلما يدركه هو، وكذلك متابعة الكثير من أفكاره وحياته العاطفية. وبعدها بوقت طويل حين «سكنت» العديد من أفراد هذه السلالة على نحو سلبي، اكتشفت كيف أعلن عن وجودي وحتى أن أتحدث داخليا مع مضيفي.
ذلك الاتصال «التخاطري» الداخلي والذي كان سينفعني في جميع رحلاتي، كان في البداية صعبا وغير فعال ومؤلما. غير أنني قد تمكنت مع الوقت من أن أعايش تجارب مضيفي بحيوية ودقة، مع الحفاظ على فرديتي، وذكائي النقدي ورغباتي ومخاوفي. فقط حين كان الطرف الآخر يدرك حضوري بداخله، كان يستطيع بفعل خاص من إرادته أن يبقي بعض الأفكار سرا عني.
من المنطقي جدا أنني قد وجدت هذه العقول الغريبة غير مفهومة في بادئ الأمر؛ فإدراكاتها الحسية كانت تختلف عن نظيراتها المألوفة لي في جوانب مهمة. كانت أفكارها وجميع مشاعرها وأحاسيسها غريبة بالنسبة إلي. إن الأساس التقليدي لهذه العقول؛ أي، المفاهيم الأكثر شيوعا فيها، كان يستند إلى تاريخ غريب ويعبر عنه في لغات يجدها العقل الأرضي مضللة بعض الشيء.
قضيت على «الأرض الأخرى» العديد من «السنوات الأخرى» متجولا من عقل إلى عقل ومن بلد إلى بلد، غير أنني لم أكتسب أي فهم واضح لنفسية البشر الآخرين ودلالة تاريخهم إلى أن التقيت بأحد فلاسفتهم، وهو رجل عجوز لكنه كان لا يزال يتمتع بعنفوان الشباب، وكانت آراؤه الغريبة وغير المستساغة قد حالت دون أن ينال التقدير والمكانة. القدر الأكبر من مضيفي حين كانوا يدركون وجودي، كانوا إما أن يظنوا أنني روح شريرة أو رسول إلهي. أما الأكثر تثقيفا منهم، فقد افترضوا أنني محض مرض أو عرض من أعراض الجنون؛ ولهذا فقد ذهبوا على الفور إلى «مسئول الصحة العقلية» المحلي. وبعد أن قضيت حسب التقويم المحلي قرابة عام من الوحدة المريرة بين عقول رفضت أن تعاملني على أنني بشر، حالفني الحظ إذ لاحظ الفيلسوف وجودي. أحد مضيفي الذي كان يشكو من أنه يعاني من سماع «أصوات» ورؤية رؤى من «عالم آخر» قد توجه إلى العجوز طلبا للمساعدة. بفالتو، كان هذا هو اسم الفيلسوف على وجه التقريب، قد «عالجه» بأن دعاني إلى قبول الضيافة في عقله حيث قال إنه سيسعده بشدة أن يستضيفني. وببالغ السرور قد تواصلت أخيرا مع كائن أدرك طبيعتي البشرية. (2) عالم منشغل
ثمة الكثير من السمات المهمة في مجتمع هذا العالم التي يجب أن توصف؛ لذلك، لا أستطيع أن أقضي الكثير من الوقت في وصف ملامح الكوكب الواضحة وسلالته. كانت الحضارة قد بلغت من النمو مرحلة شبيهة جدا بما بلغته لدينا. كنت دائم الاندهاش بمزيج التشابه والاختلاف. من خلال الترحال في أرجاء الكوكب، وجدت أن الزراعة قد انتشرت في معظم المناطق المناسبة، وأن الصناعة كانت أكثر تقدما بالفعل في الكثير من البلدان. على المروج، كانت هناك قطعان ضخمة من كائنات شبيهة بالثدييات ترعى وتعدو. أما الثدييات الأكبر، أو أنصاف الثدييات، فكانت تربى في أفضل المراعي من أجل لحمها وجلدها. وأنا أصفها بأنها «أنصاف ثدييات»؛ لأن هذه الكائنات لم تكن ترضع صغارها بالرغم من أنها كانت تلد. بدلا من ذلك، فقد كانت الأم تبصق الطعام الممضوغ المجتر والمعالج كيميائيا في معدتها، في فم الصغار كنفثة من سائل مهضوم مسبقا. وقد كانت تلك أيضا هي الطريقة التي تطعم بها أمهات البشر صغارها.
كانت وسيلة التنقل الأهم في الأرض الأخرى هي القطارات البخارية، غير أن القطارات في هذا العالم كانت ضخمة للغاية حتى إنها كانت تبدو كصفوف كاملة من المنازل وهي تتحرك. كان هذا التقدم الملحوظ في السكك الحديدية يعود على الأرجح إلى الرحلات العديدة التي تقطع عبر الصحاري وطولها الكبير. كنت أسافر في بعض الأحيان على السفن البخارية في المحيطات القليلة والصغيرة، غير أن وسائل المواصلات البحرية كانت بوجه عام متأخرة. لم تكن الدافعة المروحية معروفة في هذا العالم، وكانت عجلات التجديف تستخدم بدلا منها. وكانت محركات الاحتراق الداخلي تستخدم في الانتقال على الطرق والصحاري. لم يتمكنوا من الطيران بسبب الغلاف الجوي الرقيق، لكن الدفع الصاروخي كان مستخدما بالفعل في نقل البريد لمسافات بعيدة، والقصف البعيد المدى في الحروب، وقد يستخدم في الملاحة الجوية يوما ما.
كانت زيارتي الأولى لعاصمة إحدى الإمبراطوريات العظيمة في الأرض الأخرى تجربة رائعة. كل شيء كان غريبا للغاية ومألوفا للغاية في الوقت ذاته. كانت هناك الشوارع والمتاجر والمكاتب المتعددة النوافذ. في هذه المدينة القديمة، كانت الشوارع ضيقة وحركة السيارات مكتظة للغاية حتى إن الأماكن المخصصة للمشاة قد شيدت لها طرق مرتفعة خاصة قد تدلت بجوار نوافذ الطابق الأول وبامتداد الشوارع.
الحشود التي تدفقت على طرق المشاة تلك قد تنوعت مثلما هي الحال لدينا. كان الرجال يرتدون سترات طويلة من القماش وسراويل، من المدهش أنها كانت تشبه سراويل أوروبا، غير أن الطية التي تميز سراويل ذوي الشأن كانت على جانب الساق. كانت النساء بلا أثداء ومرتفعات المنخارين كالرجال، غير أن ما كان يميزهن هو شفاههن الأنبوبية والتي كانت وظيفتها البيولوجية هي توصيل الغذاء للطفل الرضيع. وبدلا من التنانير، كن ترتدين سراويل ضيقة حريرية ذات لون أخضر لامع، وألبسة داخلية صغيرة مبهرجة. وقد كان تأثير ذلك على بصري الذي لم يعتد على هذه المناظر بذيئا بدرجة لا توصف. في الصيف، كان أفراد كلا الجنسين غالبا ما يسيرون في الشوارع عراة حتى الخصر، لكنهم كانوا يرتدون القفازات على الدوام.
إذن، هنا جمع من الأفراد الذين بالرغم من غرابتهم، كانوا يتسمون بالجوهر الإنساني بقدر ما يتسم به سكان لندن. كانوا يباشرون شئونهم الخاصة بثقة تامة، دون دراية بأن ثمة مشاهدا من عالم آخر كان يرى أنهم جميعا منفرون بافتقارهم إلى الجبين، وبمناخيرهم الكبيرة المرتفعة المرتعشة، وعيونهم الشديدة الشبه بالعيون البشرية وأفواههم الشبيهة بالفوهة. ها هم كانوا هناك، أحياء منشغلين، يتسوقون ويحدقون ويتحدثون. الأطفال كانت تجرجرهم أيدي أمهاتهم، والعجائز بوجوههم التي يغطيها الشعر الأبيض انحنوا على عصي السير. وراح الشباب يحدقون في الفتيات. وكان من اليسير تمييز الأثرياء من الفقراء عن طريق ملابسهم الأحدث والأغنى، وكذلك وضعيتهم الواثقة، المتغطرسة في بعض الأحيان.
Bog aan la aqoon