Sanado Thaqb Madoow

Husayn Mihran d. 1450 AH
44

Sanado Thaqb Madoow

سنوات الثقب الأسود

Noocyada

أجاب الأول بابتسامة لا توحي بالسعادة ولا بالسخرية، ابتسامة حزينة بشكل لم يحاول إخفاءه: نعم، لقد أصبحت حالتي المادية الآن جيدة ولله الحمد، لكنها لم تكن كذلك منذ سنوات خمس؛ لقد بنيت نفسي ونجحت، ثم جاءت الثورة وما صاحبها من فوضى فسقط كل ما بنيته. ثم بنيت نفسي مرة أخرى بشكل آخر؛ عدت موظفا ورجعت للدراسة من جديد بعد كل تلك السنوات، حصلت على شهادات كثيرة لم أفكر من قبل في التقدم لامتحاناتها،

MBA

و

والكثير من تلك الشهادات ذات الحروف الإنجليزية الثلاث التي تعجب مديري الموارد البشرية في الشركات متعددة الجنسيات. فعلت ذلك في عمري هذا بعد أن كنت أملك شركة ناجحة، وبعد أن كان يعمل لدي ثلاثون موظفا، يمكنك أن تنجح هنا، لكن لا شيء يضمن أن تستمر في النجاح، لا شيء ولا أحد.

ثم اختفت الابتسامة وأضاف بنبرة جادة إلى درجة التحذير: ثم، ليتها كانت مسألة مال وحسب. ليس بالضرورة أن تعيش بشكل جيد في هذا البلد إذا كنت تملك المال فقط، مهما كان حجم أرصدتك البنكية فأين يمكنك الهروب من الزحام، من التلوث، من التطرف، من موظفي الحكومة، من الطرق؟ لن تستطيع أموالك أن توفر لك العيش في جزيرة منعزلة؛ فليس ثمة جزر منعزلة في هذا البلد. يمكن لخطأ أحمق من موظف حكومي، أو لقرار عشوائي من محافظ أو وزير أو رئيس حي أن يهدم بجرة قلم كل ما بنيته، أو أن يفسد عليك حياتك للأبد. حتى الناس العاديون، هؤلاء الذين تراهم حولك، يمكنهم أن يقلبوا حياتك إلى جحيم، أولئك الذين انضموا إلى داعش واحترفوا تفجير السيارات وقطع الرءوس مثلا، من أين تظن أنهم أتوا؟ لقد كانوا هنا وسطنا طوال الوقت، كانوا يسيرون معنا في الأسواق ويجلسون بجوارنا في المواصلات، وما زال كثيرون منهم يعيشون بيننا ويتعاملون معنا، بل إن بعضهم كنت أعرفه بشكل شخصي؛ ذلك الطبيب الذي كان قد أجرى لي جراحة في عيادته بشارع سيزوستريس مثلا، لم يكن فيه ما يثير الريبة، مجرد طبيب شاب، ثم رأيته قبل عام على يوتيوب وهو يحمل سلاحا آليا ويتوعد بذبح المشاركين في الانتخابات الرئاسية. هل يمكنك أن تتصور أن الرجل الذي أسلمت له نفسك ليخدرك ويشق لحمك بالمشرط، كان في قرارة نفسه يعتقد أن ذبحك سيوصله إلى الجنة؟ حتى هؤلاء البسطاء والشبان المتحمسون لأي شيء، الذين ظلوا يتجمعون تحت شرفة مكتبي لعامين، يتصايحون ويرددون هتافات لا معنى لها؛ كانوا السبب في أن خسرت كل ما بنيته طوال حياتي، رغم أنني لم أتسبب لهم في أي ضرر. كانوا يريدون أن يسقطوا فلانا أو فلانا؛ فإذا بهم يسقطونني أنا ويغلقون باب الرزق أمام ثلاثين موظفا كانوا يعملون بشركتي، ولا أعلم كيف يدبرون أقوات عائلاتهم الآن بعد موجة الغلاء الأخيرة. ماذا أقول لك عما يمكن للحياة في هذا البلد أن تفعل بك؟ الحياة هنا خطرة يا ياسين، الحياة هنا كالتدخين، ضارة بالصحة وتسبب الوفاة.

أجاب الثاني بنبرة فضول: هل فكرت في الهجرة؟

ابتسم الأول وقال بلهجة محبطة: لا يمكنني الهجرة في عمري هذا. كما لا تستطيع أنت الحياة هنا، لا أستطيع أنا كذلك الحياة في كندا، لقد سافرت عدة مرات إلى الخارج، ورأيت بعض البلدان العربية والأجنبية، لكنني رأيتها كعابر سبيل يمر بها لعدة أيام ثم يغادر، لا أعرف كيفية الحياة في هذه البلدان، ولا أعرف شيئا عن التفاصيل اليومية الكثيرة التي يتوجب على المرء التعامل معها، ولا أظنني أستطيع في عمري هذا ترك الحياة التي تعودت عليها لثمانية وأربعين عاما، والبدء من جديد في عالم آخر. كانت الهجرة بالنسبة لي حلما قديما لم يعد صالحا للتحقق الآن، وأنا متعايش تماما مع هذه الحقيقة، بالضبط كما كنت أحلم في طفولتي باللعب لنادي الزمالك، بعض الأحلام يصبح ببساطة غير قابل للتحقق بعد سن معين، أنا باختصار مثبت هنا بالمسامير، وقد قررت منذ سنوات أنني سأنجح هنا مهما كلفني الأمر.

أجاب الثاني في تفهم وتعاطف: معك حق، أفهم ما تعنيه جيدا. يمكن للناس النجاح إذا أرادوا ذلك بالتأكيد، لكنك على الأقل معتاد على الظروف هنا، وتستطيع التعامل معها كما فعلت طيلة تلك السنوات، لكنني أنا لا أستطيع ذلك؛ لقد أصبحت أحضر إلى مصر كالسياح، أقيم لبضعة أيام في فنادق باهرة الجمال في شرم الشيخ أو مرسى مطروح أو الجونة، ألتقط بعض الصور الرائعة حقا، ثم أنشرها على تطبيقات التواصل الاجتماعي لأجد سيلا من التعليقات من الزملاء والمعارف في شتى البلدان، يستغربون كيف أترك بلدا ساحرا كالذي يرونه في تلك الصور؛ لأعيش في مدينة كئيبة لا تشرق عليها الشمس مثل تورونتو، لم أعد أزور الإسكندرية أو القاهرة إلا للضرورة، أما فيما عدا ذلك فقد أصبحت غريبا بالكامل عن هذا البلد، وذلك إحساس بالغ القسوة لو كنت تدرك ما أقصد، أستقل سيارة أجرة فلا يمكنني تخمين حدود ما يجب أن أدفع، لا أعرف سعر زجاجة الماء أو عبوة المياه الغازية، ولا أستطيع حتى أن أخمن ذلك لأنني عندما غادرت هذه المدينة كانت الورقة ذات العشرة جنيهات ما زالت تعتبر مبلغا ذا قيمة! هل تعرف معنى أن تختفي ذكرياتك كلها؟ تاريخك كله يتم مسحه بنفس البساطة التي تمسح بها الصور غير المهمة من هاتفك المحمول، جذورك التي كانت ضاربة في عمق الأرض منذ أعمار وأعمار تجدها فجأة معلقة في الهواء. أنا لست كنديا يا ياسين، ولن أكون في يوم من الأيام! كندا هذه رغم ما فيها من مميزات، ورغم أنني أحمل جنسيتها لكنها ليست وطني مهما عشت فيها، ربما تكون وطنا لأبنائي أو لأبنائهم بعد ذلك، لكنني لا أريد أن أدفن هناك، وقد سجلت ذلك كتابة في وصية قانونية أطلعت بناتي عليها! أنا الآن بلا وطن، لا أجد نفسي هنا، ولا أجد نفسي هناك، أتفهم؟

ساد صمت طويل هذه المرة، طال الصمت حتى لم يقطعه أي حديث بعد ذلك، غرق كل منهما تماما في أفكاره، في ذلك العمر الذي مضى وكيف مضى، في تلك السنوات الضبابية الغائمة التي لا يدرك ما كان يفعل فيها بالتحديد، سنوات تبدو منسية، لا يميزها شيء، وكأنما ابتلعها ثقب أسود، تلك الأعوام ما بين صخب الشباب وضجيج الحياة بكل عنفوانها، وبين الركود المميت الذي يقبع فيه الآن، تلك السنوات الجرداء الخالية من الذكريات المميزة وكأنها لم تكن، سنوات لم تضف إليه إلا بعض الشيب والكثير من الدهون، سنوات الثقب الأسود التي لا يكاد يذكر حدثا هاما مر به فيها، بينما لم يزل يحمل تلالا من الذكريات والتفاصيل عن السنوات السابقة لها، وقت أن كان حيا بحق، وقت أن كانت حركته لا تسكن، وعقله لا يتوقف عن التفاعل مع كل صغيرة وكبيرة، وقت أن كان بإمكانه ممارسة الحماقات وارتكاب الأخطاء. هل صنعت تلك السنوات أي فارق يذكر في حياته؟ هل كان شعوره بها سيختلف إن سافر إلى الخارج أو ظل في مصر، إن تزوج فريدة أو تزوج غيرها أو إن لم يتزوج قط، إن عمل في وظيفة ثابتة أو أسس عمله الخاص؟ أليست النتيجة هي ذاتها بشكل أو بآخر كما هو حال ذلك الشخص الآخر الواقف أمامه والذي يبدو مثله كهلا حزينا؟ أليست هي ذات الدوامة وهو نفس الثقب الأسود؟ هل كان له حق الاختيار من الأساس، أم أنه قدر لا مفر منه؟ هل كان سيغير اختياره إن أتيح له ذلك؟ وهل كان القدر ليتغير بالتبعية؟ ما الهدف إذن؟ ما الغاية من كل ذلك؟ أليست هي من الأصل لعبة روليت كبيرة؟ يولد طفل ما لأب سويسري يمتلك مصنعا للشوكولاتة، ويقضي أمسياته في الاستماع إلى سيمفونيات شتراوس على ضفاف بحيرة هادئة وسط جبال الألب الخضراء، بينما يولد طفل آخر في ذات اللحظة لأب أمي لا يجد قوت يومه في كشك خشبي فوق مستنقع تفتك به الأمراض المعدية في بنجلاديش. لم يختر أي منهما أين يولد أو لأي أبوين، ثم يحاول أحد مرتدي ربطات العنق الأنيقة في قناة فضائية ما إقناعنا بنظرية تكافؤ الفرص، أو يستميت رجل دين ما في إثبات نظرية متهافتة عن أن كل إنسان يحصل على حظه في هذه الحياة على هيئة أربعة وعشرين قيراطا، قد يكون بعضها صحة وبعضها مالا وبعضها ذرية وبعضها ذكاء إلى آخر تلك الترهات. كيف يمكن أن يكون هذان المولودان في ذات اللحظة قد حصل كل منهما على نصيب مماثل للآخر؟ هذه الحياة ظالمة بالتأكيد، عرف ذلك منذ زمن، وأراد أن يعتاد عليه كما يطالبه بيل جيتس في عبارته الشهيرة. لكنه لم يستطع؛ ربما لأنه ليس بيل جيتس، وربما لأنه لا يريد الاعتياد على حياة ظالمة! •••

على رصيف المحطة العتيقة التي تستقبل بصخبها وزحامها القادمين إلى المدينة وكأنما تمهد لهم ما سيكابدونه فيها، كأنما تمنحهم لمحة مبسطة عن صخب وضوضاء تلك البقعة من الأرض التي وطئتها للتو أقدامهم؛ كي لا يباغتهم ذلك دونما تمهيد مسبق، على رصيف تلك المحطة كان يقف ذلك الشاب المتعب رافعا في سأم ورقة بيضاء طبع عليها بحروف واضحة كبيرة اسم «ياسين عمران». كان كلاهما في الحقيقة يتوقع أن ينتظره شخص ما ليصطحبه إلى الوجهة التي يقصدها؛ يتوقع الأول من يصطحبه إلى الميناء حيث مكتب الشركة اليونانية التي حضر لمقابلة مديرها الإقليمي لمناقشة خطة الاندماج المقترحة مع الشركة التي يعمل بها، بينما يتوقع الثاني من يأخذه إلى مطار برج العرب حيث يستقبل زوجته وأبناءه القادمين مع جدهم وجدتهم لأمهم من شرم الشيخ بعد أن قضوا بصحبتهما هناك أسبوعا، قبل أن يصطحبهم عائدين إلى القاهرة التي يطيرون منها في الصباح الباكر إلى تورونتو في رحلة طويلة، يتوقفون خلالها لأربع ساعات في مطار فرانكفورت.

Bog aan la aqoon