فأما الذي هو شوق النوى
فمسرى الدموع لطول نواك
وأما اشتياقي لقرب الحمى
فنار حياة خبت في ضياك
ولست على الشجو أشكو الهوى
رضيت بما شئت لي في هداك
شعر رابعة العدوية (713-801م)
يناير 2015م
أمام طاولة طويلة في قاعة الاجتماعات الرئيسية بمكتب الشركة العالمية التي يعمل بها، جلس يتأمل وجوه الحاضرين وهو شارد الذهن لا يكاد يتبين شيئا مما يتجادلون حوله ، عشرة أشخاص ما بين رجال ونساء في أزياء رسمية جادة يلتفون حول طاولة خشبية فاخرة، يبرز أمام كل من الكراسي الجلدية المتراصة حولها مقبس للكهرباء، ومخرج لتوصيل الأجهزة المختلفة بالشاشة الكبيرة عالية الدقة المعلقة في صدر القاعة، بينما يحتضن الجميع عبر الواجهة الزجاجية التي تحتل كامل المساحة خلفهم مشهد النيل وجسوره المتعددة، ومن ورائه البنايات العالية المطلة عليه، والكتلة العمرانية اللانهائية للقاهرة الكبرى تمتد إلى حدود الأفق. تأمل وجوه الحاضرين العشرة وحركاتهم وانفعالاتهم وردود أفعالهم، ثم فكر كم أن حياته وحياتهم جميعا تشبه فيلما سينمائيا كبيرا، يمثل كل باب منزل فيه عامل الكلاكيت الذي يعلن بدء المشهد التمثيلي لكل يوم، يستيقظ الجميع على صوت المنبه ليبدأ كل منهم في تمثيل دوره الذي حفظه وأتقنه من جراء التكرار اليومي، يهرع الجميع من أسرتهم ليلحقوا بمشاهدهم، يقوم كل ممثل إلى الحمام ليجهز نفسه، يغسل وجهه ويفرش أسنانه ويزيل رائحة النوم من فمه، ثم يرتدي زي الشخصية التي يمثلها؛ إما البدلة ورباط العنق، أو الزي العسكري، أو زي مضيفة الطيران، أو طاقم التدريب الذي يحمل شعار النادي، كل على حسب دوره في الفيلم. ثم يأتي دور المكياج، اللمسات النهائية التي يضعها الممثلون على هيئتهم في غرف الملابس؛ من تصفيف للشعر، ورش للعطر، ورسم للعيون، وطلاء للأظافر، وتهذيب للحية، وضبط للحجاب أو النقاب. ثم الإكسسوارات الضرورية لكل شخصية؛ كالساعة والنظارة وأقراط الأذن. لا بد من مراعاة كل تلك التفاصيل الصغيرة بعناية قبل الظهور أمام الجمهور، ثم يفتح كل منهم باب منزله فيعلن عامل الكلاكيت بداية مشهد جديد من الفيلم. يبدأ الجميع بالتمثيل، يتسابقون في إظهار مواهبهم في تقمص الدور، يقضي كل منهم يومه منهمكا في التظاهر؛ إما التظاهر بالعمل، أو بالتعاطف، أو بالاهتمام، أو بالكفاءة، أو بالإنسانية. يحب معظم الناس أدوار الملائكة والقديسين والأبطال، قليلون هم من يرتضون بأدوار البشر البسطاء العاديين. يروق لياسين من حين لآخر مراقبة تلك المسابقة التمثيلية اليومية التي يشارك هو ذاته فيها مرغما في معظم الأحيان، أو راغبا في أحيان أخرى، يجاهد ليخفي ابتسامة عندما يتابع أحد تلك المشاهد التمثيلية وهو يدور على مقربة منه. في العمل أو في السوبرماركت أو في إشارة المرور، ممثل يبذل قصارى جهده ليبدو مقنعا في دور الحكيم المتفهم أمام ممثلة لا تبدو متمكنة كثيرا من أدواتها حين تؤدي دور المضطهدة، ممثل تفضحه نظراته الجائعة حين يؤدي دور الزاهد العابد. فريق تمثيل متدرب جيدا على أداء أدوار المريدين المنبهرين بعبقرية ممثل أعلى منهم منصبا يؤدي دور العلامة الخبير باحترافية شديدة تجعلك تكاد تقف مصفقا، ليس فقط لقدرته ولكن لجرأته على ادعاء ما ليس فيه. الجميع يمثلون، ويعلم الجميع أنهم يمثلون، ويدرك الجميع أن الآخرين كذلك يمثلون، لكن ثمة اتفاق غير معلن بين الجميع على التواطئ المتبادل. يتقمص كل منهم شخصيته طالما بقي مرتديا القناع الذي يمثلها، بعض الممثلين بارعون لدرجة النجاح في تقمص أكثر من شخصية، والتبديل بين أكثر من قناع، والغالبية الباقية محدودو الموهبة، يؤدي كل منهم دوره اليومي بالكاد، ثم ينزوي مبتعدا عن موقع التصوير ليعود لشخصيته الحقيقية؛ فيتحول الموظف الروتيني البغيض الذي يتلذذ بتعذيبك بين دهاليز مصلحة حكومية ما، إلى رجل متعب يتابع مباراة محلية في كرة القدم، مستلقيا في ضجر بجانب طبق نصف ممتلئ بحبات الجوافة على أريكة غير مريحة في غرفة جلوس ذات حوائط بنفسجية اللون. وتنقلب موظفة الاستقبال الودودة ذات الابتسامة الدائمة في وجوه الجميع إلى ربة منزل تختبر درجة حفظ طفليها لدروس الدراسات الاجتماعية واللغة العربية مرتدية إسدال الصلاة، وهي تشارك في تعليقات النميمة مع قريباتها على فيسبوك، بينما تلوح أمام وجهي الصغيرين بالملعقة الخشبية الكبيرة التي باتت تستخدمها كعصا أكثر مما تقلب بها الطعام.
لقد سئم هذا الفيلم الذي لا ينتهي، مل من تمثيل الدور ذاته كل يوم منذ أن يفتح باب بيته - لحظة الكلاكيت - حتى يعود في المساء منهكا من التظاهر والتمثيل، أكثر منه منهكا من العمل ذاته. لكن الجميع يمثلون، فهل يخرج هو وحده عن ذلك الإجماع؟ هل يواجه هؤلاء الجالسين أمامه حول طاولة الاجتماعات بأنهم بائسون ومفتعلون وكاذبون؟ أغلب الظن أنهم يعلمون تلك الحقيقة جيدا، لكنهم متعايشون معها طالما بقيت غير معلنة؛ أنت في مأمن طالما بقيت ضمن القطيع، أنت في مأمن من نظرات الاستهجان ومن أصابع الاتهام ومن مشانق المنافقين، أنت تملك صك النجاة طالما أبقيت فمك مغلقا، وعقلك كذلك، طالما بقيت تضحك على ما يضحك أفراد القطيع، وتستنكر ما يستنكرون، تأكل ما يعجبهم، وترتدي ما يروق لهم، وتنام على الجانب الذي يريحهم، تتبع خياراتهم، وتخضع لأحكامهم، وتصدق خرافاتهم، وتطوف حول أصنامهم، لا تعني شيئا درجة اقتناعك بما هم مقتنعون به، لا جدوى من سؤالك عمن فرض عليهم فروضهم، وعمن سن لهم عاداتهم. إذا رأى القطيع أن هذا نابغة فهو نابغة، وإذا وصموا تلك بأنها عاهرة فهي كذلك، أما مجادلتك إياهم بخصوص المعايير التي يضعون بها أي شخص في أي خانة فلا محل لها؛ لن تستطيع أن تدرك مثلا لماذا اعتبروا من تتاجر بجسدها عاهرة، ومن يتاجر بأرواح الآخرين زعيما. فلتصمت إذن ولتتبع القطيع، لتترك موسيقاك وأحلامك وقصائدك وليلتك المقمرة الساحرة، ولتذهب إلى فراشك مبكرا لتستيقظ مبكرا، فبمجرد أن يدق عامل الكلاكيت، لا بد للمشهد من أن يبدأ، ولا بد لك من أن تؤدي دورك؛ فلا يمكن أن يتوقف الفيلم من أجل ممثل صغير لا يلتزم بالمواعيد التي فرضتها الأغلبية.
Bog aan la aqoon