سكرت وتهت عن حسي ونفسي
وملت برشف راحي عن زماني
وقد كلفت كتم السر حتى
شربت فباح عن سري لساني
ولا لوم علي ولا عتاب
فعشق جمال حسنكمو علاني
شعر محمد ماضي أبو العزائم (1869-1937م)
أتاحت له الأيام القليلة التي قضاها في القرية وقتا كافيا وذهنا صافيا للتأمل، ولتقييم موقفه من الحياة ومن العمل ومن الناس، كان في حاجة إلى الابتعاد قليلا عن الإسكندرية وعن الشركة وعن الأصدقاء وعن روتينه اليومي هذا بأكمله، وحتى عن فريدة ذاتها، لكي يمكنه رؤية مجمل حياته بوضوح كما يرى تلك النجوم البعيدة في ظلام السماء. •••
صار الآن وحيدا في تلك الشقة العتيقة، ينام بمفرده على نفس السرير بنفس الغرفة كما اعتاد أن يفعل طيلة أربع وعشرين سنة هي كل عمره، لكنه منذ تلك الليلة لم يفارقه الشعور بالبرد، مهما تدثر بالأغطية، ومهما أحكم إغلاق النوافذ، ومهما دس الملاءات القديمة تحت عتبات أبواب الشرفة، لم يكن باستطاعته الإحساس بدفء البيت كما كان يعرفه، كانت رطوبة الشتاء تنشع من تربة الأرض تحت قدميه عبر بلاط الأرضية البارد، وكان يلحظ ذلك للمرة الأولى، لم ينتبه طوال سنوات العمر تلك كلها إلى برودة تلك الشقة وإلى وحشة الظلمة فيها أثناء الليل، ربما كانت أنفاس أبويه هي ما يد تلك الشقة العتيقة الباردة، ربما كانت تلاوة أبيه المسائية المعتادة للقرآن هي ما يسكن تلك الوحشة، كان ينسل من فراشه عندما تبلغ البرودة ذروتها قرب بزوغ الفجر ليندس في فراش أبويه، ويدثر جسده بلحافهما الأخضر الأثير ذي الغطاء القطني الزاخز بزهور صفراء كبيرة، فيغرق حتى الصباح في نوم عميق لا تؤرقه برودة أو رطوبة. كان يستيقظ في دفء فراش والديه ليجهز نفسه ليوم عمل جديد، وهو يدرك أنه قد أصبح منذ الآن بمفرده في هذا العالم، وأن عليه أن يتعايش مع هذه الحقيقة، لم يعد لديه ذلك الجدار الصلب الذي يمكنه أن يستند إليه عندما يترنح تحت ضربات الأيام، ولم يعد لديه ذلك الحضن الدافئ الذي يمكنه أن يلقي فيه بروحه عندما تشتد عليها الجراح.
عندما عاد من القرية كانت مدام كوستا قد ماتت كذلك، لم يجدوا في بيتها حين دخله ورثتها من الأقارب البعيدين أصحاب تلك السيارة الأمريكية الكبيرة قديمة الطراز سوى الكثير من أصص النباتات؛ نباتات متنوعة في أصص مختلفة الأحجام تحتل كل الغرف، كانت كلها في حالة جيدة ومعتنى بها باهتمام بالغ.
Bog aan la aqoon