(1) العتمة : صلاة العشاء 51 - سمعت إسحاق بن إبراهيم ، يقول : قال ابن المبارك ، « كان أبو حنيفة C يتيما في الحديث » 52 - حدثني علي بن سعيد النسوي ، قال : سمعت أحمد بن حنبل : « يقول لهؤلاء ، أصحاب أبي حنيفة : ليس لهم بصر بشيء من الحديث ، ما هو إلا الجرأة » قال محمد بن نصر : فاحتج له بعض من يتعصب له ليموه على أهل الغباوة والجهل بالخبر الذي ذكرنا عن النبي A أنه قال : « إن الله زادكم صلاة ، وهي الوتر » فزعم أن قوله : « زادكم صلاة » دليل على أنه فريضة . فيقال له : هذا حديث لا يثبته أهل العلم بالأخبار ، ولو ثبت ما كان فيه دليل على ما ادعيت ، وذلك أن الصلاة أنواع ، منها فريضة مكتوبة مؤكدة ، وهي الصلوات الخمس بإجماع الأمة على ذلك ، ومنها سنة ليست بفريضة ، ولكنها نافلة مأمور بها ، مرغب فيها ، يستحب المداومة عليها ، ويكره تركها ، منها الوتر وركعتان قبل الفجر ، وما أشبه ذلك ، ومنها نافلة مستحبة وليست بسنة ، ولكنها تطوع ، من عمل بها أثيب عليها ، ومن تركها لم يكره له تركها ، فقوله A : « إن الله زادكم صلاة » ، و « إن الله أمدكم بصلاة » إن ثبت ذلك عنه ، فإنما يعني : زادكم وأمدكم بصلاة هي سنة من سنن رسول الله A غير مفروضة ولا مكتوبة . والدليل على ما قلنا الأخبار الثابتة التي ذكرناها عن النبي A أن الصلوات المكتوبات الموظفات على العباد في اليوم والليلة هي خمس صلوات ، وما زاد على ذلك فتطوع ، ثم اتفاق الأمة على ذلك أن الصلوات المكتوبات هي خمس لا أكثر . ودليل آخر ، وهو وتر النبي A بثلاث ، وبخمس ، وسبع ، وأكثر من ذلك ، فلو كان الوتر فرضا لكان موقتا معروفا عدده ، لا يجوز أن يزاد فيه ولا ينقص منه ، كالصلوات الخمس المفروضات ، وأحاديث رسول الله A وأصحابه على خلاف ذلك ؛ لأنهم قد أوتروا وترا مختلفا في العدد ، وكره غير واحد من الصحابة والتابعين الوتر بثلاث بلا تسليم في الركعتين كراهة أن يشبهوا التطوع بالفريضة . ودليل ثالث : وهو أن النبي A أوتر على راحلته ، قد ثبت ذلك عنه ، وفعله غير واحد من الصحابة والتابعين ، وقد أجمعت الأمة على أن الصلاة المفروضة لا يجوز أن تصلى على الراحلة ، ففي ذلك بيان أن الوتر تطوع وليس بفرض ، ودليل رابع : هو أن الوتر يعمل به الخاص والعام من المسلمين في كل ليلة ، فلو كان فرضا لما خفي وجوبه على العامة ، كما لم يخف وجوب الظهر والعصر والصلوات الخمس ، ولنقلوا علم ذلك ، كما نقلوا علم صلاة المغرب وسائر الصلوات أنها مفروضات ، وقد توارثوا علم ذلك بنقله قرنا عن قرن ، من لدن النبي A إلى يومنا هذا ، لا يختلفون في ذلك ، ولا يتنازعون ، فلو كان الوتر فرضا كسائر الصلوات ، لتوارثوا علمه ، ونقله قرنا عن قرن كذلك . كيف ، وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم قالوا : الوتر تطوع وليس بفرض . منهم : علي بن أبي طالب ، ولا يجوز أن يكون مثل علي يجهل فريضة صلاة من الصلوات يحتاج إليها في كل ليلة ، حتى يجحد فرضها ، فيزعم أنها ليست بحتم ، من ظن هذا بعلي فقد أساء به الظن ، وكذلك سائر الصحابة وجماعة من التابعين ، قد روي عنهم مفسرا أن الوتر تطوع « 53 - عن جرير بن حازم ، سألت نافعا ، أكان ابن عمر ، يوتر على راحلته (1) ، فقال : « نعم ، هل للوتر فضيلة على سائر التطوع » وعن واصل بن عبد الرحمن ، قال : صحبت ابن عباس ، « فما أوتر في سفر قط » وسئل سفيان بن عيينة عن الوتر واجب هو ؟ ، فقال : « لو كان واجبا لم تسألني » قال : فقال قائل من ضعفة أهل الرأي : الدليل على أنه فرض أن في حديث حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، قال : جاء جبريل بالوتر إلى النبي A ، قال : وجبريل لا يأتي إلا بالفرض ، فيقال له : هذا خبر غير ثابت عند أهل المعرفة بالأخبار ، ومع ذلك لا دليل فيه على ما قلت ، قد كان جبريل ينزل على رسول الله A بآيات من القرآن ، أمره فيها بأمور لا اختلاف بين العلماء أن العمل بها تطوع ، فإذا جاز أن يكون فيما جاءه به من القرآن أمور العمل بها تطوع ، فما جاءه به مما ليس بقرآن فهو أحرى أن يجوز أن تكون منه تطوعا ، ذلك قول الله تعالى : ( ومن الليل فسبحه وأدبار السجود (2) ) ، فاتفق عامة أهل العلم بالتفسير على أنهما الركعتان بعد المغرب . ومن ذلك قوله : ( ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم (3) ) ، فقالوا : هما الركعتان قبل صلاة الغداة ، وقد قال بعضهم : هو التسبيح في أدبار الصلوات ، وكل ذلك تطوع عن مجاهد ، ( وأدبار السجود ) قال علي : « الركعتان بعد المغرب » وقال ابن عباس : « التسبيح بعد الصلاة » وفي رواية : « التسبيح في أدبار الصلاة » وعن عقبة بن عامر « لما نزلت : ( فسبح باسم ربك العظيم (4) ) ، قال رسول الله A : » اجعلوها في ركوعكم « ولما نزلت : ( سبح اسم ربك الأعلى (5) ) ، قال رسول الله A : » اجعلوها في سجودكم « وأصحاب الرأي لا يختلفون في أن التسبيح في الركوع والسجود تطوع ، فإذا كان ما نزل به كتاب الله وسنة رسول الله A يجوز أن يكون تطوعا ، فما لم ينزل به كتاب الله أحرى أن يجوز أن يكون تطوعا » وعن سفيان : « الوتر ليس بفريضة ، ولكنه سنة ، إن شئت أوترت بركعة ، وإن شئت بثلاث ، وإن شئت بخمس ، وإن شئت بسبع ، وإن شئت بتسع ، وإن شئت بإحدى عشرة ، لا تسلم إلا في آخرهن . وعن ربيعة : » لا أرى عليك قضاء الوتر إذا نسيته ، وما نعلم الوتر إلا ركعة ، وإن صليت بعد العتمة ركعتين فعليك الوتر ، وإن لم تصل بعد العشاء الآخرة شيئا فلا وتر عليك إلا أن تصلي ، وذلك للمغمى عليه والمسافر الذي لا يوتر ولا يصلي بعد صلاته « قال محمد بن نصر : يذهب من ذهب مذهب ربيعة إلى أن الوتر إنما جعل ليوتر الرجل به صلاته بالليل ، ولا يتركها شفعا ، ليس له معنى غيره ، فإذا فاتته صلاة الليل ، بأن نام أو شغل عنها ، لم يقض الوتر ؛ لأن المعنى الذي جعل له الوتر قد فاته ، إذ فاته قيام الليل ، فلا وجه لقضائه بعد الفجر ، ويحتج بحديث عائشة : أن النبي A كان إذا نام من الليل من وجع أو غيره فلم يصل بالليل ، صلى بالنهار اثنتي عشرة ركعة ، ولم يجئ عنه أنه قضى الوتر ، ومن ذهب إلى هذا جعل ركعتي الفجر أوكد من الوتر ؛ لأن النبي A لما نام عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس قضى الركعتين بعد طلوع الشمس قبل المكتوبة ، ولم نجد عنه في شيء من الأخبار أنه قضى الوتر . قال : وزعم النعمان في كتابه أن النبي A قضى الوتر في اليوم الذي نام عن الفجر حتى طلعت الشمس ، فزعم أنه أوتر قبل أن يصلي ركعتي الفجر ، ثم صلى الركعتين ، وهذا لا يعرف في شيء من الأخبار . وقد احتج بعض أصحاب الرأي للنعمان في قوله : إن الوتر لا يجوز بأقل من ثلاث ولا بأكثر ، بأن زعم أن العلماء قد أجمعوا على أن الوتر بثلاث جائز حسن ، واختلفوا في الوتر بأقل من ثلاث وأكثر ، فأخذ بما أجمعوا عليه وترك ما اختلفوا فيه ، وذلك من قلة معرفة المحتج بهذا بالأخبار واختلاف العلماء . وقد روي في كراهة الوتر بثلاثة أخبار ، بعضها عن النبي A ، وبعضها عن أصحاب النبي A والتابعين ، منها
__________
(1) الراحلة : البعير القوي على الأسفار والأحمال، ويقع على الذكر والأنثى
(2) سورة : ق آية رقم : 40
(3) سورة : الطور آية رقم : 49
(4) سورة : الواقعة آية رقم : 74
Bogga 68