على أنه لم يخطر ببال أبي الحسن شيء من ذلك، لكن إشراق الطبيعة أذكره ماضيه وأوضح له ما هو فيه فازداد انقباضا. ومكث برهة يفكر وهو في غلفة عن زقزقة العصافير وتطايرها ومداعباتها، وليس فيها من يخاف الفشل؛ لأنها لا تطلب من الطبيعة غير ضروريات البقاء وهي ميسورة. أما الإنسان فمن مطالبه ما لا ينال إلا بالجهد والعناء، وهو لا يبالي أن يرتكب في سبيل نيله أنواع المحرمات.
وبعد السكوت مدة نبهته حشرة انسابت بجانبه بين العشب فالتفت إلى ما يحدق به من جمال الطبيعة وبهائها فاتضحت له الظلمة التي هو غارق فيها. ومر تاريخ حياته في خاطره مرور السهم فلم يزدد إلا انقباضا، وتبين أن سبب هذا الشقاء إنما هو رفض سيدة الملك له فاشتدت نقمته عليها، واغتنم غياب خادمه وأخذ يحدث نفسه قائلا: «ويل لتلك اللعينة! تفضل ذلك الغلام علي؟ أما كان الأفضل لها أن يكون أبو الحسن زوجها ويبقى هذا الملك لنا. كنت قادرا أن أقتل صلاح الدين ولم أفعل؛ لأني أريد أن أستثمر تعبي لنفسي لا أن يستغله سواي. علمت أنها تشك في صحة نسبي ولا تعتقد أني من بني عبيد الله. نعم لست منهم، ولكن شرف النسب ليس سوى وهم. إنما الرجال بالأعمال، وقد انتحلت ذلك النسب لأن الناس يحترمونه. وظننته يكون وسيلة إليها وإلى الملك، فلما أوشكت أن أصل إلى الغرض عرقلت مساعي بغطرستها وتعلقها بذلك الخادم!»
ثم أجفل لسقوط مشمشة وقعت على الحشيش اليابس فأحدثت حفيفا فتحولت أفكاره إلى مجرى آخر فتذكر صباه فقال: «وأنت يا راشد الدين، قد آن الوقت لأستعين بك على هذه الفاجرة، لا لأتزوجها بل لأذيقها العذاب ثم أريها رأي العين سوء تصرفها فتندم حين لا ينفعها الندم.» وكأنه عزم على أمر توسم النجاح فيه فارتاح باله وانقشعت عنه السويداء، وقد أحس بالجوع فالتفت إلى ما حوله فلم يجد أحدا فصفق للخادم وناداه فأتى فأوعز إليه أن يأمر البستاني أن يهيئ له طعاما وفاكهة، وبعد أن أكلا عاد إلى تدبير ما عزم عليه. •••
علمت من سياق الحديث أن عماد الدين لاقى في سفره عذابا؛ إذ قبض عليه الإفرنج بقرب بيت المقدس لاعتقادهم أنه جاسوس وسجنوه مدة تعرف في أثنائها إلى جرجس كما تقدم. ولم يكن جرجس مسيحيا كما قال وإنما هو من كبار الفدائيين الإسماعيليين، واسمه الحقيقي عبد الرحيم بعثه راشد الدين لقتل أموري الإفرنجي صاحب بيت المقدس. فتنكر باسم جرجس واحتال حتى جعلهم يقبضون عليه ويسجنونه ليتمكن في أثناء سجنه من التعرف إلى صغار أهل البلاط ويطلع على خفايا القصر بحيث يسهل عليه الوصول إلى غرضه. وعدة أولئك الفدائيين في تنفيذ أمر مولاهم راشد الدين أن أحدهم إذا كلف بقتل أحد الملوك جعل نفسه من أصغر خدمه. والغالب أن يجعل نفسه سائسا لجواده ليتيسر له الاقتراب منه عند الركوب والنزول فيغتنم غفلة منه ويغرس في قلبه خنجره.
ففي أثناء إقامة عبد الرحيم (أو جرجس) هذا في السجن تعرف إلى عماد الدين وأحبه وتمكنت العلائق بينهما، فكاشفه عبد الرحيم بحقيقته، وكيف أنه مسلم وأنه احتال بالسجن ليتوصل إلى غرضه ويقتل صاحب بيت المقدس بإشارة مولاه راشد الدين، وأخذ يرغبه في هذه الطائفة وقبالة مقاصدها وشدة تأثيرها، فحمد عماد الدين السبب الذي جره إلى ذلك السجن؛ لأنه كان وسيلة إلى هذا التعرف وسهل عليه مهمته. فأظهر ارتياحه لذلك الرأي ووعده بأن ينتظم في سلك الإسماعيلية بعد خروجه من السجن، وهو يضمر أن يجعل ذلك الانتظام وسيلة لتنفيذ مهمته التي جاء من أجلها لقتل راشد الدين. وبذل جهده في اكتساب ثقة عبد الرحيم وأطاعه في تغيير اسمه فجعله عبد الجبار.
ولما كانت أيام السجن طويلة؛ لأنها خالية من العمل فيمل المسجونون الفراغ ويضطرون لقضاء الوقت بالأحاديث أو الألعاب، فقد أخذ عبد الرحيم يقضي معظم الوقت في التحدث عن راشد الدين وكراماته ومقدرته، وكيف أنه يعلم الغيب ويتنبأ عن المستقبل، ويحدث الأحجار ويأتي بالمعجزات. وأنه يفعل ذلك لا لطمع في الدنيا وإنما هو ينصر الإسلام. واستشهد على صحة قوله بالمهمة التي أتى فيها لقتل صاحب بيت المقدس. وكان كلما ذكر راشد الدين ثارت الحمية فيه وهاجت عواطفه وأصبح كله ألسنة تنطق بفضائله. فكان لأقواله مع التكرار تأثير في عماد الدين فأصبح يرى وجود راشد الدين قوة عظيمة يمكن الاستعانة بها على الإفرنج إذا تمكن من اكتساب صداقته. على أن ما سمعه من معجزات ذلك الرجل وكراماته وعن جنته وسمائه حبب إليه الاطلاع على حقيقة ذلك.
تمكنت هذه الصحبة بينهما، ثم انتهت أيام عبد الرحيم في السجن وخرج وأهل البلاط يحبونه ويرون في وجوده نفعا لهم؛ لأنه مسيحي يعرف لغة البلاد وعاداتها. فقربوه وهو يبذل جهده في مرضاتهم توصلا لغرضه، فلما دارت المخابرة بين الحزب العبيدي في القاهرة وبين الإفرنج وانتهت بإرسال الوفد اختاروه ليكون دليلا. فذهب لوداع عماد الدين، وعهد إليه هذا فيما تقدم ذكره، فبذل جهده في خدمة صديقه رغبة في إدخاله سلك الإسماعيلية؛ لأنه آنس فيه من الشجاعة والذكاء ما يندر مثاله وهم في حاجة إلى الشجعان.
فلما عاد من تلك المهمة توسط في إخراج عماد الدين من السجن، وأبلغه ثمرة كتابه إلى صلاح الدين، وكيف أنه قبض على المتآمرين وقتلهم صلبا إلا أبا الحسن فإنه نجا. ثم دفع إليه كتابا من صلاح الدين يثني فيه على حميته، وصدق مودته.
ثم أطلعه على ما عرفه عن سيدة الملك، ودفع إليه كتاب ياقوتة والجواهر، فتناولها وأعطى جانبا منها إلى صديقه عبد الرحيم فازداد تعلقا به - وليس من شيء كالسخاء يحبب صاحبه إلى الناس مهما يكن فيه من العيوب. حتى جرى على ألسنة العامة قولهم «ما من عيب إلا والكرم غطاه.» فكيف إذا كان الكريم قليل العيوب أو لا عيب فيه، ولو علم الأغنياء ما يغطيه الكرم من عيوبهم لكرهوا البخل وبعدوا عنه، وكما يذهب الكرم بعيوب الأغنياء فالبخل يلصق بهم عيوبا ليست فيهم.
وأسرع عماد الدين إلى كتاب ياقوتة فقرأ فيه قولها:
Bog aan la aqoon