فقالت: «تسألني سؤالا أنت أولى بالجواب عليه؛ لأن مفاتيح القصر بيدك وقد سددت علينا الطرق والنوافذ، فإذا دخل غريب علينا فأنت المسئول.» قال: «لم يدخل أحد من باب القصر.» قالت: «هل هبط من السماء؟» قالت ذلك بغضب. فقال: «لا تغضبي يا سيدتي، إنما أتصدى للسؤال حرصا على كرامة سيدة الملك وعملا بأمر أمير المؤمنين.» فضحكت ضحكة استهزاء وغضب وقالت: «ما أحرصكم على أوامر أمير المؤمنين وكرامة أخته! من أنبأك بدخول الرجال إلينا خلسة؟» فخجل بهاء الدين من هذا التوبيخ وندم على تسرعه وقال: «لم أقل شيئا من ذلك يا سيدتي، ولكنني أقول ما بلغني ولم أسمع من رجل حقير أو جاهل.»
فقطعت كلامه وقالت: «مهما يكن من أمر الذي بلغك فإنه نذل كاذب، هذا هو قصري ابحث فيه عمن شئت.» قالت ذلك وتحولت من القاعة نحو غرفتها والحاضنة تهرع في أثرها وقلبها يرقص فرحا للنجاة من تلك التهمة الشنيعة. •••
فلما خلت ياقوتة بسيدة الملك في غرفتها أكبت عليها وجعلت تقبلها وتداعبها وهي ساكتة وقد عادت إليها هواجسها ثم نهضت وقالت: «دعيني يا ياقوتة، دعيني وشأني، إني تعيسة شقية، ويلاه ما هذا البلاء! لم أكد أتوسم بابا للفرج حتى أقفلت علي الأبواب وسدت دوني السبل.» وأخذت في البكاء.
فعملت ياقوتة على التخفيف عنها وقالت: «لا تنكري نعمة الله، ألم تطمئني إلى أنه يحبك؟ وهذا ما كنت تطلبين معرفته و...»
فقطعت كلامها بغضب وقالت: «يحبني؟ هل فهمت من قوله أنه يحبني. ألم تريه كيف كان مرتبكا في أمره وكلما ذكرت له ما في نفسي حول الموضوع إلى مولاه صلاح الدين. إنه يحب مولاه فقط.» قالت ذلك ومسحت عينيها بمنديلها وهمت أن تعود إلى الكلام.
فسبقتها ياقوتة قائلة: «ولكن حبه هذا مبني على همة عالية وأريحية و...»
قالت: «وما يفيدني إذا كانت هذه المناقب فيه ولا يحبني. ثم هو مسافر في مهمة لخدمة مولاه، ولم يشأ أن يتأخر ساعة لأجلي، وأنا تركت حسبي ونسبي وعرضت نفسي لغضب أخي وسائر أهلي من أجله، فهل يدل هذا على حبه؟»
قالت: «لا شك في أنه يحبك، وقد توسمت ذلك في عينيه، لكنه شهم إذا وعد وفى. وقد أقسم أن يسافر الليلة فلا يريد أن يحنث في يمينه. وأؤكد لك أنه لو طال جلوسنا برهة لرأيت منه كل ما يسرك؛ لأنه لم يكن في أول الحديث يصدق أنك تحبينه ولم يكن يحلم بهذه النعمة. فلما دنا من الموضوع جاء الطواشي وكدر علينا أمرنا. ولكن كوني مطمئنة أنه سيعود إليك.»
فغلب عليها الأمل - والمحب كثير الريب لكنه سريع التصديق قريب الأمل - فلما سمعت قولها إنه يحبها وإنه سيعود إليها أشرق وجهها وبان الابتسام حول شفتيها، وأقبلت بوجهها نحوها وقالت: «صحيح؟ هل أنت على ثقة مما تقولين؟ هل هو يحبني؟» ثم أطرقت كأنها ثابت إلى رشدها وضمت خديها بين كفيها وقالت: «ويلاه! ماذا جرى لي؟ من أنا؟ ألست سيدة الملك العاقلة الحازمة ابنة أمير المؤمنين وأخت أمير المؤمنين من سلالة فاطمة الزهراء بنت الرسول؟ ما الذي أصابني حتى صرت كالمجنونة وأصبح قلبي أسيرا بين يدي شاب غريب لا حسب له ولا نسب، أتسقط ما يجود به علي من كلمة عطف أو تودد؟ وهؤلاء أبناء عمي الشرفاء يتمنون رضاي! لله ما أشد وطأة الحب وما أقوى سلطانه!»
فلما سمعتها ياقوتة تقول ذلك توسمت منها الرجوع إلى الصواب لعلها تنجو من لواعج الحب فبادرتها قائلة: «ألم أقل لك يا سيدتي؟ قد كنت في نعيم وراحة قبل أن ...»
Bog aan la aqoon