فلما اطمأن بالها من جهة استقدام عماد الدين خف قلقها فجلست وأمرت حاضنتها أن تجلس وقصت عليها ما دار بينها وبين أخيها من أوله إلى آخره، فأثر ذلك في رأيها ورأت سيدتها أخطأت بمقاومة الخليفة، ولكنها لم تجسر على تخطئتها فأظهرت أنها ترى رأيها على نية أن تعود إلى البحث معها في الأمر بعد قليل، فطمأنتها أنها تفعل ما تريده وغيرت الحديث وشغلتها بمهام أخرى.
الفصل الخامس
عماد الدين
قد علمت من حديث العاضد وأخته أن صلاح الدين بعث يخطب سيدة الملك شفاها، وسبب ذلك أن عيسى الهكاري لما خرج من دار العلم سار توا إلى صلاح الدين وأسرع في مقابلته على انفراد في خلوة، وتطرق في الحديث إلى خطبة أخت الخليفة وأقنعه بما تقدم من الأدلة السياسية، فاستحسن صلاح الدين رأيه واستمهله ليشاور أباه، فنهاه عن مشورته؛ إذ ربما اقتضى رأيه ملاطفة الخليفة وهم لا يرون ذلك. وذكره الهكاري بسعيه في مصلحته منذ عرفه. فقال صلاح الدين: «إننا قابضون على أزمة الدولة نفعل بها ما نشاء من عزل وتولية وغير ذلك، فكيف نطمع في الخلافة؟! وهذا لم يقدم عليه أحد قبلنا من غير العرب، وأخاف أن نطلب الزيادة فنقع في النقصان.»
فقال: «لا أعهدك ضعيف العزم يا مولاي، إذا كنت لا تعرف أحدا طلب الخلافة من غير العرب ألا يجوز أن تطلبها أنت أو تمهدها لأولادك بسبب الاقتران بأخت الخليفة؟ زد على ذلك أن سيدة الملك من أجمل النساء خلقة وأحسنهن ذكاء ودهاء. أما الخلافة فإذا طلبتها وأحوجنا النسب القرشي فإنه ميسور؛ لأن كثيرين من الصحابة القرشيين تفرقوا بالفتح ونزل بعضهم في بلاد الأكراد، فقد يكون جدك متسلسلا من أحدهم.» قال ذلك وهو يظهر الجد. وأدرك صلاح الدين أنه يهون عليه ادعاء الخلافة بزواجه بأخت الخليفة، وإذا لزم النسب القرشي انتحل له نسبا فيهم. ولكنه ما زال يتهيب من الإقدام على الخطبة، فلما رأى إلحاح عيسى قال له: «إذا لم يكن بد من العمل برأيك، فاجعل ذلك منك على سبيل الاختبار بلا كتابة مني.»
قال: «إني فاعل ذلك، فأخاطب الخليفة في رغبتك وأرى ما يكون.»
قال: «حسنا.» وذهب الهكاري في تلك الساعة إلى العاضد وأطلعه على ذلك بأسلوب لطيف فاستمهله في الجواب كما رأيت.
أما صلاح الدين فإنه بعد ذهاب الهكاري من عنده خلا بنفسه وراجع ما دار بينهما، فرأى أنه تسرع في الأمر، وكان ينبغي أن يكاشف أباه قبل الإقدام عليه. لكنه أجل ذلك حتى يعود الهكاري بالجواب وهو لا يزال في حل من الأمر. وبعد قليل أتاه غلام يدعوه إلى الطعام مع أبيه في الجانب الآخر من قصر اللؤلؤة فمضى. وفيما هما في الغداء قال نجم الدين يخاطب ابنه صلاح الدين: «يا يوسف لم أر عندكم اهتماما بميادين السباق. لا ينبغي أن تترك رجالك يرتاحون طويلا. أنشئ لهم الميادين للمسابقة على الخيول، فإنهم بذلك تتقوى أبدانهم ويشغلون عن الدسائس.»
قال: «صدقت يا أبي، ونحن لا يمضي أسبوع لا نجري فيه سباقا، فمن فاز بالسبق قدمناه وخلعنا عليه. وأحب أن أجرب ذلك بين يديك في هذه الساعة، وسأختار من رجالي أمهرهم في الركوب.» ونادى عماد الدين فأتى مسرعا وخفة الروح ظاهرة في وجهه والشجاعة تتجلى في عينيه والنشاط ظاهر في انتصاب قامته وامتلاء عضله، فلما وقع نظر نجم الدين عليه استلطفه فأطال النظر فيه وصلاح الدين يأمره أن يستعد للسباق مع آخرين سماهم. فأشار عماد الدين مطيعا وانصرف، فتحول صلاح الدين إلى أبيه وهو يبتسم ابتسام الإعجاب وقال: «كيف رأيت هذا الشاب يا أبي؟»
قال: «كنت عازما على أن أسألك عنه؛ لأنه وقع في نفسي موقعا جميلا وأتوسم فيه الشجاعة والبسالة ولا أظنه إلا بالغا مقاما رفيعا بين رجالك.»
Bog aan la aqoon