من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب
أما بعد، فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثاله إليها، لكن ذلك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد بنفسك بما يقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك.
حمل رسول نقفور الرسالة إلى الرشيد، فلما بلغ بغداد سار إلى دار الخلافة مستأذنا على الخليفة، وكان الرشيد بين وزرائه وندمائه، فلما وصلت إليه الرسالة وقرأها تملكه الغضب، ولمعت عيناه حتى صارتا كجذوتي حطب، وابتعد عنه وزيره الفضل بن ربيع؛ هيبة منه وخوفا، ثم صاح الرشيد وصوته يرتعد من الغيظ: هات الدواة يا مسرور، فلما أحضرت إليه كتب في ظهر رسالة نقفور:
بسم الله الرحمن الرحيم
من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور
قد قرأت كتابك، والجواب ما تراه دون أن تسمعه.
ثم ألقى بالورقة، وأشار إلى مسرور أن يرمي بها إلى رسول الروم.
نادى الخليفة بإعداد الجيش، وأنه سيقوده بنفسه. وانتشر ببغداد الخبر، وتزاحم المجاهدون للانضمام إلى الجيش، وعلمت حفصة بمسير الرشيد لغزو الروم، فطلبت إلى أمها في إلحاح أن تسير خلف الجيش مع النساء اللائي يصحبن دائما جيوش العرب؛ لينلن أجر المجاهدين، وسار جيش الرشيد، وسارت خلفه حفصة التي كانت كل آمالها أن ترى نزارا، أو ترى له قبرا. •••
ولكن نزار لم يكن يعلم بزحف الرشيد، ولم يكن يصل إليه من أخبار ثورة الروم إلا أخبار ناقصة مبتورة، ورأته هيلين - إحدى وصائف القصر وبنت ميخائيل كبير البطارقة - فشغفها حبا، وهي فتاة لو أدركت عهد الإغريق الأولين لنحتوا على مثالها تمثالا للجمال.
فتنت هيلين بنزار، فكانت تزوره في سجنه في كل مساء، وتبثه ما تلقى من صبابة ووجد، وهو يصغي إليها، ويميل إلى حسن حديثها، وثارت بها ليلة نشوة الغرام، واستبد بها الهيام، فأخذت تحدثه ، وتطيل الحديث، ثم انتقلت إلى استعداد الجيش لغزو العرب، وما جهز به من أسباب الدمار، ثم وضعت سبابتها على فمها القرمزي، وهمست قائلة: إننا يا حبيبي سنهزم العرب هذه المرة، وسنقضي على جيشهم وخليفتهم، فابتسم نزار وقال: كيف يا هيلين؟ - لن أبوح بشيء يا حبيبي! إنه سر خطير. - إن حبك إذن من صنف عجيب؛ لأن المرأة العربية إذا أحبت مزجت روحها بروح من تحب، فكانت قطعة منه، وكان قطعة منها، فليس بينهما سر يصان. - هيهات أن تصل المرأة العربية في الحب إلى ما بلغته الإغريقية، إن الفتاة عندنا إذا أحبت قدمت لحبيبها ما تملك، وما لا تملك، وغدا كل شيء في يديها هينا مبذولا أمام الحب، فلا جاه، ولا مال، ولا عزة، ولا وطن. - وأنت تحبينني يا هيلين؟ - حبا لو وزعته على الدنيا لملأها رفقا وبشاشة، وإيثارا وسعادة. - قولي هذا السر الخطير إذن. فاهتزت أوصالها، وأدركتها رعدة كأنها تعاني حمى حاطمة، ثم مالت إلى أذنه وقالت: إنهم الآن يحفرون خندقا عظيم الطول والعرض بعيد الغور شرقي هرقلة. - لا أرى شيئا في هذا يا حبيبتي، فقد اعتاد الناس حفر الخنادق في مواقع القتال.
Bog aan la aqoon