لما كنت صغيرا كنت أجلس إلى بعض الشيوخ فيقصون علي هذه النوادر وأنا أكاد أموت ضحكا، ولقد قلت ذات يوم لرجل منهم: تعالى الله عما تقولون، أيكون الحكيم العادل يعلم ما تخفي الصدور، ثم يفهم الدعاء كما يفهمه عبد الحميد؟ فضحك الرجل حتى سال لعابه على لحيته.
وكانت عندنا قهرمانة عجوز طبعت على الوشاية وسوء الخلق، فما ترى منا شيئا مما يتلهى به الشبان إلا وشت بنا إلى أبي، فينالني من تأنيبه وغضبه ما ينغص حياتي، فلما كانت ليلة القدر، وكنت على موعد من رفاق لي لنقضي هزيعا من الليل في أنس رتبناه، ورأيت تلك العجوز لا تفارق خطاي، دفعت إليها تقويما كان معي وقلت: هذا دعاء ليلة القدر، حسب المرء أن يجعله على صدره، وأن يجلس على السطوح رافعا وجهه إلى السماء فلا يلبث أن يرى بارق القدر، فأخذت التقويم مني جذبا وسمعت في صدرها ضحكا كقعقعة الطاحون، وأقامت ترقب البارق، وأقمت أجتلي المسرة في صحبي.
آه ما أكثر اختلافات الأهواء، لو علمت أن سيجاب دعائي لقلت: «يا رب امح التعصب من القلوب، واجعل الناس إخوانا، واحبس ألسنة الأدعياء عن الشعر والبيان.» هذه ثلاثة أتمناها ولي من الحظ ما قدر فكان.
تفتأ هذه الأوهام تربى في أعشاشها فتدرج منها لتأوي إلى عقول تخاذلت عن فتحها جنود العلم، ويدوم هذا العصر في معجزاته يبهر الأبصار ولا يلامس البصائر. فكم من حكيم يأتيك باللباب من حكمته فتزوي عنه وجهك وتهبه إعراضا، ويجد المعمم ذو الأظافر الزرق واللحية المنتفشة فؤادك أدنى إلى غيه من فؤاده، فيأتيك في شملته يجرر فضول ردائه فيستطعمك ثم يمد إليك يده لتقبلها.
بلغني أن شيخا من أهل الزهد صعد على إحدى المنارات في ليلة القدر، وأخذ في الدعاء والتسبيح، فغلب عليه النوم فنام، فرأى في منامه كأن السماء انشقت عن نور ملأ الآفاق وبهر الأنظار، فنزلت الملائك في أجنحتها الخضر ترفرف بها على رءوس الناس، والناس ما بين ساجد وراكع ومبتهل، فأخذ الشيخ في الدعاء فقال: اللهم أنزل علي فتاة تكون حسرة العشاق وحرقة القلوب، إذا دنت ملأت العين نورا، وإذا نأت أودعت الفؤاد كمدا، فما أتم دعاءه إلا وهبطت عليه فتاة هي أجمل مما طلب، فمد إليها يمينه ليعانقها ويضمها إلى صدره، فما راعه إلا صوت كف رن على صدغه الأيمن جاوبه مثله على الأيسر، فانتبه مذعورا، فإذا المؤذن أمامه يقول له: أيها الشيخ الصاقع، ألا تستحي؟ أتيت لأؤذن أذان الفجر فرأيتك مضطجعا، فانحنيت لأرى ما بك، وإذا بك تفتح ذراعيك لتضمني إليك وأنا رجل لا يمزح مع مثلي، فخجل الرجل، وأيقن أن الله لا يستجيب لمثله دعاء.
المحتلون يخرجون من مصر
أتعبتني كتاباتي فوقف القلم في يميني مستعصيا. غلب عليه الإعياء وسئم طول المشي على رأسه، فقلت: مالك؟ أهكذا دأبك؟ جولة ثم تضمحل! فأما وقد حرنت حرانك فلن تستعيد جولاتك، أو يكون لك شجو بدعوك فتجيب، ثم ألقيت بالأسود المعاند إلى جانب دواته وقلت: ليكن عطنك بحيث يكون حوضك، وتنحيت في حجرتي جانبا واضطجعت على متكأ لي، لا بذي سندس ولا إستبرق، ولكن مما يستلينه جنب الشاعر المملق، وهناك غلبني النعاس ونمت نومة هي إلى الموت أقرب منها إلى الحياة.
فرأيت فيما يرى النائم كأني أسير إلى ميدان عابدين، فلما وافيت مدخل الميدان مما يلي الشارع الآخذ من ميدان الأوبرا، إذا جموع من الجنود المحتلة تتقدمها موسيقاتها ويقودها قوادها مشاة وفرسانا، تخفق بينها الأعلام البريطانية التي أظلت الأمن والعدل بمصر في أكثر من ربع قرن، وبأطراف الميدان جماعات من الرعاع والسوقة يتوسطها بعض تلامذة المدارس، وآخرون جعلت أتعرف بعضهم كلما علق بهم نظري، فالتفت إلى وسط الميدان فإذا العلم البريطاني وإلى جانبه العلم العثماني يصل بينهما رباط أخضر، إشارة إلى الود والاتحاد، وإلى أمام العلمين منبر ذو درجات أعد ليخطب عليه من لا أعرفه.
فما طال بي الوقوف إلا وأقبلت عربة تقودها ست جياد، يتقدمها فرسان ويتبعها آخرون بأيديهم الرماح وعلى أسنتها الأعلام، فنظرت إلى العربة فإذا أمير البلاد المعظم وإلى شماله رئيس النظار وأمامه أحد النظار، وتلاحقت بعربة الأمير عربات كثيرة وسيارات عديدة فيها قناصل الدول وخلق لا يحصى لهم عد من سراة الأجانب ورجال الصحف الأوروبية، فوقفت عربة سمو الأمير أمام سلم الإمارة، وصعد أعزه الله وتبعه أكثر أولئك الأجانب، ثم أقبلت عربة من جهة شارع قصر النيل يتقدمها أربعة فرسان ويتبعها مثلهم، بأيديهم السيوف مسلولة وعلى رءوسهم القبعات البيض، وإذا الراكب الجنرال ماكسويل قائد جيش الاحتلال، فسارت عربته حتى وقفت أمام سلم الأمير، فصعد الجنرال.
كل هذا يقع وأنا لا أدري ما هو، فحانت مني التفاتة فرأيت إلى جانبي شيخا دق حتى صار كالعمود الفقري، له رأس كرأس السنة، ولحية كالتقويم، وأنف كالمسدس، وعينان كأنهما برقوقتان، على رأسه عمامة كالبصلة الكبيرة، فدنوت من الشيخ وحييته، فحياني بصوت كصوت البوق، فقلت: يا أستاذ، ما هذا الذي نراه؟ فنظر إلي نظرة ملؤها عجب وقال: أفي سفر كنت؟ - كلا، وما تعجبك من سؤال لست أول من يسأله؟ - الأمر معلوم، المحتلون يخرجون الآن من مصر، وتمسي مصر مذ الساعة وهي للمصريين.
Bog aan la aqoon