بسم الله الرحمن الرحيم
وبه العون والثقة
قال الشيخ الإمام العالم الحبر الورع مهدي الدين جمال الإسلام، شمس العلماء، ناصر السنة ناصح الأمة بقية السلف الشيخ العراقين أبو الحسن سعد الله بن نصر بن سعيد بن علي بن الدجاحي الفقيه الواعظ أطال الله عمره ورفع في الدارين قدره، وأمتع بحياته ونفع بكلماته، وأعاد علينا من بركاته: الحمد لله حمدًا يبلغ منتهى رحمته ورضوانه، وله الشكر شكرًا لزيادة من نعمه وإحسانه، وله الفضل اعترافًا بأياديه وامتنانه، وله الثناء تقديسًا لجلاله وعظم شأنه، الذي من بالعقول لمعرفة دلائله وبرهانه، ومهد الشرائع ترغيبًا في طاعته، وترهيبًا من عصيانه، وبعث محمدًا ﷺ بالدين الحنيف، وتبيانه، وأيده بالمعجز الخارق وسلطانه، فأقام عهد الحق بتشييد أركانه، ودرس معالم الضلال بتشريك شيطانه، فصلوات الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، وأعوانه، وعلى التابعين لهم بإحسان في إقامة الدين وإتقانه، صلاة باقية إلى ممر الأبد وطول زمانه. أما بعد: فإن الله في النفوس الملل، وطبع في القلوب السام، والضجر، فلا صبر لها على الفن المتخذ، ولا المقام على المعنى المنفرد، بل وضعت على التنقل، وطبعت على التفلت، حتى أطلق عنانها في فن من شهواتها، وأخرجت في أسلوب من لذاتها، لمالت عنه يمينًا وشمالًا، وظلت عنه نقلة وارتحالًا، وتقلبت من المقام فيه، وتطلعت إلى سواه، وارتاحت إلى غيره. ولهذا قال ابن مسعود ﵁: "كان رسول الله ﷺ يتخولنا بالموعظة مخافة السامة".
وقال [١] ﵇: "لا تحملوا من العمل ما لا تُطيقون فإن الله لا يمل، حتى تملّوا".
وقال أبو العتاهية: قال المأمون من شأن النفس الملل، وحب الاستطراق، فقلت: أجل يا أمير المؤمنين، ولي في هذا المعنى بيت وهو: [البسيط]
لا يصلحُ النَّفسَ، إذ كانتْ مصرَّفةً ... إلا التَّنقُّلُ منْ حالٍ إلى حالِ
فأعجبه، وقد قال الشاعر: [البسيط]
ما سمِّيَ القلبَ إلاَّ منْ تقلُّبهِ ... والمرءَ إنسانٌ إلاَّ أنَّهُ ناسي
فلما كان هذا من شيمة القلوب، وسجية النفوس، ضمنت هذا المجموع فنونًا من أخبار الأنبياء، والأولياء، ووصايا العقلاء، والحكماء، وحكايات الخلفاء، والوزراء، وآثار النبلاء، والكرماء، وألفظ الفصحاء، والفضلاء، وأجوبة الألباء، والفهماء، وقرائح الفقهاء، والعلماء، ومنظوم طرائف الخطباء، والشعراء.
ولم أقصد استيفاء فن، ولا استطراده، ولا إفراد معنى من أشكاله، وأضداده بل أودعته محاسن ما وقع لي على اختلافه، وتنويع معانيه، وأصنافه، ووسمته [بسفط الملح وزوح الترح] ليكون راحة عند عدم المؤانسة وعونًا على المفاكهة، والمجالسة، والله بكرمه يتجاوز لنا عن الخطايا، والزلل، ويوفقنا لصالح القول، والعمل بمنه وكرمه، ورحمته وجوده، إنه جواد كريم.
روي عن النبي ﷺ أنه قال: "من تعلم بابًا من العلم عمل به، أو لم يعمل به، كان أفضل من صلاة ألف ركعة. فإن عمل به، أو علمه، كان له ثوابه وثواب من عمل به إلى يوم القيامة".
وقال أبو الدرداء: قال رسول الله ﷺ: "كيف بك يا عويمر إذا قيل لك يوم القيامة. أعلمت، أو جهلت؟ فإن قلت قيل لك: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: قلت جهلت، قيل لك: فما عذرك فيما جهلت؟ ألا تعلمت؟ ".
قال عمر بن العزيز: ما من شيء إلا، وقد علمت إلا أشياء صغار، كنت أستحي أن يرى مثلي عنها، فيقي في جهالتها إلى الساعة.
قال لقمان لابنه: يا بني عليك بمجالس العلماء، فالزمها واسمع من كلام الحكماء، فإن الله تعالى، يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة، كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء.
قال ابن [٢] شهاب: العلم أفضل من العمل لمن جهل والعمل أفضل من العلم لمن علم. قال رجل لأحمد بن حنبل ﵁: (أنسخ بالليل، وأصلي، فقال: إن كنت معلمًا أنسخ) وكان يقال: لا يزال المرء عالمًا ما دام في طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم، فقد جهل.
1 / 1
قيل: كتب زاهد إلى عالم صف لي الدنيا واجمع إليها الآخرة، وأوجز. فكتب إليه: الدنيا سنات، والآخرة يقظة، والمتوسط الموت، ونحن في أضغاث أحلام. وقال لقمان لابنه: يا بني إنك منذ سقطت إلى الدنيا استدبرتها واستقبلت الآخرة، وأنت إلى ما استقبلت أقرب منك إلى ما استدبرت.
قال علي ﵇: "لكل امرئٍ في ماله شريكان، الوارث، والحوداث".
نظمه ابن المعتز فقال:
يا مالُ كلُ جامع ووارث ... أبشرْ بريبِ وارثٍ وحادثِ
يقال: إن صحبة بليد نشأ مع العقلاء، خير من صحبة لبيب نشأ مع الجهال. قال أبو العيناء يومًا لعبد الله بن يحيى: أعز الله الوزير، نحن في العطلة مرحومون، وفي الوزراء محرومون، فمتى يكون الفرج؟ كان سعد بن عبادة يقول: اللهم ارزقني مجدًا وحمدًا، فإنه لا مجد إلا بمال، ولا حمد إلا بفعال قال بعضهم: تذاكرنا عند معون أفضل الأشياء، فقال الأحنف: أفضل الكلام قيل كيف، قال: لأن العقلاء أحسن ما خلق، والكلام ترجمانه. قال عبد الله بن عمر: اتقوا من تبغضه قلوبكم. وقال يحيى بن خالد البرمكي ﵀: إذا كرهتم الرجل من غير سوء أتاه إليكم فاحذروه، وإذا أحببتم الرجل من غير سوء أتاه إليكم فاحذروه وإذا أحببتم الرجل من غير سبق منه إليكم فارتجوه.
قيل إنه خرج المهدي إلى ماشيذان للصيد، فنصب الشبك، والأشراك للغزلان على الماء، فوردت لتشرب فوجدت ذلك، فتفرقت ونفرت، ثم عادت اليوم الثاني، والثالث وجهدها العطش. قال: فرآها الناس قد اجتمعت، ورفعت رؤوسها إلى السماء، تضج لضجيج أصواتها فنشأت سحابة في الوقت، وأرسلت وابلها، حتى ملأت الأرض، وشربت ورويت، ولم يلبث المهدي بعد ذلك إلا أيامًا مات.
قيل لحكيم [٣] ما النعمة؟ قال: الأمن، فلا لذة لخائف، والغني، فلا لذة لفقير، والعافية، قلا لذة لسقيم. قالوا: زدنا قال: لا أجد مزيدًا، وفي نسخة أخرى، والشباب، فلا لذة لشيخ. وروي في الآثار أنه "من أصبح آمنًا في سربه معافى في بدنه، مالكًا قوت يومه فكأنما ملك الدنيا بحذافيرها".
وقد نظم المعنى بعض الشعراء فقال: [مجزوء الكامل]
منْ نالَ منَ السِّربِ في دعةٍ ... وأصابَ عافيةً منَ البلوى
وأناهُ قوتُ اليومِ في سعةٍ ... فكأنَّما حيزتْ لهُ الدُّنيا
قال رجل للمنصور: الانتقام عدل، والتجاوز فضل، ونحن نعيذ أمير المؤمنين بالله من أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين دون أن يبلغ أرفع الدرجتين، وقال المأمون: لو علمت الرعية ما لنا في لذيذ العفو ما تقريت إلينا بغير الجنايات، وإني لأحسب أنني لا أجر لي لاستلذاذي به، وللمعنى: [الطويل]
لعمركَ ما بالمالِ يكتسبُ الغنى ... ولا باتِّساعِ المالِ يكتسبُ الفضلُ
فكمْ منْ قليلِ المالِ تحمدُ بذلهُ ... وآخرُ ذا مالٍ وليسَ لهُ بذلُ
وما سبقتْ منْ جاهلٍ قطُّ نعمةٌ ... إلى أحدٍ إلاّ أضرّ بها الجهلُ
وذو اللُّبِّ إنْ لمْ يعطي أحمدتَ ودَّهُ ... وإنْ هوَ أعطى زانهُ القولُ، والفعلُ
روي أنه دخل كعب الأحبار على عمر بن الخطاب ﵁ فقال له عمر: يا أبا إسحاق اجلس على هذه الوسادة، فتركها وجلس دونها، فقال له عمر: ما منعك مما قلت لك؟ قال: يا أمير المؤمنين: إن في حكمة آل سليمان ألا تكبر على السلطان، حتى يملك، ولا نقعد عنه، حتى ينساك، واجعل بينك وبينه مجلس رجل، أو رجلين، فعسى أن يأتيه من هو أولى منك بذلك، فتقام عنه، فيكون زيادة له ونقصًا عليك، فقال عمر: صدق الله تعالى: (وَمِن قَوْمِ مُوسَىَ أُمّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف: ١٥٩] .
قال سعد بن أبي وقاص لابنه: يا بني إذا طلبت الغني فاطلبه بالقناعة، فإن لم يكن لك قناعة فليس يغنيك مال.
مدح أعرابي رجلًا [٤] فقال: ذاك من شجر لا يخلف ثمره، ومن لا يخاف كدره. روي عن النبي ﷺ أنه قال: "لا يزال المسروق منه في تهمة من هو برئ، حتى يكون أعظم جرمًا من السارق".
1 / 2
قال أبو بكر الصديق لعمر بن الخطاب ﵁: إنني مستخلفك بعدي وموصيك بتقوى الله تعالى إن لله عملًا بالليل لا يقبله بالنهار، وعملًا بالنهار لا يقبله بالليل، وأنه لا يقبل نافلة، حتى تؤدي الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة، باتباعهم الحق في الدنيا، وثقله عليهم عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه الحق ثقيلًا.
وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة، باتباعهم الباطل في الدنيا، وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفًا، إن الله ﷿ ذكر أهل الجنة، فذكرهم بأحسن أعمالهم، وتجاوز عن سيئاتهم. فإذا أذكرتهم، قلت: إني أخاف ألا أكون من هؤلاء.
وذكر أهل النار فذكرهم بأسوأ أعمالهم، ولم يذكر حسناتهم، فإذا أذكرتهم قلت: إني لأرجو أن لا أكون من هؤلاء، وذكر آية الرحمة مع آية العذاب ليكون العبد راغبًا راهبًا، ولا تتمنى على الله ﷿ غير الحق، ولا تلقى بيدك إلى التهلكة، فإن حفظت وصيتي، فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت، وهو آتيك، وإن أضعت وصيتي، فلا يكونن غائب أبغض إليك من الموت، ولست بمعجز الله ﷿ .
قال رجل للمنصور: اتق الله فنكر وجهه، فقال يا أمير المؤمنين: عليكم نزلت، ولكم قيلت وإليكم ردت، قال علي ﵁: خصصنا بخمس: فصاحة وصباحة وسماحة وجدة وحظوة يعني عند النساء.
ليم مصعب بن الزبير على تطويل خطبته عشية عرفة. فقال: أنا قائم، وهم جلوس، وأتكلم، وهم سكوت، ويضجرون.
أخبرنا أبو غالب أحمد بن الحسن بن أحمد بن شادان، قال: أخبرنا أبو سهل أحمد بن محمد بن عبد الله بن زيادة القطان، قال: حدثنا محمد بن يونس، قال: أخبرنا محمد بن حجر الشامي قال: حدثنا علي بن منصور الأنباري قال: حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي عن محمد بن كعب القرطي قال: بينما عمر بن الخطاب رضوان الله عليه في خلافته في المسجد، إذ مر في ناحية المسجد مار، فقال رجل من القوم: تعرف هذا المار [٥] يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، ومن هو؟.
قال: رجل من أهل اليمن له فيهم شرف، وأصل، يقال له سواد بن قارب، وهو الذي أتاه ربه أن يخبر بالمغيبات من الحق بظهور رسول الله ﷺ فقال عمر علي به، فدعي بالرجل، فقال له: "أنت سواد بن قارب الذي أتاك ربك أخبارًا من الجن بظهور رسول الله ﵇، قال: نعم يا أمير المؤمنين".
قال: فأنت على ما كنت من كهانتك، فغضب الرجل غضبًا شديدًا، وقال: والله ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت، فقال عمر: يا سبحان الله ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك، أخبرنا بشأنك ورتبك، ومن أتاك حين أتاك بظهور رسول الله ﷺ؟ فقال: نعم، "بينما أنا ذات ليلة من الليالي بين النائم، واليقظان إذ أتاني آتٍ فضربني برجله وقال لي: قم يا سواد بن قارب وافهم إن كنت تفهم، واعقل إن كنت تعقل، قد بعث رسول الله من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته".
ثم أنشأ يقول: [السريع]
عجبتُ للجنِّ وتحساسها ... وشدِّها العيسِ بأحلاسها
تهوي إلى مكةَ تبغي الهدى ... ما طاهرُ الجنّ ككفارها
فارحلْ إلى الصَّفوةِ منْ هاشمٍ ... واسمُ يعينيكَ إلى رأسها
قال، فلم أرفع رأسًا بقوله، وقلت: دعني أنام فإني ناعس، فلما أقيلت الليلة الثانية ضربني برجله، وقال: قم يا سواد بن قارب واعقل إن كنت تعقل، قد بعث الله رسول الله من لؤي بن غالب، يدعو إلى الله وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول: [السريع]
عجبتُ للجنِّ وأخبارها ... وشدِّها العيسِ بأكوارها
تهوي إلى مكةَ تبغي الهدى ... ما مؤمنُ الجنِّ ككفَّارها
فارحلْ إلى الصَّفوةِ منْ هاشمٍ ... بينَ روابيها وأحجارها
قال: فلم أرفع به رأسًا، فلما كنت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب، يدعو إلى الله وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول: [السريع]
عجبتُ للجنِّ وطلابها ... وشدَّها العيس بأقتابها
تهويْ إلى مكَّةَ تبغي الهدى ... ما صادقُ الجنِّ ككذَّابها [٦]
فارحلْ إلى الصَّفوةِ منْ هاشمٍ ... ليسَ قداماها كأذنابها
1 / 3
فوقع في قلبي الإسلام ورغبت فيه، فلما أصبحت شددت على راحلتي، وانطلقت في طلب النبي ﷺ فلما كنت ببعض الطريق، أخبرت أن النبي ﷺ قد هاجر إلى المدينة، فلما دخلت المدينة سألت عنه، فقالوا: في المسجد، فأتيت المسجد فأنخت راحلتي على الباب، ثم دخلت المسجد، فإذا النبي ﵇ جالس، وأصحابه، فقلت: اسمع مقالتي يا رسول الله عليك، قال ادن، فلم يزل يدنيني، حتى صرت بين يديه، ثم قال: قل: فأنشأت أقول: [الطويل]
أتاني بجنٍّ بعدَ هدءٍ ورفدةٍ ... ولمْ يكُ فيما قدْ بلوتُ بكاذبِ
ثلاثُ ليالٍ قولهُ كلَّ ليلةٍ ... أتاكَ رسولٌ منْ لؤيّ بنِ غالبِ
فشمَّرتُ منْ ذيلي الإزارُ، ووسَّطتُ ... بي الذُّغلبَ الوجناءَ بينَ السَّباسبِ
فأشهدُ أنْ الله لا شيء غيرهُ ... وأنَّكَ مأمونٌ على كلِّ غائبِ
وأنَّكَ أدنى المرسلينَ وسيلةً ... إلى الله يا ابنَ الأكرمينَ الأطايبِ
فمرنا بما يأتيكَ يا خيرَ منْ مشى ... وإنْ كانَ فيما جاءَ شيبَ الذوائبِ
وكنْ لي شفيعًا يومَ لا ذو شفاعةٍ ... سواكَ بمغنٍ عنْ سواد بن قارب
قال: ففرح رسول الله (ﷺ بإسلامي فرحًا شديدًا، وأصحابه، حتى رؤي الفرح في وجوههم، فقام إليه عمر فالتزمه وقال: والله لقد كنت أشتهي أن أسمع هذا الحديث منك، أخبرني عن رؤيتك اليوم، قال: منذ قرأت كتاب الله، فما رأيت شيئًا، فقال عمر: ونعم العوض كتاب الله من الجن.
قال رجاء بن حيوة لعبد الملك بن مروان في أسارى بن الأشعث: إن الله قد أعطاك من الظفر، والقهر ما تحب، فأعطه ما تحب من الصفح، والعفو، بعض الشعراء: [الطويل]
عطفتْ عليكَ النفسُ، حتَّى كأنَّما ... بكفَّيكَ بؤسٌ، أو لديكَ نعيمها
تبعتكَ، إذ عيني عليها غشاوةٌ ... فلمَّا انجلتْ قطعتٌ نفسي ألومها
فإنِّي عن أقصيتني منْ ضراعةٍ ... ولا افتقرتْ نفسي إلى ما تسومها
قيل لعبد الله بن الأهتم ما السؤدد قال: رفع الأولياء، وحط الأعداء، وطول البقاء مع القدرة، والنماء، إذا قصرت بداك عن المكافآت فليبطل لسانك بالشكر. [٧] قيل: جلس المأمون مجلسًا عامًا فقام إليه غلام من البرامكة، فقال: أحلنا سخط أمير المؤمنين المأمون، الماضي بدار هوان، فنحن بها يطرقنا الذل، وقد ألفت أنفسنا ذلك، فنحن، كما قالت بنت النعمان: [الطويل]
فبينا نسوسُ النَّاس، والأمرُ أمرنا ... إذْ نحنُ فيهم سوقةٌ نتنصَّفُ
فأمر بانصرافه وبره. قال بزرجمهر: رأيت من أنوشروان خليقتين مباينتين لم أر مثلهما، رأيته يومًا، وقد دخل عليه بعض أساورته فتجاوز مرتبته، فأمر به، وحرم عطاءه، ثم رأيته، وأنا معه على سرير الملك في شيء من تدبير المملكة، فارتفع أصوات الخدم وحركة الحشم، فقطعونا عما كنا فيه.
فقلت أيها الملك رأيت بالأمس قد أمرت بفلان مع خدمته لأجل تجاوز اليسير من مرتبته، وأراك ساكنًا، عن هؤلاء الخدم مع ضآلة حرمتكم وعظيم حرمتهم.
فقال: يا بزرجمهر إنا معاش الملوك حكام على رعيتنا وخدمنا، حكام على أرواحنا، فيكون منا في خلوتنا من التبدل ما لا طاقة لنا بدفعه عنا، فإن منعناهم وضيقنا عليهم تمنوا الراحة منا، وأمكنهم ذلك في المأكول، والمشروب، والملبوس فنحن نتجاور لهم عن الزلة، ونغفر لهم الخطيئة إشفاقًا على أرواحنا، فخر بزرجمهر ساجدًا وقال: حق على من أخذ الملك بالسيف أن يكون عبدًا لمن أخذه بالرأي، والحكمة وحسن التدبير.
قال سهل بن سعد الساعدي: لقيني رجل من أصحابي، فقال: هل لك في جميل؟ فإنه مثقل، فدخلنا عليه، وهو يجود بنسفه، فقال: ما تقول في رجل لم يزن قط، ولم يشرب الخمر، ولم يقتل النفس، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله ﷺ؟ فقلت: أظنه نجا، فمن هذا الرجل؟ قال: أنا، قلت: والله ما سلمت، وأنت منذ عشرين سنة تشبب ببثينة، قال: إني في آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة، فلا نالتني شفاعة محمد ﷺ إن كنت وضعت يدي عليها لريبة قط، فما قمنا، حتى مات.
1 / 4
قال عمر بن عبد العزيز ﵀ لرجل: عظني، فقال: لا أصلح لذلك يا أمير المؤمنين، قال: لم؟ قال: لأني جلست لأصلي في المسجد، وكان إلى أحد جنبي غني، وإلى الآخر فقير، فجعلت أميل على الفقير، وأوسع على الغني.
روى أحمد بن حنبل ﵀ بإسناده، [٨] عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: "في البطيخ عشرة خصال: هو طعام وشراب، وهو ريحان، وهو يغسل المثانة ويغسل البطن، وهو يكثر الماء للظهر، ويكثر الجماع، ويقطع الأمردة وينقي البشرة".
قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: إنما كانت دعوة المظلوم مستجابة، لأن المظلوم يقول: يا رب أعطني حقي، والله سبحانه لا يمنع ذا حق حقه، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵇: الراحة للرجال غفلة، وللنساء غلمة، وقال بزرجمهر: إن يكن الشغل مجهدة فالفراغ مفسدة. للمعنى شعر: [الطويل]
منَ النَّاس منْ لوْ يستشركَ فتجدْ ... لهْ الرأيَ يستغششكَ ما لم تتابعهُ
فلا تمنحنَّ الرَّأيَ منْ ليسَ أهلهُ ... فلا أنتَ محمودٌ ولا النّصحُ نافعهُ
قال أمير المؤمنين علي ﵇: لكميل بن زيادة، يا كميل قل لقومك يسروا في المكارم، ويدلجوا في حاجة من هو نائم، ف، والذي نفسي بيده، ما من عبد أدخل على قلب مؤمن سرورًا، إلا خلق الله من ذلك السرور نورًا، فإذا نزلت به نازلة ابتدر إليها فطردها عنه، كما تطرد غريبة الإبل.
وقع بين المازني وبين أخ له جفوة، فغاب عنه أيامًا، ثم جاء المازني وعند الرجل جماعة، فدق عليه الباب، فقال: أحسن الأشياء إن خفت من الإخوان جفوة طرحك للحشة عنهم، وشجى من غيره دعوة، التدلل في الطاعة خير من التعزز في المعصية.
كتب رجل إلى صديق له في ظهر شعر: [البسيط]
العذرُ في الظَّهر عندَ الحرِّ منبسطٌ ... إذا رأى سطواتِ الدَّهر بالنِّعمِ
وما أضنُّ بوجهي لوْ جرى قلمي عليهِ ... عنكَ، ولو أنَّ المدادَ دمي
يقال: عن التدبير مع الكفاف خير من الغنى مع الإسراف، كلم أعرابي خلد بن عبد الله، فخلط في كلامه، فلما أحس من نفسه بذلك، قال: لا تلمني أيها الأمير فإن معي ذل الاحتياج ومعك عز الاستغناء عني.
كان لعدي بن حاتم وليم، جمع فيها العرب، فقال لابن له حدث السن: قم بالباب، فامنع من لا تعرف، وائذن لمن تعرف، فقال: لا والله يا أبت لا يكون أول شيء وليته منع قوم من الطعام.
قال عمر بنى الخطاب رضي لله عنه: إذا توجه أحدكم في حاجة ثلاث مرات، فلم يصب خيرًا فليدعها، ويقال: أحسن ما عوشر [٩] به الملوك البشاشة، وتخفيف المؤونة، قال الجنيد ﵀: إنما تطلب الدنيا لثلاثة أشياء: للغنى، والعز، والراحة، فمن زهد فيها عز، ومن قنع استغنى، ومن قل فيها سعيه استراح، قال عبد الملك بن مروان: خمس يقبحن من خمسة، ضيق ذرع الملوك، وسرعة غضب العلماء، وفحش النساء، ومرض الأطباء، وكذب القضاة.
أنشدنا شيخنا السعيد ناصح الإسلام أبو الخطاب محفوظ بن أحمد ﵀ للصابي: [الطويل]
وللسِّرِّ عندي فيما بينْ جنبيَّ مكمنٌ ... قصيٌّ عصيٌّ عنْ مدارجِ أنفاسي
أضنُّ بهِ ضنّي بموضعِ حفظهِ ... فأخفيهِ عن إحساسِ غيري وإحساسيْ
فيصبحُ كالمعدومِ لا مهتدي لهُ ... يقينٌ، ولم يخطرْ لخلقٍ منَ النَّاس
كأنِّي منْ فرطِ احتياطي أضعتهُ ... فبعضي لهُ ذاعٍ وبعضيْ لهُ ناسي
قال الجاحظ: حدثني يحيى بن خاقان، قال: مررت في بعض دروب بغداد، فاحتجت إلى المستراح، وضقت ذرعًا لحاجتي إليه، فقلت لبعض الغلمان، أطلب لي موضعًا، فاستفتح بابًا ففتح لنا، ودخلت إلى دار حسنة التقدير، والبناء، وخرجت إلي جارية ظريفة حسنة طنجة.
فأدخلتني مستراحًا لطيفًا نظيفًا، وناولتني ماء في إبريق لطيف الصنعة، فلما خرجت ناولتني منديلًا وجاءت بطشت وإبريق، فتهيأت للصلاة، ثم أتتني بمرآة ومشط فلما فرغت وقمت للخروج، جعلت أشكرهم على جميلهم شكر من أولى معروفًا، فضحكت الجارية ضحكًا قهقهت فيه، فقلت مم تضحكين يا جارية؟ قالت: يا سيدي هذا الدعاء كله لأنك خريت عندنا، فلو تغديت أي شيء كنت تعمل؟ فضحكت، حتى كدت أن أسقط، وأعجبني ما كان، فدفعت فيها مالًا، فلم تبع ابن المعتز: [الكامل]
1 / 5
أهدتْ لكَ ظرائفًا بظرائفِ ... جامينَ من لوزينجَ وقطايفِ
هذا دبيقيٌّ الثِّيابِ موشَّحٌ ... بملاحقٍ صقلٍ وذا بمناشفِ
آخر: [الطويل]
وعهدي بها سكرٌ منَ الرَّاحِ والكرى ... فللبدرِ مثلي في أناملها عذرُ [١٠]
فلمْ أدرِ إذ فاخرتهُ بجمالها ... وفاخرني بالنُّور أيُّهما البدرُ
سوى أنْ عندَ الفجرِ غابَ ولم تغبْ ... مكايدةً للفجرِ إذ طلعَ الفجرُ
أخذه من قول ابن الرومي: [الكامل]
أصفُ الحبيبَ ولا أقولُ كأنَّهُ ... كلًا لقدْ أمسى من الأفرادِ
إنِّي لأستحيي محاسنَ وجههِ ... أنزِّهها عنِ الأندادِ
يروي أن المنصور دعا الربيع يومًا، فقال له: سلني ما تريد، فقد سكت، حتى نطقت، وخففت، حتى ثقلت، وأقللت، حتى أكثرت، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أرهب بخلك، ولا أستقصر عمرك، ولا أستصغر فعلك، ولا أغتنم مالك، وأن يومي لفضلك علي لأحسن من أمسي، وغدي في تأميلي لأحسن من يومي، ولو جاز أن يشكرك مثلي لغير الخدمة، والمناصحة، ما سبقني على ذلك أحد، فقال له المنصور: صدقت علمي بهذا منك، أحلك مني هذا المحل، فسلني عما شئت.
قال: أسألك أن تقرب عبدك الفضل، وتوده، وتحبه. فقال: يا ربيع إن المحبة ليست بمال يوهب، ولا رتبة تبذل، وإنما توجد لأسباب، قال فاجعل لها طريقًا إليه بالفضل عليه، قال: صدقت الآن، وقد وصلته بخمسمائة ألف درهم، ولم أصل مثلها لأحد عمومتي، ليعلم ماله عندي، فيكون عنده ما تستدعي محبتي، وكيف سألت المحبة يا ربيع؟ قال: لأنها مفتاح كل خير، مغلاق كل شر يستر بها عندك عيوبه، وتصير ذنوبه حسنات. فقال: صدقت، وقد أويت ما أردت، ومات الربيع في أيام الهادي، لنصر بن أحمد: [المتقارب]
ولي حاجةٌ لمْ أطقْ ذكرها ... حياءً وقد أخذتُ بالكظمِ
أهابكَ فيها لأنَّ الكريمَ ... يهابُ وإنَّ كانَ لا يحتشمِ
لساني تلجلجَ عنْ ذكرها ... فترجمتها بلسانِ القلمِ
لما قدم مازيا بن قارن لضرب عنقه، قيل للمعتصم: إن وراءه أموالًا جمة، فلو أمر أمير المؤمنين بتقريره لها، ثم يقتله، فقال المعتصم متمثلًا: [البسيط]
إنَّ الأسودَ أسودُ الخيلِ همَّتها ... يومَ الكريهة في المسلوبِ لا السَّلبِ
يقال: اصحب من ينسى معروفه عندك، ويذكر حقوقك عليه، ويقال الكريم ينسى فواضل لقمه، ولا ينسى حرمة خدمه، سأل محمد بن الهيثم أبا هشام الحراني ألك مال؟ فقال: أما مال فليس لي، ولكن عندي صيانة تستر الخلة، وتقدير يكثر القليل وصبر ترجى به الأيام. قال المأمون: الحلم يحسن بالملوك إلا في ثلاثة أشياء، قادح في دولة، أو مذيع لسر، أو متعرض الخدمة لبعضهم. [الوافر]
إذا استنكرتَ حالًا منْ صديقٍ ... فلستَ عن التنَّجنُّبِ في مضيقِ
طريقًا كنتَ تسلكهُ قديمًا ... فاشنعْ فاعتزلهُ إلى طريقِ
يقال: ثلاثة أشياء تورث المحبة، الذين، التواضع، والبذل، ويقال: سادة الدنيا الأسخياء، وسادة الأتقياء لبعضهم: [الخفيف]
أيُّها المرءُ كنْ لما لستَ ترجو منْ ... نجاحٍ أدجى لما أنتَ داجي
إنَّ موسى مضى ليقتبسَ النَّارَ ... لضوءٍ رآهُ والليلُ داجي
فأتى أهلهُ وقد كلَّم الله ... وناجاهُ وهو خيرُ مناجي
وكذا الهمُّ كلَّما اشتدَّ بالعيدِ ... دنتْ منهُ ساعةُ الانفراجِ
كان النبي ﷺ: "لا يقطع على أحد حديثه، حتى يجود، فيطعه نهي، أو قيام" قال بعضهم: الحوائج تطلب بالرجاء، وتدرك بالقضاء. لبعضهم: [الطويل]
وكنتُ إذا خاصمتُ خصمًا كببتهُ ... على الوجهِ حتَّى خاصمتني الدَّراهمُ
فلمَّا تنازعنا الخصومةَ غلبتْ ... عليَّ، وقالوا قمْ فإنَّك ظالمُ
ومما يقارب المعنى: [البسيط]
ما منْ صديقٍ وإنْ تمَّتْ صداقتهُ ... يومًا بأنجحَ في الحاجاتِ منْ طبقِ
إذا تلثَّمَ بالمنديلِ منطلقًا ... لم يخشَ نبوةَ بوَّابٍ ولا غلقِ
قال رجل لرجل قصده: ما قصرت بي همة صيرتني إليك، ولا أخرتني ارتياد دلني عليك، ولا قعد بي رجاء قادني إليك وحدا بي إلى بابك.
1 / 6
روى الإمام أبو عبد الله بن بطة، في كتابه (كتاب): الإبانة عن أبي بكر الصديق ﵁ أنه قال: مثلنا ومثل الأنصار، كما قال المنوي [١٢] لنبي جعفر: [الطويل]
جزى الله عنَّا جعفرًا حينَ أسفرتْ ... بنا نعلنا في الواطئينَ فزلَّتِ
أبوا أنْ يملُّونا ولو أنَّ أمَّنا ... تلاقي الّذي لاقوهُ منَّا لملَّتِ
وذكر أحمد بن عبد الله العزيز، في (كتاب): التعازي بإسناده عن هارون بن هلال الجزري، قال: لما قبض النبي ﷺ رثته أم المؤمنين عائشة ﵁ فقالت: [الكامل]
قدْ كنتَ ذاتَ حميَّةٍ ما عشتَ لي ... أمشي السَّراحَ وأنتَ كنتَ جناحي
فاليومَ أخضعُ للضعيفِ وأتَّقي ... منهُ، وأدفعُ ظالمي بالرَّاحِ
وإذا دعتْ قمريَّةٌ شجنًا لها ... ليلًا على غصنٍ بكيتُ صياحي
وقد ذكر أن الشعر لفاطمة الخزاعية، وفيه زيادة لحد البيت الأول: [الكامل]
قدْ كنتَ لي جبلًا ألوذُ بظلِّهِ ... فتركني أمشي بأجردَ ضاحي
تعني بأجرد أي لا نبات عليه وضاحي تحت السماء تصيبني الشمس بحرها. روي أن حسان بن ثابت كان يخضب شاربه وعنفقته بالحناء، قال: لأكون كأني أسد، والغ في دم.
قيل: إن عبد الملك بمن مروان كان أشد الناس حبًا لزوجته، عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وهي أم يزيد عبد الملك، فغضبت يومًا على عبد الملك فشكا إلى خاصته، فقال عمر بن بلال الأسدي، وكان من خواص خلوته، ما الذي لي عندك إن رضيت عاتكة؟ فقال: حكمك. فأتى عمر بابها، وجعل يتباكى، وأرسل إليها يعرفها حضوره ببابها، فخرجن إليه خاصتها وجواريها وقلن: مالك؟، وما حاجتك؟ قال: إني إلى عاتكة ورجوتها، وقد علمت مكاني من أمير المؤمنين معون جدها، ومن ولده بعده، قلن: وما الذي ونزل بك؟ قال: ابناي لم يكن لي غيرهما، فقتل أحدهما صاحبة، وقال أمير المؤمنين: أنا قاتل الآخر به، فقلت أنا الولي، وقد عفوت.
قال: لا أعود الناس هذه العادة، وقد رجوت أن ينجي الله ابني هذا الذي لا يبق لي سواه عل يدها وبشفاعته، فدخلن فذكرن [١٣] لها ذلك، فقالت: كيف أصنع بغضبي عليه، وما أظهرت له من التعتب، فقلن: إذن، والله يقتل ولده، فلم يزلن، حتى دعت ثيابها، ثم خرجت، وأقبل خديج الخادم الخصي فقال: يا أمير المؤمنين، هذه عاتكة قد أقبلت، قال: ويلك ما تقول؟ قال، والله قد طلعت.
فقال: فأقبلت وسلمت فلم يرد فقالت: والله لولا يعلم عمر ما جئت إليك، كيف تقتل ولده بالآخر يا أمير المؤمنين، وهو الولي، وقد عفا؟ فقال: إني أكره أن أعود الناس هذا، قالت: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، فقد عرفت مكانه من أمير المؤمنين أبي وجدي، وهو ببابي، فلم تزل، حتى أخذت رجله فقبلتها.
فقال: هو لك، ولم يبرحا، حتى اصطلحا، ثم راح عمر بن بلال على عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين كيف رأيت؟ قال: رأينا أثرك وثمرة توصلك فهات حاجتك، قال: مزرعة بعيرتها، وما فيها، وألف دينار وفرائض لولدي، وأهل بيتي وعيالي، قال: ذلك لك، ثم اندفع عبد الملك ينشد متمثلًا بشعر كثير: [الطويل]
وإنِّي لأرعى قومها منْ جلالها ... وإنْ أظهروا غشًَّا نصحتُ لهمْ جهدي
ولوْ حاربوا قومي لكنتُ لقومها ... صديقًا، ولم أحملْ على قومها حقدي
كان الحكم بن عبد الماء الشاعر هجاء، وكان أعورًا أحدب، قال العتبي: إنه ترك الوقوف بأبواب الملوك، وكان ينفذ عصاه وعليها مكتوب حاجته مع رسول، فلا تقف له حاجة، ولا يحبس له رسول، فقال في ذلك يحيى بن نوفل: [الطويل]
عصا حكمٍ في الدَّارِ أوًّلُ داخل ... ونحنُ على الأبوابِ نقصي ونحجبُ
وكانتْ عصا موسى لفرعونَ لآيةً ... وهذا لعمرو الله أدهى، وأعجبُ
تطاعُ، ولا تعصى، ويحذرُ سخطها ... ويرعبُ في المرضاءِ منها، ويرهبُ
لبعضهم: [الكامل]
اسكنْ إلى سكنٍ تلذُّ بهِ ... ذهبَ الزَّمانُ وأتتْ منفردُ
ترجو غدًا وغدٌ كحاملةٍ ... في الحيِّ لا يدرونَ ما تلدُ
روي أن سبحانه وائل مدح طلحة الطلحات الخزاعي فقال: [١٤] [الكامل]
يا طلحُ أكرمُ منْ مشى ... حسبًا وأعطاهمْ لتالدِ
منكَ العطا فاعطني ... وعليَّ حمدكَ في المشاهدِ
1 / 7
فقال طلحة: احتكم، فقال: برذونك الورد وغلامك الخباز وقصرك بزرنج وعشرة آلاف درهم، فقال له طلحة: أف لك لم تسلني على قدري، إنما سألتني قدرك وقدر بأهله فلو سألتني كل قصر لي، وعبد لي، ودابة لي، لأعطيتك، ثم أمر له بما سأل، ولم يزده شيئًا، ثم قال طلحة: تالله ما رأيت مسألة محكم ألأم منها.
روي الدارقطني بإسناده في الأفراد عن النبي ﷺ أنه قال: اقبلوا الكرامة، وأفضل الكرامة الطيب، أخفه محملًا، وأطيبه رائحة".
لقد أجاد، وأحسن عبيد بن أيوب حيث قال: [الطويل]
وأوَّلُ خبثِ المالِ خبثُ ترابة ... وأوَّلُ لؤمِ المرءِ لؤمُ الحوائلِ
وكذا قول بشار بن براد: [الطويل]
وبدءُ فسادِ الطِّفلِ منْ عرقِ أمِّهِ ... وحاضنةٍ تغدوهُ بالذلِّ والملقِ
قيل: إن زياد بن ظبيان، قال لابنه عبيد الله، وهو غلام، وأبوه لما به حين نزل به الموت: ألا أوصي بك الأمير زياد؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال: لأنه إذا لم يكن للحي إلا وصية الميت. فالحي هو الميت. ولما وفد عمر بن سعيد بعد وفاة أبيه على معاوية بن أبي سفيان، قال له معاوية: إلى من أوصى بك أبوك؟.
فقال: إن أبي أوصى إلي، ولم يوصي لي، قال: فما كانت وصيته إليك؟ قال: أوصى إلي أن أقضي دينه، ولا يفقد إخوانه منه إلا عينه، فقال معاوية: إن ابن سعيد هو الأشدق. ودخل المعتصم إلى دار خاقان بن أبي مزاحم عائدًا له، فرأى ابنه، وهو صبي فقال له: أيما أحسن دار أمير المؤمنين أم دار أبيك؟ فقال: ما دمت في دار أبي فهي أحسن.
قال الحجاج لمعلم أولاده: علمهم السباحة قبل الكتابة، فإنهم إن يبلغوا يجدوا من يكتب، ولا يجدوا من يسبح. وهذا أخذه من كتاب كتبه ﵇ إلى سائر الأمصار: علموا أولادكم السباحة، والفروسية ورووهم ما سار من المثل وحسن السير، ما أحسن، قول إبراهيم بن العباس الصولي شعر: [الوافر]
ولكنَّ الكريمَ أبا هشامٍ ... وفيُّ العهدِ مأمونُ المغيبِ
غنيٌّ عنكَ ما استغننتَ عنهُ ... وطلاَّعٌ إليكَ مع الخطوبِ
قال الأصمعي: لما أعاد النابغة إلى النعمان بعد أن لحق بآل جفنة، أذن له في الدخول عليه، فلما انتصب بين يديه، حياه بتحية الملك، ثم قال: أبيت اللعن أي صاحب لخم، وأنت سائس الحسب وغرة الأدب، واللات لأمسك أسمن من يومه، ولعبدك أكرم من قومه، ولقفاك أحسن من وجهه، وليسارك أسمح من يمينه، ولوعدك أنجح من رفده، ولهزلك أصوب من جده، ولنفسك أمنع من جنده، ولاسمك أشهر من قدره، وليومك أشرف من دهرك، ولفترك أبسط من شبره، ثم قال: [البسيط]
أخلاقُ مجدٍ تجلَّتْ ما لها مثلُ ... في الجودِ والنَّاس بينَ العلمِ، والحضرِ
متوَّجٌ بالمعالي فوقَ مفرقهِ ... وفي الرَّدى ضيغمٌ في صورةِ القمرِ
قال: فتهلل بالنعمان السؤدد، ثم أمر به فحشى فمه بالدرر، ثم قال: بمثل هذا يمدح الملوك، قيل المال يغطي عيوبك، ويزين أمرك، قال: جبريل ﵇: قال الله تعالى: (إن هذا الدين ارتضيته لنفسي، ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق، فأكرموه بهما ما استطعتم) .
وقال ﵇: عن من موجبات المغفرة يبذل الطعام وإفشاء السلام، وحسن الكلام. وقال ﵇: الرزق إلى مطعم الطعام أسرع من السكين إلى سنام البعير، وفي لفظ إلى ذروة البعير، وأن الله ليباهي بمطعم الطعام الملائكة.
وروى ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: "إن لله عبادًا يخصهم بالنعم لمنافع العباد، فمن بخل بتلك المنافع نقلها الله إلى غيره".
وروى أبو سعيد الخدري عن النبي ﷺ أنه قال: "إن الله جعل للمعروف وجوهًا من خلقه، وحبب إليهم فعاله، ووجه طلاب المعروف، ويسر عليهم، كما يسر الغيث إلى البلدة المجدبة فيحييها، ويحيي بها أهلها".
وروي أنه أتى النبي ﵇ بأسرى [بني] العنبر فأمر بقتلهم، وأفرد منهم رجلًا، فقام علي ﵇، فقال: يا رسول الله، الرب واحد، والدين واحد، والذنب واحد، [١٦]، فما بال هذا من بينهم؟ فقال: "نزل علي جبريل، فقال: اقتل هؤلاء واترك هذا، فإن الله شكر له سخاء فيه".
قال علي ﵇: إذا أقبلت الدنيا فانفق فإنها لا تغني، وإذا أدبرت فانفق فإنها لا تبقى، وأنشد: [البسيط]
1 / 8
لا تبخلنَّ بدنيا، وهي مقبلةٌ ... فليسَ ينقصها التَّدبيرُ، والسَّرفُ
وإنْ تولَّتْ فأحرى أنْ تجودَ بها ... فالحمدُ منها إذا ما أدبرتْ خلفُ
دفع رجل إلى حسين الحسين بن علي ﵇ رقعة فقال: حاجتك مقضية، فقيل: يا ابن بنت رسول الله، لو نظرت في الرقعة، ثم رددت الجواب على قدر ذلك، يسألني الله عن ذل مقامة بين يدي، حتى أقرأ رقعته.
قال حذيفة: رب فاجر في دينه أخرق في معيشته يدخل الجنة بسماحته، وقال الحسن البصري: بذل المجهود في دفع الموجود منتهى الجود. وقال عمر بن عبد العزيز بن مروان إذا الرجل أمكنني من نفسه، حتى أمنع معروفي عنده فيده عندي مثل يدي: وقال المهدي لشبيب بن شبة: كيف رأيت الناس في داري؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن الرجل ليدخل راجيًا، ويخرج راضيًا، ويمثل رجل عند عبد الله بن جعفر بهذين البيتين: [الكامل]
إن الصَّنعةَ لا تكونُ صنيعىً ... حتَّى يصابَ بها طريقُ المصنعِ
فإّذا اصطنعتً صنيعةً فاعملْ بها ... للهِ أو لذويا لقرابةِ أودعِ
فقال عبد الله بن جعفر: لمن هذان البيتان؟ إنهما لبخلان الناس، ولكن أمطروا بالمعروف مطرًا، فإن أصاب لكرام كانوا له أهلًا، وإن أصاب اللئام كنت أنت له أهلًا. وروي أن عبد الله بن الزبير بعث إلى عائشة ﵁ بغرارتين فيها مال قدره ثمانون ومائة وألف درهم، فدعت بطبق فجعلت تقسمه بين الناس، فلما أمست قال: يا جارية، فطوري، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم درة: ما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحمًا تفطرين عليه؟ قالت: لو كنت اذكرتيني لفعلت.
وروى أبان بن عثمان: أن رجلاُ أراد يصير لعبيد الله بن عباس فأتى وجوه قريش، فقال: يقول لكم عبيد الله بن عباس تغدوا عندي اليوم فأتوه، حتى ملؤوا الدار، فسأل عن ذلك فأخبروه فأمر عبيد الله بشراء الفاكهة فأكلوا.
ثم أمر قومًا فطبخوا وخبزوا، ثم فرغ من الطعام فقدم على الموائد فأكلوا، حتى صدروا، فلما خرجوا قال عبيد الله لوكلائه أموجود هذا كل يوم إذا أردته؟ قالوا: نعم، قال: فليتغدها ولأكل يوم عندنا، قال النبي ﵇: "عز المؤمن استغناؤه عن الناس؟، ومن ينفق الساعات في جمع ماله، مخافة فقر فالذي فعل الفقر".
قيل لعتابي، وهو أبو عمرو بن كلثوم بن عمرو إنك تلقى العامة ببشر، وتقريب، فقال: دفع ضغينة بأخف مؤونة واكتساب إخوان بأهون مبذول.
مدح أعرابي قومًا فقال: جعلوا أم، والهم مناديل لأعراضهم فالخير لهم قائد، والمعروف لهم شاهد، يعطون بطيب أنفسهم إذا طلب إليهم، ويباشرون المكروه بإشراق وجوه، إذا نفى الناس عليهم، وذكر أعرابي قومًا فقال: كانوا ليوث حرب، وغيوث جدب، إن أعطوا أغنوا كأن الدهر عجل لهم ما أخر غيرهم.
عن عائشة ﵁ قالت: كان يقال في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق.
قال أبو عباد: كان المأمون قد استقل مكاني، وأراد أن يكون انصرافي عن اختيار مني، فقال لي يومًا: لعلك قد اشتقت إلى أهلك فإن كان، فقد أذن لك أمير المؤمنين فأنشدته: [الطويل]
فإنِّي ودارٍ أنتْ فيها ابنَ معمرٍ ... كمكّةَ لم يطربْ لشوقِ حمامها
إذا اخترتُ دارًا للمقامِ ارتضيتها ... لنفسي ولم تكبرْ عليَّ مقامها
قال فأضرب عن ذلك، ولم يذاكرني به بعد ذلك، قال العباس: من وثق بالسلطان فكأنه اتكأ على الماء. قال المدائني: خرج يومًا معن بن زائدة على زواره، فقال لهم كدوني بالمسألة، ولا يقل أحدكم قد سألته مرة فإني، كما قال زياد الأعجم:
وأحسنَ، ثم أحسنْ، ثم عدنا ... فأحسنَ، ثم عدتُ لهُ فعادا [١٨]
مرارًا لا أعودُ إليهِ إلاَّ ... تبسَّمَ ضاحكًا وثنى الوسادا
فأقبل القوم يسألون حوائجهم، وهو يقضيها، حتى أتى رجل معتزل عن الناس، فقال معن: سل حاجتك، كما يسأل أصحابك، فقال: ليست لي دالة إلا فعلة إن ذكرتها، قال: وما هي؟ قال أتذكر أيها الأمير، وقد كنت بباب المنصور مع قوم ينتظرون الإذن، فابتدأ بحديث، فأقبل القوم عليك، فلما خرج الربيع بالإذن نهضوا عنك، وقطعوا عنك استماعهم منك، فأقبلت عليك بوجهي، وأصغيت إليك بسمعي، حتى فرغت من حديثك؟ قال معن: نعم، وما أنت بأخسهم فأعطاه ما سأله وفضله.
1 / 9
قال المأمون: إساءة المحسن أن يمنعك جدواه، وإحسان المسيء أن يكفّ عنك أذاه. قال: جلس قومٌ من سروات أهل الكوفة بكباسة الكوفة فتذاكروا السؤدد بينهم، فقال عبد العزيز بن مروان: أمّا أنا فمحدّثكم عن نفسي من غير تزكية لها، إذا الرجل أمكنني من نفسه، حتى أصنع معروفي عنده فيده عندي قبل يدي عنده، وإذا الرجل ضافني من خوف، فلم أبذل دمي دون دمه، فقد قصرت بحسبي، ولو أنّ أهل البخل لم يدخل عليهم من بخلهم إلاّ سوء ظنهم بربهم، في الخلف لكان عظيمًا.
ذكر أنّ طاهر بن الحسين كتب إلى المأمون يسأله من المال وغيره، مما يحتاج إليه أشياء جليلة القدر، فكتب إليه أحمد بن يوسف، عن الحسين بن منهل، وكان كاتبه: أما بعد، فإن أمير المؤمنين يكره لك أن تنتهي من السؤال لأحدٍ لا يليه إلا الردّ، والسلم.
دخل شبّة بن عقال على المنصور، فقال له: مالي أراك؟، فقال شبّة: والله يا أمير المؤمنين لأغيب عنك بشوقٍ، وألقاك بشوقٍ. فقال: لم تسألنا حوائجك، وقد عرفت مكانك، فقال: والله لا أرهب محلك، ولا أغتنم مالك، وإنّ عطاءك لشرف، وإنّ سؤالك لزين، وما بامرئْ بذل وجهه لك من نقصٍ، ولا شينٍ، فالتفت المنصور إلى ولده المهدي وغيره، فقال: التقطوا هذا الدّر، والله لهو أحسن منه.
يقال إنّ أول من اتخذ الخيش المنصور، عمله له أبو أيوب الخوزي، فقال له المنصور: لو عملت الثياب لحملت من لماء أكثر، وكانت أبرد، فاتخذ الخيش واتخذ الناس بعده، كتب إبراهيم ابن العباس إلى محمد بن عبد الملك ابن الزيات، وقد حبسه كتابًا قال في آخره: [الطويل]
أبا جعفرٍ جفَّ حفظهُ بعدَ رفعةٍ ... وقصِّر قليلاَ عن مدى غلوائكَا
لئن كانَ هذا الدَّهرُ يومًا حويتهُ ... فإنَّ رجائي في غدٍ كرجائكَا
ثم كتب في آخره أيّها الوزير: كان لي فيك أملان هما لك، والآخر بك، فأما الذي لك، فقد بلغته، وأما الأمل بك فأرجو أن يحققه الله، ويوشك به البقاء، كان يقال من أمّل رجلًا هابه، ومن قصّر عن شيء عابه، قيل لخالد بن صفوان: أي الإخوان أوجب عليك؟ قال: من سدّد خللي، وغفر زللي، وقبل عللي.
قيل للعتابي: ما يمنعك من النساء؟ فقال: مكابدة العفّة أيسر من الاحتيال لمصلحة العيال، يقال: أول المروءة طلاقة الوجه، والثانية التودّد، والثالثة قضاء الحوائج لبعضهم: [البسيط]
ألّيتُ أجلسُ إلا دونَ مرتبتي ... وأن أزاحمَ، حتّى يفتحَ البابُ
كي لا يباعدَ إن قرَّبتُ منزلتي ... ولا يواجهني بالرَّدِّ بوَّابِ
قال المأمون لليزيديّ عن ابنه العباس: فقال: لا يفلح أبدًا، فقال: من أين عرفت ذلك، وقد أمرتك بتأديبه؟ فقال: ناوله الغلام أشنانًا، ليغسل يده فاستكثره ورده إلى الأشنندانه، ولم يلقه في الطشت فعلمت أنه بخيل لا يسود، فلا يصلح للملك. قال بعض الحكماء الصبر على مرارة الأمر إبقاء الحلاوة عاقبته.
يقال شيئان لا يفترقان الحرص، والشر، وشيئان لا يجتمعان القناعة، والحسد، قيل لقيس بن عاصم: بمَ سدت قومك؟ قال: ببذل القرى، وترك المراء واحتمال الأذى ونصرة المولى، قيل لبعض الحكماء: متى يكون الأدب شرًا من عدمه، فقال إذا أكثرت الأدب ونقص العقل، وغني لأكره زيادة منطق على عقلي، قال أبو العتاهية: [الطويل]
إذا كنتَ عن أنْ تحسنَ الصَّمتَ عاجزًا ... فأنتَ عنِ الإبلاغِ بالقولِ أعجزُ
يخوضُ أناسٌ في الحديثِ ليوجزوا ... وللصّمتِ في بعضِ الأحايينِ أوجزُ
ولقد أحسن بعضهم في قوله: [الوافر]
بداهتهُ وفكرتهُ سواءٌ ... إذا ما نابهُ الخطبُ الكبيرُ
وأحزمُ ما يكونُ الدَّهرُ رأيًا ... إذا عميَ المشاورُ، والمشيرُ
قال المنصور: عقوبة الحكماء التلويح، وعقوبة السفهاء التصريح، يقال: إنه جرى بين شهرام المروزي وبين أبي مسلم صاحب الدولة كلام، فمازال يترقى بينهما إلى أن، قال له شهرام: يا لقيط، فصمت أبو مسلم وندم شهرام، فأقبل عليه معتذرًا إليه، فلما رأى أبو مسلم ذلك قال: لسان سبق، ووهم أخطأ.
1 / 10
وإنما الغضب شيطان، وأنا جرّأتك باحتمالي إياك، فإن كنت معتمدًا، فقد شاركتك فيه، وإن كنت مغلوبًا فالعذر يسعك، وقد عفونا عنك على كل حال، فقال شهرام: أيّها الأمير عفو مثلك لا يكون غرورًا، قال أجل، قال فإن عظيم لا يدع قلبي يسكن، وألحّ في الاعتذار، فقال له: يا عجبًا كنت تسيءُ، ونحن نحسن إليك فكيف نسيء إليك، وأنت تحسن.
كتب محمد بن مهران إلى بعض الأمراء: إنّ أحقَّ الناس بالإحسان، من أحسن الله إليه، وأولاهم بالإنصاف من بسط القدرة يده فاستدم ما أوتيت من النعم بتأدية ما عليك من الحق.
ذكر أن امرأةً من قريش كان بينها وبين رجلٍ خصومة، فأهدت إلى عمر فخذ جزور، ثم خاصمته إليه فتوجه الحق، والحكم عليها، فقالت يا أمير المؤمنين: افصل بيننا، كما يفصل فخذ الجزور فقضى عليها، ثم قال: إياكم والهدايا فإنها تذل الأعناق.
وروي أنّ عمر ﵁ قسّم حللًا بين الصحابة كل رجل ثوبًا، فصعد عمر المنبر وعليه حلّته، والحلّة ثوبان. فقال: أيّها الناس ألا تسمعون؟ فقال سلمان الفارسي ﵀: لا نسمع، ولا نطيع، فقال عمر: يا عبد الله ولمَ؟ قال: لأنك قسمت على كل رجل منا ثوبًا وخرجت علينا في ثوبين، فنادى يا عبد الله بن عمر فقال: لبّيك يا أمير المؤمنين. فقال: أنشدك الله، الثوب الذي آثرت به ثوبك. قال: اللهم نعم، فقال: أما الآن فقل نسمع.
كان بعض الملوك إذا شاور مرازبته في رأي فقصّروا، دعي الموكلين بأرزاقهم فعاقبهم، فيقولون تخطئ مرازبتك فتعاقبنا هذا ما لا يليق بعدلك. فيقول: نعم لم يخطئوا إلاّ لتعلّق قلوبهم بأرزاقهم، فقد شغلتم قلوبهم بالتوقف فيما ينوبهم، وإذا اهتموا انزعجت خواطرهم، وتكدّرت قرائحهم أخطأوا، أنشدنا الرياشي: [البسيط]
وعاجزُ ذا الرَّأي مضياعٌ لفرصتهِ ... حتَّى إذا فاتَ أمرٌ عاتبَ القدرَا
وكان ابن الزبير يقول: لا عاش بخير من لم يرَ برأيه ما لم يرَ ثني الله سبحانه على نبيّه إسماعيل، فقال: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) [مريم: ٥٤] فقدم صدق الوعد على كل فضيلة. [البسيط]
ولو عليكَ إتّكالي في العراءِ إذنْ ... لكنتُ أولَ مدفونٍ منَ الجزعِ
في مثله: [المتقارب]
وقد علمَ الضَّيفُ، والطَّارقونَ ... بأنَّكَ للضَّيفِ جوعٌ وقرُّ
قال مسلمة بن قتيبة: إني لأرهب الرجل مائة درهم، فأربُّ تلك المائة بألف، مخافة أن يذهب شكري فيها.
قال مسلمة بن عبد الملك: ما أزال في فسحةٍ من أمر الرجل، حتّى يتقدم إليه مني يدٌ، فإذا فعلت فليس عندي، والله إلا ربّها أبدًا عليه، حتى الممات. لبعض الشعراء في معناه: [الطويل]
وسمتْ أمراءُ بالعرُفِ، ثم تركتهُ ... ومنْ أحسنَ المعروفَ ربُّ الصَّنائعِ
آخر يهجو أخاه: [الوافر]
أبوكَ أبي، وأنتَ أخي ولكنْ ... تفاصلتِ الطَّبائعُ، والصُّنوفُ
وأمُّكَ حينَ تنسبُ أمُّ صدقٍ ... ولكنَّ ابنها طبعٌ سخيفُ
وقومكَ يعلمونَ إذا التقينا ... منْ المرجوُّ منَّا، والمخيفُ
آخر هجا أخاه: [الطويل]
غلامٌ أتاهُ اللؤمُ من عمدِ نفسهِ ... ولمْ يأتهِ من نحوِ أمٍّ ولا أبِ
المبرد قال: دخلت على أبي أيوب سليمان بن وهب، وهو متولي ديوان الخراج وبحضرته شاعر يمتدحه فسمعته ينشده: [الطويل]
أتيتُ بنَ وهبٍ أبتغي فضلَ عرفهِ ... وما زالَ حلوَ المنعِ حلوَ المواهبِ
فامنحني عزَّ حجتي بطلاقةٍ ... سكوتٌ بها عنْ منغِّساتِ الرَّغائبِ
فاستحسنها، فلما خرج الشاعر قال ابن وهب، هل سمعت من سبق إلى مثل هذا؟ فقلت: نعم، أنشدني المازني بعض المحدثين: [الطويل]
وأبيضَ ذي لونينِ أثناء قولهِ بعادِ ... وتقريبٌ، ويأسٌ ومطمعُ
إذا أمَّهُ الرَّاجي انثنى عن فنائهِ ... وفوهُ منَ التَّفريطِ ملآنُ مترعُ
بلاَ جدَّةِ نالت يدًا مستحقَّها ... سوى أنَّهُ هشٌّ، وإن كانَ يمنعُ
قال بعض البلغاء: أوسع ما يكون الكريم مغفرة إذا ضاقت بالمذنب المعذرة، سأل أبو العيناء رجلًا كان يصاحب الحسن بن مخلد عن حاله معه، فأقبل الرجل يشكره، فقال له أبو العيناء: لسان حالك يكذب لسان شكرك.
قال رجلٌ لابنه تدري لمَ سميتك معروفًا؟ قال: لا يا أبتِ، قال: لئلا تنسى اسمك.
1 / 11
ذمَّ أعرابي رجلًا فقال: صغِّره في عيني كبّر الدّنيا في عينيه، وقال بعض الزهّاد للمأمون: إنّ الله لم يرض لك أن يجعل أحدًا فوقك، فلا ترض أن يكون شكر أحد فوق شكرك.
قال المنصور لمسلم بن قتيبة: ما ترى في أبي مسلم؟ يعني صاحب الدولة فقرأ، (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) [الأنبياء: ٢٢] فقال له: حسبك.
قيل لبعض الحكماء: من أحق بالرحمة؟ قال: رجلان عاقل بلي بجاهل وكرين بلي بلئيم، قال معاوية: لقد كنت ألقى الرجل من العرب، أعلم أن في قلبه عليّ ضغنًا فيثوب إليّ منه، بقدر ما يجد في نفسه، فلا يزال يوسعني شتمًا، وأوسعه حلمًا، حتى يرجع لي صديقًا، فأستنجده فينجدني.
قال بعض الأدباء: الأيادي ثلاثة: يدٌ بيضاء، وهي الابتداء بالنعمة، ويدٌ خضراء، وهي المكافئة على النعمة، ويدٌ سوداء، وهي المنُّ بالنعمة.
قال ابن عباس ﵁: المعروف أوثق الحصون، وأفضل الكنوز، وأزكى الزروع، وأرشد الأمور غير أنه لا يصلح إلا بثلاث، قيل ما هي؟ قال: تعجيله، وتقصيره، وستره، فإنك إذا عجّلته، فقد هنّأته، وإذا صغّرته، فقد عظّمته، وإذا سترته تممته، يقال: إنّ من سمع الفتى الطيب، فلم يطرب فهو عديم حسٍّ، أو سقيم نفسٍ.
قال عمر بن هارون الصوفي: سمعت رجلًا سأل ابن عيينة يا أبا محمد أريد أن أتزوج امرأة. فقال: إيّاك، والجمال الغابر، وعليك بالأوسط فإن الشاعر يقول: [البسيط]
وليسَ منْ روضةٍ خضراءَ مونقةٍ ... إلاَّ وفيها لعمريْ أثرٌ مأكولُ
وقال جعفر بن محمد الصادق ﵇: إذا استرذل الله عبدًا أحرمه الأدب، وقال: ما وهب الله لامرئٍ هبة من عقله، ومن أدبه، هما حياة الفتى فإن فقدا ففقده للحياة التوبة.
قدّم أسرى إلى الحجاج فأمر بقتلهم، فقام رجلٌ منهم فقال: يا حجّاج لئن كنا أسأنا في الذنب، فما أحسنت في العفو، فقال الحجّاج: آن لهذه الجيف، أما كان فيهم أحد يحسن أن يتكلم بمثل هذا، ثم أمسك عن القتل، وأطلقه لبعض الشعراء: [الطويل]
يذكِّرُ نيلُ الخيرِ والشَّرِ والنَّدى ... وقولُ الخنا والعلمِ والحلمِ والجهلِ
فألقاكَ في مذمومها متنزِّهًا ... وألقاكَ في محمودهَا ولكَ الفضلُ
يقال المظلوم حسن الظن بالأيام، والظالم وجل القلب بالانتقام، لا خير في وعد مبسوط وإنجازٍ مربوط. قيل لما قدم عمر الشام تلقاه معاوية في جيشٍ عظيم، فلما دنا منه قال: أنت يا معاوية صاحب هذا الجيش، والموكب؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين قال: مهما يبلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك، فقال: مهما يبلغ من ذلك فقال: لمَ تفعل هذا؟ قال: نحن بأرض جواسيس العدو فيها كثير، فيجب أن نظهر من عزّ السلطان ما نرهبهم به، وإن نهيتني انتهيت، قال عمر: ما أسألك عن شيء يا معاوية ألا تركتني في مثل رواحب الأصابع فإن كان ما قلت حقًا إنه لرأي أريب، وإن كان باطلًا إنه لخديعة أديت، قال فمرني بأمرك يا أمير المؤمنين.
قال: لا آمرك، ولا أنهاك، فقال رجلٌ ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته، فقال: لو لم تحسن موارده ومصادره ما جشمناه ما حشمناه، وتكلم المعافى يومًا في مجلس أبي تمام الزيني فأحسن، فقال أبو تمام: هذا حديث كماء المزن، وافقه الصّادي، أنت، والله، كما قال الشاعر: [البسيط]
إنْ قالَ بمَ يهوي جميعهُمْ ... وإنْ تكلَّمَ يومًا ساختِ الكلمُ
قال المعافى: أيّها السيّد حصرت عليّ الواسع من الكلام على هذا التفضيل، إني لا أطمع في لفظ ومعنى يفيان بقدرك، وإذا كان الانتهاء بعد الكدّ إلى الفخ، كان الابتداء به أقرب إلى العذر، وما أقول فيك، والنبوة أصلك، والخلافة فرعك، والعلم ديدنك، والحلم طبعك، والعالم على ما أقول شهودك.
أبقانا الله لك خدمًا، كما جعلك لنا علمًا، تناظر شريف بنفسه وشريف بنسبه، فقال له: الشريف بنفسه أنت آخر شرف وخاتمه، وأنا أول شرف وفاتحته، وتناظر آخران في هذا المعنى، فقال أحدهما: شرفك إليك ينتهي وشرفي مني يبتدئ لبعضهم:
بهمُ مثلُ ما بالنَّاسِ لكنَّ بردهمُ ... حياءٌ وعفافٌ عن دناةِ المآكلِ
إذا الجذبُ أنسى العفَّةَ النَّاس أدنيةً ... وحامتْ عل الأنسابِ بكرُ بنُ وائلِ
1 / 12
قال رجلُ لعليِّ بن أبي طالب ﵁ وهو يخطب: يا أمير المؤمنين صف الدّنيا لنا، فقال: ما أصف من دار أولها عناء وآخرها فناء، حلالها حساب، وحرامها عقاب، من صح فيها أثم، ومن مرض فيها ندم، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن.
وقف بعض الزهّاد على رجل يضحك الناس، فقال: يا هذا أما علمت أن لله يومًا يحشر فيه المبطلون، فلم تزل تعزف الكلمة في قلب الرجل، حتى مات.
قال بعض الحكماء: من كرمت عليه نفسه صغرت الدّنيا في عينه، روي أنّ دخل الهذيل بن زفر على يزيد بن المهلب في حمالات لزمته، فقال له: إنه عظم شانك، أن يستعان بك، أو يستعان عليك، ولست تصنع شيئًا من المعروف إلا، وأنت أكبر منه، وليس العجب من أن تفعل، ولكن العجب من أن لا تفعل.
وسأل بعضهم إنسانًا في حاجة، فقال: إني مشغول عنك بكثرة الأشغال، فقال: لولا أنك مشغول بأشغالك هذه لما جئتك في شغل، ثم أنشده: [الطويل]
فلاَ تعتذرْ بالشُّغلِ عنَّا فإنَّما ... تناطُ بكَ الأشغالُ ما اتَّصلَ الشُّغلُ
وسئل رجلٌ لأسد بن عبد الله فاعتل عليه، فقال: أيّها الأمير إني سألتك من غير حاجة، فقال: وما حملك على ذلك؟ فقال: رأيتك تحت من لك عنده حسن بلاء، فأحببت أن أتعلق منك بحبل مودة، واحتجت بعض الأمراء عن وافد إليه فكتب الوافد: الضرورة، والأمل أقدماني عليك ومع العدم لا يكون صبر عن المطالبة، والانصراف بغير فائدة شماتة الأعداء، فإنما نعم مثمرة، أو فلاة مريحة، والسلام.
روى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: (ثلاث من كن فيه أدخله الله في رحمته وآواه الجنة، وكان في كنفه: من إذا أعطي شكر، وإذا قدر غفر، وإذا غضب فتر) .
قال ابن الزبير جاء رجل إلى الأحنف بن قيس، وهو جالس في المسجد، فلطم عينه، فأخذ الأحنف عينه بيمينه، وقال بسم الله ما شأنك؟.
فقال لا، والله، إلا أن رجلًا من بني تميم لطمني، فحلفت بالله لأقتص من سيد بني تميم فقال: ويحك فهلا ذهبت إلى جارية ابن قدامة، فقد تضمن هذا حلم الأحنف، وتواضعه، وكيف أعتقد أن غيرة السيد ونصحه للرجل؟ كيف حلف ليقتصن من سيدهم؟ فأرشده إلى جارية ابن قدامة ليبرّ قسمه وإلا، فما كان قصده أن يؤذي جاره ابن قدامة، لأن هذا مما لا يليق بحلمه وعقله، ووقاره. كان ابن عطا يقول: الاحتيال في دفع البلاء زيادة في البلاء لبعضهم: [الطويل]
وكنتُ سعيدَ الجدِّ، إذ كنتُ حاضرًا ... ومن يقتربْ منكمْ فداكَ سعيدُ
سأستعتبُ الأيَّامَ فيكَ لعَّلها ... ببعضِ الذي كنّا عليهِ نعودُ
أخبرنا شيخنا الإمام ناصح الإسلام أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني ﵀ قال: أخبرنا أبو علي الحسن الحادذي قال: حدثنا المعافى بن زكريا الحريري قال حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال: حدثنا ابن المرزبان قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الجوهري قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك، قال: حدثنا الهيثم بن عدي عن عوانة بن الحكم قال: لما استخلف عمر بن عبد العزيز ﵁ وفد الشعراء إليه.
فأقاموا ببابه أياما لم يؤذن لهم، فبيتاهم كذلك يوما، وقد أزمعوا على الرحيل، أمر بهم رجاء بن حيوة، وكان من خطباء أهل الشام، فلما رآه جرير واقفًا على باب عمر، أنشأ يقول:
يا أيُّها الرجلُ المرخي عمامتهُ ... هذا زمانكَ فاستأذن لنا عمرّا
قال: فدخل، ولم يذكر من أمرهم شيئا، ثم مر بهم عدي بن أرطاه فقام إليه وقال: [البسيط]
يا أيّها الرجلُ المرخي مطيَّتهُ ... هذا زمانكَ قد مضى زمني
أبلغْ خليفتنَا إن كنتَ لاقيته ... إنِّي لدى الباب كالمصفودِ في قرن
لا تنسَ حاجتنا لقّيتَ مغفرةً ... قد طالَ مكثني عن أهلي وعن وطني
قال: فدخل عدي على عمر ﵀، فقال: يا أمير المؤمنين الشعراء ببابك وسهامهم، وأقوالهم نافذة، فقال: ويحك يا عدي مالي وللشعراء، قال أعز الله أمير المؤمنين، إن رسول الله ﷺ قد امتدح فأعطى، ولك في رسول الله ﷺ أسوة حسنة، فقال كيف قال امتدحه العباس بن مرداس السلمي، فأعطاه حلة قطع بها لسانه، قال: أتروي من شعره شيئا؟ قال نعم، فأنشده: [الطويل]
رأيتكَ يا خيرَ البَّريةِ كلَّها ... نشرت كتابًا جاءَ بالحقِّ معلِّما
1 / 13
شرعتَ لنا دينَ الهدى بعدَ جودنا ... عنِ الحقِّ لمَّا أصبحَ الدينُ مظلما
ونوَّرتَ بالبرهانِ أمرًا مدمَّسا ... وأطفأتَ بالبرهانِ نارًا تضرّما
فمنْ مبلغٍ عنِّي النبيّ محمَّدًا ... وكلُّ امرئٍ يجزى بما كان قدَّما
أقمتَ سبيلَ الحقِّ بعدَ اعوجاجهِ ... وكان قديمًا ركنهُ قد يهدَّما
تعالى علوًَّا فوقَ عرشِ إلهنا ... وكانَ مكانُ اللهِ أعلاَ، وأعظما
فقال، ويحك يا عدي من الباب منهم؟ قال: عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة، قال أليس هو الذي يقول:
ثمَّ نبَّهنها فقامت كعابًا ... طفلةً ما تبيِّنُ رجعَ الكلامِ
ساعةً ثم أنَّها بعدَ قالت ... ويلتا قدْ عجلتَ يا ابنَ الكرامِ
أعلى غيرِ موعدٍ جئتَ تسري ... تتخطَّى إلى رؤوسِ النّيامِ
ما تجشَّمتُ ما ترينَ من الأمرِ ... ولا جئتُ طارقَ الخصامِ
لو كان عدو الله إذا فجر كتم على نفسه لا يدخل والله علي، فمن بالباب سواه قال همام بن غالب الفرزدق، قال: أو ليس هو الذي يقول: [الطويل]
هما دلّيانّي من ثمانين قامةٍ ... كما انقضَّ باز أفقم الرأسِ كاسرةْ
فلمَّا استوت رجلايَ في الأرضِ ... أخيُّ يرجى أم قتيلُ نماذرة؟
لا يطأ، والله بساطي، فمن بالباب سواه؟ قال الأخطل: قال يا عدي هو الذي يقول: [الوافر]
ولستُ بصائمٍ رمضانَ طوعًا ... ولستُ بآكلٍ لحمَ الأضاحي
ولستُ بزاجرٍ عيسًا بكورًا ... إلى بطحاءَ مكةَ للنَّجاحِ
ولستُ بزائرٍ بيتًا بعيدًا ... بمكَّةَ أبتغي فيها صلاحي
ولكنني سأشربها شمولًا ... وأسجدُ عندَ منبلجِ الصَّباحِ
والله لا يدخل علي، وهو كافر أبدًا. فهل بالباب سوى من ذكرت أحد؟ قال: نعم الأحوص، قال أو ليس هو الذي يقول: [المنسرح]
اللهُ بيني وبينَ سيّدها ... يفرُّ منِّي بها، وأتبعها
عذب عليه، فما هو بدون من ذكرت، فمن هنا أيضا؟ فقال: جميل بن معمر، قال: يا عدي هو الذي يقول: [الطويل]
ألا ليتنا نحيا جميعًا، وإن أمتْ ... يوافقُ في الموت ضريحي ضريحها
فما أنا في طولِ الحياةِ براغبٍ ... إذا قيل قد سوَّى عليها صفيحها
فلو كان عدوًا لله تمني لقاءها في الدنيا ليعمل صالحًا بعد ذلك، فلا، والله لا يدخل علي أبدا فهل سوى من ذكرت أحد؟ قال: نعم جرير بن عطية أما إنه القائل:
طرقتكِ صائدةُ القلوبِ وليسَ ذا ... وقتُ الزّيارةِ فارجعي بسلامِ
فإن كان، ولابد فهو فائذن لجرير، فدخل عليه، وهو يقول: [الكامل]
إن الذي بعث النبي محمدًا ... جعل الخلافة في الإمام العادل
وسعَ الخلائقَ عدلهُ، ووقارهُ ... حتَّى ارعوى، وأقامَ ميلَ المائلِ
إني لأرجو منكَ برًَّا عاجلًا ... والنفسُ مولعةٌ بحبِّ العاجلِ
فلما مثل بين يديه قال: ويحك يا جرير اتق الله، ولا تقل إلا حقا فأنشأ يقول: [البسيط]
أأذكرُ الحمدَ والبلوى التي نزلتْ ... أم قد كفاكَ الّذي بلغتَ من خبري
كمْ باليمامةِ من شعثاءَ أرملةٍ ... ومن يتيمٍ ضعيفِ الصوتِ والبصرِ
ممَّن بعدلكَ يكفي فقد والده ... كالفرخِ في العشِّ لم ينهض ولم يطرِي
يدعوكَ دعوةَ ملهوفٍ كأنَّ بهِ ... خيلًا منَ الجنِّ أو مسًّا منَ البشرِ
خليفةَ اللهِ ماذا تنظروننا ... لسنا إليكمُ، ولا في دارِ منتظرِ
مازلتُ أجدكَ في همٍ يؤرقني ... قد طالَ في الحيِّ إصعادي ومنحدري
لا ينفعُ الحاضرُ المحمودُ بادينا ... ولا يعودُ لنا بادٍ على حضري
إنا لنرجو إذا ما الغيثُ أخلفنا ... منَ الخليفةِ ما نرجو منَ المطرِ
نالَ الخلافةَ، إذ كانت على قدرٍ ... كما أتي ربّهُ موسى على قدرِ
هذي الأراملُ قد قضيتَ حاجتهم ... فمن لحاجةِ هذا الأرملِ الذّكرِ
الخيرُ ما دمتَ حيًَّا لا يفارقنا ... بوركتَ يا عمرَ الخيرات يا عمرِ
1 / 14
قال يا جرير ما أرى لك فيما هاهنا حقًا، قال: ما بي يا أمير المؤمنين: أنا ابن سبيل منقطع بي، فأعطاه من صلب ماله مائة درهم، وقد ذكر أنه، قال له: ويحك يا جرير، لقد ولينا ألينا هذا الأمر، ولا نملك إلا ثلاثمائة درهم مائة أخذها عبد الله، ومائة أخذتها أم عبد الله، ومائة موجودة، يا غلام أعطه المائة الباقية.
قال: فأخذها وقال: هي، والله خير لي من جميع ما اكتسبته طول عمري، ثم خرج، قال له الشعراء: ما وراءك يا جرير؟ قال: ما يسوءكم، خرجت من عند أمير المؤمنين، وهو يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء وإني عنه لراضٍ، ثم أنشدهم: [الطويل]
رأيتُ رقي الشّيطانِ لا تستنفزهُ ... وقد كان شيطاني منَ الجنِّ راقيًا
احتاز صديقان على دار خالد بن صفوان، فعرّج أحدهما إليه وعبر الآخر فقبل له في ذلك، فقال: عرّج هذا لفضله، وعيّر ذاك لثقته لبعضهم: [الكامل]
وإذا الفتى قعدت بهِ أيامهُ ... لم ينتعش إلاّ بعونِ كريمِ
فأعن على الزَّمنِ الغشومِ فإنَّما ... يدعى العظيمُ لدفعِ كلِّ عظيمِ
ولبعضهم: [الكامل]
ولقد تبسَّمتَ النَّجاحَ لحاجتي ... فإذا لها من راحتيكَ نسيمُ
ولربّما استيأستُ، ثم أقولُ لا ... إنّ الّذي ضمنَ النَّجاحَ كريمُ
قال بكر بن محمد بن المازني: قال إسحق بن عيسى الهاشمي لجلسائه أنا أعلم أن في منازلكم، ما تأكلون من خبز ولحم وإنما تطيب المجالس بالتبذل فانتزعوا ثيابكم لابن كناسة: [المنسرح]
فيَّ انقباضٌ وحشمةٌ فإذا ... صادفتُ أهلَ الوفاءٍ، والكرمِ
أرسلتُ نفسي على سجيّتها ... وقلتُ ما قلتُ غيرُ محتشمِ
روي أن المأمون قال لعبد الله بن طاهر: أيما أطيب مجلس، أو مجلسك؟ فقال: ما عدلت بك شيئا يا أمير المؤمنين، فقال له المأمون: ليس إلى هذا ذهبت، إلى الموافقة في العيش، واللذة، فقال يا أمير المؤمنين منزلي، قال: ولم ذاك؟ قال لأني فيه، مالك، وأنا هاهنا مملوك.
قال كسرى أنوشروان: من لم يكن في داره بستان، أو قدامه ريحان، أو هو على نهر جار، أو عنده صبي يلاعبه فمات، فإنما موته من الغمّ، وقال أبو حاتم في الموافقة وحسن الاتفاق: [الكامل]
وفتيةٍ قد عطفوا على الإخاء ... إن قالَ بعضُ لا أجابوهُ بلاَ
ظرفًا وإنَّ قالَ بلى قالوا بلى ... شخوصهم شتَّى، وهم نفسُ فتى
وقال أيضًا إنّ يوم الريح للنوم، ويوم الغيم للصيد، ويوم المطر للهو، والشرب، ويوم الشمس للحوائج، وما أحسن، قول أبي نواس: [الطويل]
وليس الغنى والفقرُ من خلَّةِ الفتى ... ولكن أحاطتْ سمةٌ وحدودُ
قال بعضهم لرجل كان بتعهده، ويواسيه بمعروفه، سل الذي رحمني أن يرحمك لي، وقد أحسن بن أبي حفصة في قوله: [البسيط]
والرأيُ كالسيفِ ينبوا إن ضربتَ بهِ ... في غمدهِ وإذا جرَّدتهُ قطعا
وقال حضين بن المنذر: [الكامل]
إنَّ المروءةَ ليس يدركها امرؤٌ ... ورثَ المكارمَ عن أبٍ فأضاعها
أمرتهُ نفسٌ بالدَّناءةِ، والخنا ... ونهتهُ عن طلبِ العلي فأطاعها
وإذا أصابَ منَ الأمورِ كريمةً ... بني الكريمُ لها المكارمَ باعها
وكتب المعتصم إلى عبد الله بن الحسين الحمد لله أدخلك من خليفته محل نفسه، فمالك مرتبة تسمو إليها نفسك غلا، وأنت فوقها عنده. وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر: عافانا الله وإياك، كانت في نفسي عليك هناءة، غفرها الاقتدار عليك، وقد بقيت في قلبي عليك خرارة، وأخاف عليك منها، عند نظري إليك.
فإن أتاك ألف كتاب مني أستقدمك، فلا تقدم، فحسبك معرفة بما أنطوي عليه لك إطلاعي إياك على مالك في نفسي، والسلام. ولما كتب الضحاك بن قيس الخارجي إلى مروان بن محمد، لأجهزن إليك المرد على الجرد، فأجابه لأحملن إليك الكهول على الفحول.
قال الفضل بن مروان: دخلت يومًا على المعتصم، ومعي خبر من بابك كيسوة وخبر جارية حسناء أراد شراءها، فلم يمكنه، ثم تهيأ في أمرها ما يسره، فبدأته بخبر الجارية لتطيب نفسه قبل أن أخبره بخبر بابك، فلما سمع خبر الجارية سره سرورًا ظاهرًا وقال: الآن علمت أني خليفة.
1 / 15
ما كانت لي دنيا، ولا خلافة، وليست في ملكي أن أهب لها، فكأنه خف في عيني، ثم عرفته خير بابك فاسترجع، وقال أستعين عليه بالله وبقرابتي من رسول الله، وبدولة الحق، ويمن تدبيرك يا فضل فتقل، والله في عيني وجل. قيل لمحمد بن المنذر ما تشتهي؟ فقال محادثه محبوب، وتنفيس عن مكروب. قيل إن عتبة بن أبي سفيان، قال لمؤدب ولده: بك يا عبد الكريم أول ما تبدأ به من إصلاح ولدي إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبح ما تركت.
ثم علمهم كتاب الله ﷿، ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منه فيهجروه، وروّهم سير الحكماء، ولا تنقلهم من علم إلى علم، حتى يتقنوه، فإن ازدحام العلم في السمع مفضلة الفهم، وكن كالطبيب الأديب الذي لا يعجل بالدواء قيل: معرفة الداء، وتهددهم بي، وأدبهم دوني، ولا تتكل على عذر مني، فقد اتكلت على كفاءة منك، واستزدني بزيادتك إياهم، أزدك إن شاء الله تعالى.
ذكر هشام بن عبد الملك أنه كان عند الأبرش الكلبي جالسًا، فخرجت جارية له عليها حلة، فقال له هشام: مازحها يا أبرش، فقال لها ما أحسن حلتك لو بعتها، أو وهبتها لي. فقالت، والله لأنت أطمع من أشعب، فقال هشام، ومن أشعب؟ قالت رجل من المدينة يضحك الناس، وحدثته من أحاديثه، وأضحكته، فقال هشام: اكتب إلى إبراهيم بن هشام يحمله إلينا، فكتب الكتاب وختمه هشام، ثم مكث ساعة صامت، ثم مرت شفتيه بشيء، ثم قال يا أبرش أمير المؤمنين هشام يكتب إلى بلد رسول الله ﷺ يحمل إليك مضحك، ثم قال شعر: [الطويل]
إذا أنتَ لم تعصِ الهوى قادكَ الهوى ... إلى ما فيهِ عليكَ مقالُ
قال خالد بن صفوان: دخلت على هشام بن عبد الملك، وهو جالس على كرسي إلى جانب بركة له، وفيها رجال من أصحابه في مآزر، فقال لي: كن في مثل حالهم، ففعلت، ثم خرجت فجلست، فتنفس.
ثم قال: يا خالد رب خالد كان يجلس مجلسك هذا، كان أحب إلي منك، فعلمت أنه يعني خالدًا ما سألني شيئًا قط، ابتدأ به، وما ازدادني على عظيمة قط، فقلت ذلك أحرى أن تعيده، فقال: إن خالدًا أدل فأمل، وأخف فأعجف، ثم أنشد: [الطويل]
إذا انصرفت نفسي عنِ الشيءِ لم تكد ... إليهِ بوجهِ آخرِ الدَّهرِ تقبلُ
قال سعيد بن العاص: موطنان لا اعتذار فيهما من العيّ، إذا كلمت سفيهًا، أو أحمق، وإذا سألت حاجة لنفسي، وأنشد: [الخفيف]
ربَّ، قول يهيجُ منهُ جوابًا ... تتمنَّى أن لا تكونَ سمعتهُ
كلَّما خفتَ من سفيهٍ جوابًا ... فأطلتَ عنهُ عممتهُ
كتب الحسن بن سهل لرجل كتاب شفاعة، فقام الرجل يدعو، له، ويشكره، فقال الحسن علام تشكرني، ونحن نرى كتب الشفاعات زكاة مروّآتنا وجاهنا، ثم أنشد: [الوافر]
فرضتَ عليَّ زكاةَ ما ملكتْ يدي ... وزكاةَ جاهي أن أعينَ، وأشفعا
فإذا ملكتَ فجدْ فإن لم تستطع ... فاجهدْ بوسعكَ كلّهِ أن تنفعنا
قال رجل لعمر بن عبد العزيز لما أفضي إليه الأمر: والله يا أمير المؤمنين، لأنت أزين للخلافة منها لك، والخلافة إليك أحوج منك إليها، وما مثلك ومثلها إلا، كما قال الشاعر: [الخفيف]
وإذا اللهُ زانَ حسنَ وجوهٍ ... كانَ للدُّرِّ حسنُ وجهكِ زينا
وتزيدُ بنَ أطيبِ الطّيبِ طيبًا ... إن تمسّيهُ أينَ مثلكَ أينا
قيل لأفلاطون: أي شيءٍ من أفعال الناس يفعل كفعل الله سبحانه، وتعالى؟ قال: الإحسان إلى الناس. يقال لكل جواد كبوة ولكل صارم نبوة. قال الأحوص: بلغني أن بعض الملوك قال لوزرائه: اجمعوا لي علما فجمعوا له قدر وقر بعير، فقال من يحفظ هذا تجيروا منه كلمات، وهي لا تحملن بطنك ما لا تطيق، ولا تعملن عملًا لست لك فيه منفعة، ولا تتغنّ بامرأة، ولا تغترنّ بمال، وإن كثر.
وقال بعض الحكماء: ثلاث خصال يسود بها المرء: العلم، والعقل، والأمانة. وخصلتان ليست لصاحبها راحة إلا مفارقتهما: الطعام المخوف، والصاحب الخائن. من كلام الفقهاء وحسن استنشادهم وافتخارهم في وقت مناظراتهم. كان العنبري، وهو عبيد الله بن الحسن، ينشد في مجلس نظره:
إذا أفلج على خصمهِ يهتزُّ حينُ ... عن حجة خصمه خوفَ الهضيمةِ كاهتاز
وأنشد أبو بكر بن داود لشريح في آخر كلامه: [البسيط]
1 / 16
لا تحسبِ المجدَ تمرًا أنتَ آكلهُ ... لن تبلغَ المجدَ، حتَّى تلعقَ الصَّبرا
وقال الدادكي يومًا لابن طران، وهو المعافى بن زكريا في مجلس محمد بن صالح الهاشمي، القاضي المعروف بابن أم شيبان: لم أفهم ما قلت، فقال ابن طران: صدقت إنك لم تفهم لو فهمت لم تناظر، ولكن علي أن أقول ما نفهم، وليس علي أن أقول ما تفهم، وإن أبيت فبيني وبينك، قول الشاعر: [البسيط]
عليَّ نحتُ القوافي من مقاطعها ... وما عليَّ لهمْ أن تفهمَ البقرُ
ونظر ابن المرزبان يومًا في شيء من مذهب مالك فبان ضعفه، فأنشد أبو حامد: [الطويل]
ومن يبتدعْ ما ليسَ من خيمِ نفسهِ ... يدعهُ، ويغلبهُ على النفسِ حتمها
وكان ابن كعب الأنصاري ينشد إذا رأى خصمه قد أعاد كلامه بلا زيادة مفيدة معه: [الطويل]
إذا ما انتهى تناهيتُ عندهُ ... أطالَ فأبلي أم تناهي فأقصرَا
قال أبو حامد كنت في مجلس ابن المغلس، فدخل بعض أصحاب أبي علي بن جبران، ثم جرى كلام في مسألة، فأساء صاحب ابن جبران الأدب وجانب حسن العشرة، فأقبل عليه ابن المغلس، فقال: إن كان جرأك علي قولي لك، إنك لعلم فأغنيت به علم البيطار الذي في ذنب الحمار، فخزي ذلك الحاضر، وتمنى أن تلقمه الأرض، وناظر أبو حامد أبا جعفر الأبهري فأنشد: [الطويل]
ألم ترَ أنَ الحقَّ يلقاكَ أبلجا ... وإنكَ تلقى باطلَ القولِ لجلجا
وأنشد علي بن محمد بن أيان في مناظرته: [الرجز]
عندَ الرِّهانِ يعرفُ الضّمارُ ... ويعرفُ السَّابقُ، والخوَّارُ
وناظر أبو حامد فانبرى الأبهري يتكلم مداخلا فأنشد: [الطويل]
فإن تكُ قيسُ قدَّمتكَ لنصرها ... فقد خزيت قيسُ وذلَّ نصيرها
ومن كلام أبي عيسى الورَّاق: من ظلم في المناصرة أنصفت منه الحجة، ومن قلّد في مذهبه حكم الخصوم في نفسه، ومن عدم القصد في نظره بعد عن إدراك بقيتة، ومن وضع شيئًا في غير موضعه، واعتقد في غير حقيقته، فقد ظلم نفسه وعقله ودل على سوء اختياره.
وتناظر المعافى، والدادكي يومًا فكثر تنحنح الدادكي بكلام كان يوعد فيه، فأنشد المعافى: [الطويل]
وإني امرؤ لا تقشعر دابَّتي ... منَ الذئبِ يعدو أو الغرابُ المحجّل
وقال أبو ظاهر الأنماطي أنا، والله معك، كما قيل: [المتقارب]
أريها السُّهى وتريني القمر
وأنشد بعضهم: [الطويل]
فلا تأمني سرِّي إذا ما أهنتني ... وإن كانَ مكنونُ الهوى قد صفا لكي
قال القاضي أبو حامد قال لي المهلبي يومًا، والمجلس غاصٌ بأعلام الناس، وهم يتكلمون، قل أيها الشيخ ما عندك؟ فأنشدت: [المتقارب]
أقولُ إذا استنطقتني غير معجم ... ولا ملجئي عيًا ولا تاركًا قصدًا
واسكت إجلالًا وأصمت عالمًا ... وأنطق بالحسنى وأمحضك الودا
قال المهلبي: من يلومني على إدنائك، وتقريبك، وقلة الصبر عنك، أنت، والله العتيق وغيرك المفرق.
قال أبو حامد يومًا أمر لأبي علي الشابشتي افهم عن نفسك، ثم حاول أن يفهم عنك جليسك، فإنك أقرب إليك من غيرك وقال أبو زيد الحروزي لأبي عبد الملكي، وقد احتج في استدلاله بشيء: [الوافر]
إذا لم تستطع شيئًا فدعه ... وجاوزهُ إلى ما تستطيعُ
قال الواقدي: حدثني يونس بن محمد المظفري، عن يعقوب بن عمر بن قتادة قال: أخبرني محمد بن ثابت بن قيس بن شماس قال: كان ثابت بن قيس الأنصاري رجلًا جهوري الصوت، يحب الجمال، والشرف، وكان قومه قد شرفوه بذلك، فلما أنزل الله سبحانه على رسوله ﷺ: (إن الله لا يحب كل مختال فخور) [لقمان: ١٨] انصرف ثابت من عند رسول الله ﷺ وهو ينتحب، فدخل بيته، وأغلق بابه وطفق يبكي، فافتقده النبي ﷺ فأخبر بما فعل، فسأله عن سبب انقطاعه فقال: أنزل الله عليك: (إن الله لا يحب كل مختال فخور) [لقمان: ١٨] وأنا أحب الجمال، وأحب أن أسود قومي، فقال النبي ﷺ: (إنك لست منهم، إنك تعيش بخير، وتدخل الجنة بخير) فلما قال ذلك رسول الله ﷺ خرج من بيته، وسر بما قال له، ثم أنزل الله: (ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول) [الحجرات: ٢]
1 / 17
فرجع ثانية إلى بيته ينتحب، فدخل بيته، وأغلق بابه، وافتقده النبي ﷺ فسأل عنه أبا مسعود الأنصاري، فأخبره خبره، فأرسل إليه، فقال: إن الله أنزل عليك: (ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم) [الحجرات: ٢] وإني أخاف أن يكون قد حبط عملي، فقال النبي ﷺ: (إنك لست منهم إنك تعيش حميدًا، وتدخل الجنة شهيدًا) فكان ثابت يتوقع الشهادة في حياة النبي ﷺ: فلما توفي وارتدت العرب، وبعث أبو بكر الصديق ﵁ خالد بن الوليد إلى اليمامة، انتدب ثابت بن قيس، فعقد له أبو بكر لواء على الأنصار، ثم مع خالد إلى أهل الردة، فشهد وقعه طلحة في أصحابه، ثم شهد اليمامة، فلما رأى انكشاف المسلمين.
قال ثابت وسالم، فحفر لنفسيهما حفرتين، فقاما فيهما، مع سالم راية المهاجرين ومع ثابت راية الأنصار، حتى قتلا، وعلى ثابت يومئذ درع كانت لآبائه، فمر بها رجل من الصحابة فأخذها، فأري بلال بن رباح ثابت بن قيس في منامه، وهو يقول له: إني أوصيك بوصية إياك أن تقول هذا حلم فتضيعه إني لما قتلت أمس جاء رجل من ضاحية نجد وعليّ درعي، فأخذها فأتي بها منزله فألقى عليها برمة.
وجعل على البرمة رجلًا وخبأه في أقصى المعسكر على جانب خيامه فرس يسير في طوله، فأتى خالد بن الوليد فخبره فليبعث إلى درعي فليأخذها، وإذا قدمت على خليفة رسول الله ﷺ فأخبره أن علي دينٌ، وهو كذا وكذا، ولي من الدين كذا وكذا فليستقصنّ لي وليقض عني، ومبارك وسعد غلماني حران لوجه الله تعالى، فلما أصبح بلال أتى خالد فخبره الخبر فبعث خالد نفرًا إلى الدرع فوجدها.
كما قال، فلما قدم بلال المدينة صار إلى الصّديق أبي بكر فأخبره بوصية ثابت، فأجازها، فلا نعلم أحد من المسلمين أجيزت وصيته بعد موته إلى ثابت بن قيس الأنصاري رحمة الله عليه، قرئ على دار أبي عبد الله بن مقلة بعد خرابها: [البسيط]
كانوا بأنعم عيشٍ في منازلهم ... أخلا المنازلَ من سكانها البطرُ
فصحبتهم منَ الأيام داهيةُ ... صمَّاءَ عمياءَ لا تبقي ولا تذرُ
وقرئ على دار نازوك بعد خرابها: [مجزوء الكامل]
أحسبتَ أنَّ معقِّبا ... تكَ منجياكَ من حمامكَ
هذا الذي صنعت يمين ... كَ قد تصرّمَ بانصرافكَ
قيل إنّ أعرابيًا دخل على أبي عبد الله، وهو إذا ذاك وزير المهدي، وقد كان للأعرابي عليه وعد فقال: أيها الشيخ السيد إني، والله لأنسحب على كرمك، وأستوطي فراش مجدك، وأستعين على نعمك بقدرك، وقد مضى لي موعدان، فاجعل النجح ثالثا أفدك شكرا في العرب شادخ الغرّة بادي الإفصاح، فقال أبو عبد الله: يا هذا ما وعدتك تقديرًا، ولا أخرتك تقصيرًا، ولكن الأشغال تعطي، وتأخذ بأوفر الحظ مني، وأنا أبلغ لك حمد الكفاية ومنتهى الوسع بأوفر مأمول، وأحمد عاقبة، وأقرب.
فقال الأعرابي يا جلساء الصدق قد أحضر لي الجواب، فهل من معين منجد، ومساعد منشد؟، فقال بعض أحداث الكتاب لأبي عبد الله: والله أصلحك الله لقد قصدك، وما قصد، حتى أملك، حتى أجاد النظر، وآمن الخطر، وأيقن بالظفر، فحقق أمله بتهيئة التعجيل فإن الشاعر يقول: [الطويل]
إذا ما اجتلاهُ المجدُ عن وعدِ أملِ ... تبلجَ عن بيسٍ ليستكملَ الشّكرا
ولم يسلهُ مطلَ الغداة عن الذي ... يصونُ الحمدَ الموّقرَ والأجرا
فأحضر للأعرابي عشرة آلاف درهم، فقال الأعرابي للفتى: خذها، فأنت سببها، فقال الفتى: شكرك أحب إلي منها، فقال أبو عبيد الله: خذها، فقد أمرت للكاتب بمثلها، فقال الأعرابي الآن كملت النعمة، وتمت المنّة أحسن الله جزاك، وأدام نعماك.
قصد بعض الشعراء للفضل بن الربيع، فقال له قصدتك أيها الأمير بيتين من الشعر أسأل استماعهما مني، فقال له: أنشد فقال: [السريع]
صارمني النَّاس وصارمتهم ... فصرتُ أحفا من جميعِ الجهاتِ
وأنتَ لي وحدكَ من بينهم ... وقد تكلّفتَ برزقي فهاتِ
ومد يده إليه فأطلق عشرة آلاف درهم، فأخذها وانصرف. في ذم أبخر: [البسيط]
ألقى ابنُ عجلانَ خبزًا كانَ يأكلهُ ... إلى سنانيرهِ في الدّارِ من فيهِ
فشمَّمتهُ فظّنت أّنها خريت ... فأقبلت نحوهُ في التّربِ تخفيهِ
ولبعضهم في معناه: [المتقارب]
1 / 18
وأبخرَ ألقى إلى قطّهِ ... لقيمةً من فمهِ الأبخرِ
فبادرَ القطُّ إلى دفنها ... يحسبها من بعضِ ما قد خري
وقع محمد بن عبيد الله في رقعة رجل ألح عليه: [الطويل]
تأنَّ مواعيدَ الكرامِ فربّما ... حملت منَ الإلحاح سمحًا على بخلِ
كان من أصحاب أبي عبد الله وزير المهدي رجل يعرف بعمران بن شهاب الكاتب، فاستعان على أبي عبد الله في بعض أموره ببعض إخوانه، فلما قام الرجل، قال أبو عبيد الله: يا عمران لولا أن حقك حق لا يجحد، ولا يضاع، لحجبت عنك حسن نظري، أتظنني أجهل لإنسان، حتى أعلمه، ولا أعرف موضع المعروف، حتى أعرفه، لو كان لا ينال ما عندي إلا بغيري لكنت بمنزله البعير الذلول عليه الجميل الثقيل، إن أقيد انقاد، أو أنيخ نزل لا يملك من نفسه شيئًا، فقلت معروفك بمواقع الصنائع مذكّرًا.
فقال، وأي أذكار لمن قضى حقك أبلغ من مساءلتك عليه، ومصيرك إليه، إنه، متى لم يتصفح المأمول أسماء مؤمليه تقلبه غدوًّا ورواحًا لم يكن للأمل محل، وجرى المقدرة لمؤمليه بما قدر، وهو غير محمود على ذلك، ولا مشكور، وما لي شيء أدرسه بعد وردي من القرآن إلا أسماء رجال التأميل لي، وما أبيت ليلة، حتى أعرضهم على قلبي لبعضهم: [الطويل]
إذا أوليوا قالوا ضمنّا ومالنا ... سبيلٌ إلى فعلِ اليسيرِ منَ البرِّ
وإن عزلوا قالوا عزلنا بعطلةٍ ... فكيفَ لنا منهمُ بالرفد بني النظرِ
ومما يستشهد به من الشعر: [الطويل]
ولو كانَ لي في حاجتي ألفُ شافعٍ ... لما كانَ فيهم مثلُ جودكَ شافعِ
وكنتُ شفيعَ راجيهِ إليهِ ... فألجأني الجفا إلى شفيعِ
وقد كنتُ أرجو للصّديقِ شفاعتي ... وما صرتُ أرضى أن أشفعَ من نفسي
آخر في مدح رجل: [الكامل]
واستكبرَ الأخبارَ عندَ لقائهِ ... فلمّا التقينا صغَرَ الخبرَ الخبرُ
في معنى آخر: [الكامل]
ولئن سكتَ وبانَ في وجهي الرِّضا ... بقيا عليكَ فإنَّ قلبي ساخطُ
آخر: [الوافر]
وفي عينيكَ ترجمةٌ أراها ... تدلُ على الضّغائنِ والحقودِ
آخر:
وكيفَ يديرُ أمرَ البلادِ ... فتىً أمرُ منزلهِ مهملُ
آخر: [الكامل]
جهلوا السّبيلَ إلى المكارمِ في العلى ... ورضوا منَ الأفعالِ بالألقابِ
آخر: [الوافر]
وأقربُ ما يكونُ النَّجحُ يومًا ... إذا شفعَ الوجيهُ إلى الجوادِ
آخر: [الوافر]
وكنّا لا نحجّبُ عن ملوكٍ ... فقد صرنا تحجّبُ عن كربي
آخر: [الخفيف]
إنّما تنجحُ المقالةُ في المرءِ ... إذا صادفت هوىً في المرادِ
وأشارت بما أتيت رجالٌ ... كنتُ أهدي منها إلى الإرشادِ
وله: [الطويل]
وكلُّ امرئٍ يولي الجميلَ محبّبٌ ... وكلُ مكانٍ ينبتُ الغرَّ طيِّبُ
وأظلمُ أهلِ الظّلمِ من باتَ حاسدًا ... لمن باتَ في نعمائهِ يتقلبُ
وقف أعرابيٌّ بباب خالد بن عبد الله القسري، فقال للحاجب: أوصلني إلى الأمير، امتدحه ببيتين من الشعر ما قيل مثلهما، قال له: وما هما؟ قال: أكره أن تبتدلا، فاستأذن لنا. وله، فلما دخل أنشده: [الكامل]
لمنِ الدّيارُ كأنّها قفرُ ... قد ماتَ في حيطانها البعرُ
إنَّ الأميرَ يكادُ من كرمٍ ... أن لا يكونَ لأمِّهِ بظرُ
فاستلقى خالدٌ ضحكًا، حتى كاد أن يحدث، ثم أمر له بجائزة وقال: من كان هذا مدحه، ما ترى أن يكون ذمه لبعضهم: [الطويل]
فإن تسألوني بالنِّساءِ فإنّني ... عليمٌ بأدواءِ النّساءِ طبيبُ
إذا شابَ رأسُ المرءِ أو قلَّ مالهُ ... فليسَ لهُ في ودِّهنَّ نصيبُ
قيل لمعن بن عبد الله، وقد ورث مالًا جزيلًا: لو ادخرت هذا المال لأولادك فقال: بل أدخره لنفسي عند الله، وأدخر الله لأولادي.
دخل السدي على عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه، لما ولي الخلافة، فقال له عمر: أسرّك ما رأيت أم ساءك؟ فقال سرني للناس وساءني لك، فقال عمر: إني أخاف أن أكون قد أوبقت نفسي له، ما أحسن حالك، إن تخاف وإنما أخاف عليك أن لا تخاف، فقال له: عظني، فقال له: إنّ أبانا آدم، أخرج من الجنة بخطيئة واحدة. قال سفيان: ترك الملوك لكم الحكمة فاتركوا لهم الدّنيا.
1 / 19
كان عمر بن عبد العزيز يقول: اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك، وهو توحيدك، ولم أعصيك في أبغض الأشياء إليك، وهو الكفر، فاغفر لي ما بينهما. قال المنصور لرجل من بني أمية كان في حبسه ما ذهب بكم، فقال شرب العشيّان، وإسناد الأمور، إلى غير الكفاءة فالتفت إلى ولده المهدي وقال: احذرها يا أبا عبد الله. نظر بعض ملوك الفرس إلى مملكته فقال: هذا ملك لولا أنه هلك، وسرور لولا أنه غرور، وأنه ليوم لو كان يوثق له بعد. دخل أعرابي على عبد الملك بن مروان، فقال له: يا أعرابي صف لي الخمر فأنشد: [الطويل]
شمولٌ إذا شجت وفي الكأسِ وردةٌ ... لها في عظامِ الشاربينَ دبيبُ
تريكَ القذى من دونها وهي دونهُ ... لوجهِ أخيها في الإناءِ قطوبُ
فقال، ويحك لقد اتهمتك عند ظني بك في وصفك بها.
روي أن الفضل بن الربيع كلم رجلًا في أصحابه فقال، وقد كلمتك في فلان، وقد ملأ الأرض ثناء، والسماء دعاء وكتب بعض الأدباء إلى بعض الوزراء من شكر لك على درجة رفعته إليها، أو ثروة أفدته إياها فإن شكر إياك على مهجة أحييتها وحشاشة بقيتها ورمق أمسكت منه، وقمت بين التلف وبينه أنشد بعضهم شعره: [الطويل]
ولي عدَّةٌ قد راثَ عيني نجاحها ... ورأيكَ أعلاَ رأيهِ في اقتضائها
عطاؤكَ لا يفني ويستغرقُ المنى ... ويبقي وجوهَ الرّاغبينَ بمائها
شكوتُ وما الشكوى لمثلي عادةٌ ... ولكن يفيضُ النفسَ عندَ امتلائها
ذكر الشيخ الإمام أبو علي الحسن بن البنَّا ﵀، قال أخبرنا عبيد الله بن أحمد، قال: حدثني القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا أن علي بن محمد بن سعيد حدثهم، قال: حدثني الحسن بن عليل العنزي.
قال أخبرنا أبا عبد الله بن عبد الرحمن الرازي قال: خرج الفضل بن يحيى بن برمك ﵀، في بعض الأحيان متعبدًا فإذا أعرابي قد لقيه على ناقة له، فلما نظر الأعرابي إلى عظم موكب الفضل، نزل عن ناقته ودنا من الفضل وقال: السلام عليك، نعمت صباحًا يا أمير المؤمنين، قال ليس بأمير المؤمنين قال: فالوزير أصلحك الله، قال: ولا الوزير، قال فالفضل بن يحيى، فأمسك الفضل وقال: وما الذي أوفدك يا أخا العرب؟ قال قصدت الفضل بن يحيى، قال: ولم لم تقصده في بيته؟ قال لكثرة حجابه وسوء أدب أصحابه، قال: فما بلغ من أمرك يا أعرابي؟ قال أهجو فأفضح، وامدح فأقدح، قال له الفضل: فما وسيلك الآن إلى الفضل؟ قال بيتان من الشعر قلتهما فيه؟، قال له الفضل: أنشدنيهما، فإن كانا حسنين دللتك عليه، فأنشد الأعرابي يقول: [الطويل]
ليفرحَ بالمولودِ من آل برمكٍ ... ذواتِ النَّدى والرُّمحِ والسَّيفِ ذي الفضلِ
وثبنا به الآمالَ فيهِ لفضلهِ ... ولا سيَّما أن كانَ من ولدِ الفضلِ
فقال له الفضل: إنهما لحسان، فإن قيل لك أنهما ليسا من قبلك، وأنهما مسترقان من قول العرب، فما تصنع؟ قال أنشده أحسن منهما قال فأنشدنيهما فغن كانا حسنين دللتك عليه فأنشأ يقول: [الطويل]
ألم ترَ أن الجودَ من صلبِ آدمٍ ... تحدَّرَ، حتَّى صارَ في راحةِ الفضلِ
توارثهُ الفضلُ بنُ يحيى بن برمكٍ ... كذا كلُّ مولودٍ يصيرُ إلى الأصلِ
فقال له: إنهما لحسان فإن قيل لك أنهما ليسا لك، ولا من قولك، وأنهما مسروقان من قول العرب، فما تصنع؟ قال أنشده أحسن منهما، قال له: أنشدني فأنشأ يقول: [الطويل]
ولو قيلَ للمعروفِ من ذا أخا العلى ... لنادى بأعلى الصَّوتِ يا فضلُ يا فضلُ
ولو أنَّ ما أعطاهُ من رملِ عالجٍ ... لأصبحَ من جدواهُ قد نفدَ الرَّملُ
إذا أمُّ طفلٍ مصَّها جوعُ طفلها ... غذّته باسم الفضلِ فاستطعم الطّفلُ
فقال إنهما، والله لحسان، فإن قال لك إنهما ليسا من قبلك ما تصنع؟ قال أنشد أربعة أبيات لم تسمع العرب، ولا العجم يمثلهما، قال فأنشدنيهما فإن كانت حسانًا دللتك عليه فأنشأ يقول: [الطويل]
ولائمةٍ لامتكَ يا فضلُ في النَّدى ... فقلتَ هل ينجحُ اللومُ في البحرِ
كانَّ وفودُ النَّاسِ من كلِّ بلدةٍ جاءت ... إلى الفضلِ لاقوا عندهُ ليلةَ القدرِ
كأنَّ سحابُ الفضلِ في كلِّ ... تحدَّرَ ماءُ المزنِ في البلدِ القفرِ
1 / 20