وذهبت إلى السينما، واخترت بخبرتي في خلوة العشاق البريئة مقعدين يتيمين في أقصى الصالة يقعان بين المدخل، وبين عمود ضخم من البناء ...
وأطفئت الأنوار، وبدأت قصة الشاشة، واستمرت قصتنا في فصلها الثاني، ومددت يدي فطوقت سامية في حذر ورقة ... وأعترف أن أهدافي إذ ذاك لم تكن تعدو الإحساس بخصر دافئ يشاركني في السهرة، وبأنني لست وحيدا، وإنما أجلس إلى فتاة ... ولكنني لم أكد ألف يدي حولها حتى سحبت نفسها في فزع قائلة: لا لا ... هنا لا ... يمسكونا بعدين، خلينا أما نخرج من السينما، عندنا وقت لنصف الليل.
وحددت هذه الجملة في حديثها خطوط الفصل الثالث من قصة تلك الليلة، فحينما انتهى العرض خرجنا وركبنا الترام إلى حيث أقيم أنا في الفندق المتواضع ... وصعدت سامية معي درج الفندق دون أي تردد أو خوف، ودخلت معي إلى حجرتي في شجاعة، كأنها تأتي أمرا عاديا من أمور حياتها العادية ... وكان يجب أن يملأ رأسي شعور الاشمئزاز، فقد عرفت بالضبط ما هو موضع سامية في المجتمع، ومن هي بالنسبة لأصدقائها ... ومن هي بالنسبة إلي ... صيد ساعة لا أكثر ولا أقل ... وكان يجب إذا لم يملأني الاشمئزاز أن يكف عقلي عن التفكير فيها، وأن أترك لحواسي أن تتمتع بذلك الغذاء الجسدي الناضج ... كان يجب هذا أو ذاك ... ولكن القدر أراد غير ما أردت، وأصر على أن يصنع من القصة القصيرة ذات الفصل الواحد الستار الذي ينزل قبل الختام حرصا على آذان الناس، وأذواقهم النظيفة ...
أصر القدر على أن يصنع من هذه القصة المتداولة الحدوث قصة طويلة ذات عدة فصول ... وتكون النتيجة ... هي ما يحدث دائما حين يحاول المرء أن يجعل القصة القصيرة ذات الموضوع التافه قصة طويلة ذات أربعة فصول ... أن تتغير فصول القصة، وأن يتلف موضوعها، وأن تنتهي نهاية سخيفة ... لقد وقع القدر في الخطأ نفسه، أطال القصة فتعثرت في الطريق ... بل تعثر بطلها نفسه الذي هو أنا، وبدأ في الكثير من أجزائها أحمق غاية الحمق ... وجلست سامية على مقعد، وجلست أمامها أتأمل وجهها الوسيم، وقد خلا من كل مسحة شر أو إثم ... لم تكن سامية قد أوغلت بعد في عامها العشرين، ومع ذلك فها هي ذي أمامي امرأة ... وسألتها وأنا أشعل سيجارتي: هل أنت متزوجة؟
وأجابت دون تردد: أبدا ... لم أتزوج ...
ومرة أخرى رفض عقلي أن يشمئز ... بل لعله زاد تسلطا على حواسي ... - أهلك في الإسكندرية؟
وأجابت: آه ... ولا ...
وأصر عقلي على أن يضيع الوقت في سماع القصة ... وفي توسيع فصولها. - لا أفهم ... هل تعنين أنهم ماتوا؟
وفتحت بهذا السؤال ستار القصة عن مشهد مؤثر، فقد انهمرت دموع سامية ... وعلا نشيجها ... وطار من جو الغرفة آخر ظل للبهجة ... وقمت بدور الرجل النبيل فخففت عنها، وأخذت أواسيها حتى جفت آخر دمعة، ونطقت أول حرف من مأساة حياتها الدامية، مأساة حياتها الدامية! أليس هذا تعبيرا جميلا يهز المشاعر؟ ثم، ألم أصبح أنا - بفضل سلطان عقلي على حواسي - ممثلا تراجيديا يجيد أن يبكي، ويبكي الجماهير أيضا؟ ألم أصبح شيئا آخر غير هذا الشاب الذي صعد درج الفندق قافزا لينعم بغذاء شهي لجسده الجائع؟ شيئا نبيلا يسمع قصة دامية، فتعجبه فيصر على أن يضع لها نهاية سعيدة؟
وتملكني كبرياء الخالق الذي يصنع القصص، وأنا أسمع ختام رواية سامية، وقال عقلي لنفسي: «إن القصة لم تنته، ولا يمكن أبدا أن تنتهي قصة على هذا الشكل السخيف ... فتاة يغرر بها شاب فيجعلها تترك أهلها، وتندفع في هواه حتى لا تفرق بين جسدها وقلبها، فإذا بالنذل (رأيي أنا في صديق سامية الأول) ... فإذا بالنذل يمضغها لحما، ثم يلفظها عظما، وتملكني الزهو، وأنا أتأمل عقلي، وهو يلقي هذا السؤال في تحد وبراعة ... وكانت نفسي أسلمت آخر رغبة لها في قوام سامية وجسدها ... أسلمتها في يأس؛ لأنها كانت شديدة الإيمان بعقلي إذ ذاك ... وقلت لسامية بنفسي وعقلي ولساني معا: لا يا سامية! لا تسخطي هكذا على الحياة البشرية، ليس كل الناس وحوشا كصديقك محيي، لقد كنت صغيرة، وغرر بك ... أنا معك أنك لن لا تستطيعي العودة إلى أهلك ... ولكنك أيضا لا يجب أن تستمري في هذه الحياة. - وكيف أعيش؟
Bog aan la aqoon