Sacd Fi Noloshiisa Khaaska ah
سعد في حياته الخاصة
Noocyada
ولما دنا القطار من الإسماعيلية أخذنا نتساءل هل سننزل فيها توطئة لنقلنا إلى السويس ومنها إلى سيلان، أو إلى غيرها من بلاد الله الواسعة، أم سنستأنف سفرنا إلى ما بعدها من المحطات، فلما بلغنا الإسماعيلية ولم يبد من حراسنا حركة أو إشارة، أدركنا أنا قاصدون إما إلى القنطرة فنذهب منها إلى فلسطين، أو إلى بورسعيد لنركب منها متن البحر الأبيض المتوسط، ولكننا لم ننزل في القنطرة فقلنا إلى بورسعيد إذن. ولما وصلنا إليها قادونا إلى باخرة كانت راسية في مينائها واسمها «كالدونيا»، ولم يكن فيها سوى جند وضباط من رجال الجيش البريطاني وكانوا مسافرين إلى أوروبا.
وركبنا الباخرة ونحن نجهل الجهة التي نقصد إليها ولكن لم تكد الباخرة تقلع بنا وتمر أمام تمثال «دي لسبس»، حتى جاءنا الضابط المكلف بحراستنا وأخبرنا أننا ذاهبون إلى مالطة التي اختارها ولاة الأمور منفى لنا، فاعترضنا عندئذ على استصحاب خدمنا معنا، وقلنا إنه إذا كنا نحن قد أتينا عملا تظن السلطة العسكرية أننا نستحق النفي عقابا عليه، فما ذنب هؤلاء الخدم المظلومين الذين لم يكن لهم في الموضوع ضلع، فلما سمع خدمنا هذا الكلام «احتجوا» عليه وأقسموا أن يرافقونا في جميع غدواتنا وروحاتنا، ويشاركونا في سرائنا وضرائنا.
وفي اللحظة التي خرجت فيها الباخرة من المياه المصرية قيل لنا إن البحر لا يزال مملوءا بالألغام التي بثها الألمان في كل مرحلة من مراحله لاقتناص بواخر الحلفاء، كما قيل لنا إنه يجب علينا أن نكون دائما على استعداد لكي ننجو بأنفسنا في حالة حدوث انفجار، ولكيلا نؤخذ على غرة أخذوا يدربوننا مع الجنود الذين كانوا مسافرين معنا على سبل النجاة والخلاص، فكانوا يعطون كل واحد منا طوقا من الفلين ويرشدونه إلى مكانه في قارب النجاة المعين لنزوله فيه في حالة حدوث انفجار في الباخرة، ثم يمثلون رواية الغرق بجميع أدوارها ليتأكدوا من أننا استوعبنا الدروس التي ألقوها علينا في هذا الشأن.
ولما صرنا على مقربة من مالطة توقفت الباخرة عن السير ثم لم نلبث أن أبصرنا زورقا بخاريا يدنو منها قادما من الجزيرة، فأدركنا في الحال أنه الزورق المعد لنقلنا إلى البر، ولما صار محاذيا للباخرة صعد منه إليها ضابط فظ الطباع شرس الأخلاق، فحيانا بعجرفة وخاطبنا بغطرسة قائلا إنه لا يسمح لكل منا إلا بحمل حقيبة صغيرة، أما الحقائب الكبيرة فيجب أن نتركها وراءنا في الباخرة لأنه لا محل لها في الزورق، واتفق أن ربان الباخرة كان واقفا بجانبنا ساعتئذ، فلما سمع اللهجة التي يخاطبنا بها هذا الضابط دنا منه وقال له إنه يحمل توصية بوجوب معاملتنا باحترام، فلم يسعه عندئذ سوى الإذعان، ورضي بأن نأخذ معنا ما نريده من حقائبنا وأمتعتنا.
ولما وطأت أقدامنا البر، ألفينا مركبة صغيرة ذات عجلتين في انتظارنا، فأركبنا فيها سعد باشا وأحد الأصحاب، وسرت أنا والصاحب الرابع بجانبها على الأقدام.
وبعدما سرنا مسافة طويلة وصلنا إلى قشلاق «فردالا»، الذي اختاره ولاة الأمور البريطانيون ليعتقلونا فيه، فخصصوا لكل واحد منا غرفة للنوم وغرفة للجلوس وحماما، وكانت غرفنا كلها واقعة في صف واحد بعيدا عن أماكن الجنود، فاسترحنا واغتسلنا وأبدلنا ملابسنا، ثم سألنا عن التدابير التي اتخذت لإعداد طعامنا، فأجابونا أنهم سيصرفون لنا كل يوم كذا دراهم من الخضار وكذا دراهم من الزبدة، فاعترضنا على هذه المعاملة، فقالوا إنهم سيختارون لنا طاهيا ألمانيا بارعا ليطبخ لنا ما نشاؤه من الأطعمة وأصناف المأكولات بما يصرفونه لنا كل يوم من المواد الغذائية، وزادوا على ذلك أنه إذا كنا نبغي أن نحصل على مأكولات أخرى، ففي طاقتنا أن نحصل عليها من «كانتين» الضباط، على أن ندفع نحن ثمنها من مالنا الخاص، فسررنا بذلك وجمعنا ما كان معنا من مال يسير، وأخذنا ننفق منه على شراء ما كان يطيب لنا من المأكولات والأطعمة، وطلبنا من القائمين على حراستنا أن يسمحوا لنا بمكاتبة أهلنا ليبعثوا إلينا بما نفتقر إليه من مال، فقالوا لنا إنهم سيؤدون عنا هذه المهمة، وفعلا أخبرونا بعد يومين أن كلا منا تلقى خمسمائة جنيه من مصر، وأن هذا المبلغ أودع باسمه في صندوق مكتب القشلاق، فكنا إذا اشترينا شيئا من «الكانتين» أمضينا على الفاتورة فيأخذها مديره ويقبض قيمتها من مكتب القشلاق الذي كان يخصم ما يدفعه عنا من المال المودع عنده باسمنا.
وبعدما استقر بنا المقام في مالطة قال لنا سعد باشا في يوم من الأيام إنه فرغ من إعداد برنامج معيشتنا في منفانا، فخصص بعض ساعات النهار للدرس والمذاكرة، وخصص ساعات أخرى للمطالعة والمحادثة، وخصص ما بقي من الساعات للتريض والتفكه. وإذ كان رجال القشلاق يطفئون أنواره الساعة التاسعة مساء طلبنا أن يدعوا أنوار غرفنا مضاءة حتى الساعة الحادية عشرة، فأجابونا إلى طلبنا.
والتقيت في مالطة برجل ألماني (من المعتقلين الألمان) عرفته في الفيوم وكان يعطيني دروسا في اللغة الإنجليزية، فسررت بلقائه، ولما عرف سعد باشا تاريخ علاقتي به، كلفني أن أطلب منه أن يعطيه دروسا في اللغة الإنجليزية، فرضي الرجل عن طيب خاطر، وأخذ الرئيس يتلقن تلك اللغة على يده.
سعد المفكر.
وكنا حتى ذلك الحين نجهل تماما ما حدث في مصر من الحوادث عقب إبعادنا عنها، إذ إن القائمين على حراستنا كانوا يحولون دون تسرب الجرائد إلينا، ولكن أحد الضباط المكلفين بمراقبتنا قال لنا مرة: «إنكم غادرتم مصر بعدما صيرتموها شعلة من نار»، فأدركنا أن في مصر حالة غير عادية، ولكننا لم نشأ أن نكثر من السؤال والاستقصاء كي لا تحوم الظنون حولنا.
Bog aan la aqoon