Saacadaha u Dhaxeeya Buugaagta
ساعات بين الكتب
Noocyada
وتلحق بهذا الفريق من الشخصيين فئة لها أسلوب غريب في التشيع، أو أسلوب غريب في النقمة نسميه بالأسلوب المعكوس؛ لأنه يدعوهم إلى إظهار الإعجاب بأناس كراهة لأناس آخرين ويجعل مدحهم لإنسان نوعا من القدح المقلوب لإنسان آخر لعلهم لا يجرءون على مسه ولا يعرفون كيف يتسللون إلى إيذائه، وإن النفس لتشمئز من حقد هؤلاء الذين يحبون لأنهم يكرهون، ويتشيعون لأنهم يحسدون، ويتوارون بالتعريض لأنهم لا يجرءون على الظهور بالنكاية، وليس للإعجاب في نفوسهم قيمة تصان ولكن القيمة الأولى للبغضاء والكراهية، ثم يأتي الإعجاب تبعا لها أو ظلا مشوها لتمثالها. لقيني أحد هؤلاء في يوم الاحتفال بشوقي فقال لي: بلغني أنك سئلت عن رأيك في شعر شوقي فكتبت عنه كتابة سيئة، قلت: لا. أنا لا أكتب عن شوقي ولا غيره كتابة سيئة! قال: ليس هذا الذي أعني، ولوددت لو أني سئلت عن رأيي فأكتب في هذا الرجل أسوأ كتابة؟ وما هي إلا أيام حتى لفتني بعضهم إلى تعريض جبان يعرض فيه صاحبنا هذا بموقفي في احتفال التكريم، ويهذي بحكاية يحفظها عن برنارد شو تدل على أنه لا يفقه ما يقول، ثم ذهب في موضع آخر يثني على شوقي ويصفه «بصلابة الخلق!» فنم على نفسه بهذا الوصف الغريب ودل على ذلك الضعف الذي جعله يتعزى بأن يكون مثل شوقي ممن يوصفون بالصلابة وينعتون بنعوت القوة! وشئنا هنا أن نذكر هذا المثل لنسوق للقراء أعجوبة من أعاجيب الدواعي النفسية والنوازع الممسوخة التي تنزع بعض الناس إلى التشيع والثناء، ومن واجبنا أن نشير إلى هذه الفئة وإلى الفئة التي تقدمها لنصحح خطأ قد يقع فيه مؤرخ الآداب في العصور الآتية وله العذر إذا وقع فيه، فليس كل إعجاب بشعر شوقي إعجابا أدبيا يصح أن يتخذ دليلا على الحالة الفكرية والأذواق الشعرية في زماننا، ولا بد من ملاحظة الأسباب الشخصية المتسترة التي تعود على الرجل بشيء من الإعجاب المصطنع والثناء المعكوس، ولو جربنا على عادة السكوت عن الأسباب المشار إليها لأخطأ الذين يجهلون الأمر الآن أو غدا فعدوا ذلك الإعجاب رأيا في الأدب، وما هو برأي فيه ولكنه ستار عيوب أو سلاح مقلوب، ولا وجه للسكوت عن هذا الأمر وفيه ما فيه من تقرير الحقيقة ومن الظواهر النفسية التي تفيد ملاحظتها من يعنون ببواعث النفوس وظواهر الأخلاق.
ولا حاجة بنا إلى أن نقول: إننا لم نعن بالكتابة في هذا الموضوع من يؤجرون على آرائهم أو من تحملهم عصبية الجيل والسن على كراهة كل جديد، أو من يملؤهم الغرور الجاهل حتى ليخفى عليهم أنهم مغرورون، ولا يخطر لهم أن امرأ يجوز له أن يرى رأيا لا يسيغونه، أو يذهب في الأدب مذهبا لم يسمعوا به، فهؤلاء جميعا ممن لا غناء فيهم للشعر ولا وجه لمخاطبتهم بحجة مقنعة وبيان منزه، وإنما ندعهم وشأنهم ونمضي في طريق يعلمون هم قبل سواهم أنهم أصغر من أن يعترضوا له سدا أو يقفوا فيه عقبة، ونتوجه بكلامنا إلى نفوس لا يحول بيننا وبينها حائل، ولا يمنعها الغرض أن تقرأ قراءة المخلص لنفسه، والمستفيد من مطالعاته، وليسوا والحمد لله بقليلين. •••
إن هذه الآراء التي نقررها في الشعر وفي النقد تسري سريانها، وتسلك سبيلها في توجيه الأفكار الظاهرة والمستترة، فلا تعوقها المكابرة، ولا يجدي في مكافحتها تألب المتألبين على إنكارها، فمنذ بضع سنوات نشرنا كتاب الديوان فذاع ذيوعا لم يسبق له مثيل في مصر، ونفدت طبعة الجزء الأول منه في أقل من أسبوعين، وثارت حوله ثورة الناقمين المدسوسين عليه، والذين يغنيهم وغر نفوسهم عن الإيعاز والإغراء، فخيل إليهم أنهم طامسو أثره، ومخفتو صوته، وعادلون بالقراء عن الإصغاء إليه والاقتناع بحقه، وبقينا نحن نلمس آثاره في أقوال المتحدثين، ومقالات الكاتبين، وتعليق المعقبين على ما ينشر من الشعر، ويروى من الأدب القديم والحديث. إلى أن جاء يوم الاحتفال الذي دبره شوقي لتكريمه وسئل الأدباء رأيهم في شعره فكان فريق الناقدين أرجح من فريق المقرظين، وكانت منزلتهم أكرم، وسمعتهم أسلم ومنهجهم في الإبانة عن آرائهم أدنى إلى الفهم والإصابة، فعرفنا الآراء التي بسطناها في كتاب الديوان، وهي تتخلل مقالاتهم وملاحظاتهم، وعلمنا أين تنتهي الضجة الخاوية وأين تقف الحيلة الكاذبة، وكان أناس يوافقوننا في مجمل الرأي ويطلبون إلينا أن نتخذ للنقد لهجة غير التي اتخذناها لندفع مظنة التحامل على شوقي والنظر إلى شخصه، فكنا نقول لهم: إن مثل شوقي في أحابيله التي ينصبها لترويج أمره والكيد لغيره، لا يستحق منا غير تلك اللهجة التي قسناها عليه قياسا يلائمه كل الملاءمة، ويطابقه أعدل المطابقة، وإننا نعرف كيف نختار طريقتنا للنقد ونضع أقوالنا موضعها من الكلام، فظهر لنا الآن أن قراءنا لا يخلون من فئة قيمة تعرف ذلك أيضا وتعرف الفرق بين لهجة التحامل ولهجة التأديب، وأننا كنا على صواب حين أبينا أن نفسر خطتنا في النقد أنفة أن يعد ذلك استجداء لاقتناع المتثاقلين باقتناعهم أو تلمسا لرضا الذين لا يرضيهم إنحاؤنا على من هو به حقيق، فلما كان الاحتفال بالعيد الخمسيني لمجلة المقتطف وعلم من علم أن شوقيا أبى أن ينشد شعره في احتفال يقف فيه شاعران آخران، وأظهرت لهم هذه الخليقة المحسوسة طبيعة الرجل في مناوأة الزملاء والضغينة عليهم، آمنوا أن الناقد قد يجوز له من الصرامة أحيانا ما يجوز للقاضي، وأن الحق يحق له أن يخشن في موضع الخشونة ويلين في موضع اللين، وأن إحساس العدل هو الذي سوغ لنا أن نقرر الحقائق، ونبسط الآراء بلهجة توائم الرجل الذي قيضته المناسبة لتقرير تلك الحقائق وبسط تلك الآراء.
وهذه المقالات بعنوان «الشعر في مصر» قد لقيت من موافقة القراء ما كنا نقدره ووجدت أنصارا لها، حيث كنا نظن الأنصار قليلين أو معدومين، فقد كان يبدو لنا أن آراء تحوم حول الآداب الغربية ولا تتقيد بالموروثات العربية هي أخلق أن تجد أنصارها بين قراء اللغات الأجنبية أو من ينشئون على التربية التي نسميها بالعصرية، وهي أحجى أن تجد المقاومة ممن لا يقرءون تلك اللغات، ولا ينشئون تلك النشأة، فأخطأ حسباننا في هذا وسمعنا من شبان الأزهر ودار العلوم عددا ليس باليسير يفهمها فهما يسرنا ويرضينا، ويستزيدنا من شرح الآراء وسرد الأمثلة، وكان عدد هؤلاء المغتبطين بالاطلاع على مقالات «الشعر في مصر» من طلاب الأزهر ودار العلوم أكبر عددا من إخوانهم في المدارس الأخرى، وأكثر رغبة فيها وحرصا على استفسار ما غمض عليهم منها. نعم إنهم لا يتابعون مقدماتها إلى نتائجها، ولا يتأدون منها إلى الغاية التي قصدناها، ولكننا لا نأسف لهذا كثيرا؛ لأننا لم نكن ننتظر أن تتفق الوجهات في فهم الشعر وهي لم تتفق في تقدير ملابس الأجسام! فما أحرى العقول التي تختلف في الأزياء المشاهدة أن تختلف في أزياء النفوس وأنماط الشعور! ولعلها تكون على وفاق في الفهم، ولكنها حين تعمد إلى الإفصاح عما في أخلادها تتشعب في التعبير، وتتباعد في صياغة الأفكار. •••
نختم هذه المقالات وبحسبنا منها أن تنفي بعض الظنون فيما نعنيه بالشعر العصري، أو بالمذهب الجديد، فليس التجديد هو إنكار فضل العرب، أو تعمد الخروج على الأساليب العربية، ولكنه هو إنكار أوهام الذين يحصرون الفضل كله في العرب، دون أمم المشرق والمغرب من سابقين ولاحقين، أو الذين يختمون على الأساليب بعد القرن الرابع للهجرة، فلا يجيزون لأحد أن يكتب بغير أقلام الأدباء الذين عاشوا إلى ذلك الزمان، ولا يفهمون أن الأسلوب صورة لنفس صاحبه، وأن الله لم يخلق الطبائع كلها على صورة واحدة، فيكون لها أسلوب واحد في المنظوم أو المنثور، وليس التجديد أن نصف المخترعات العصرية؛ لأن أحدا من العقلاء لا يطالبنا بأن نثبت وجودنا في هذا العصر بهذه الأمارة ، ثم لأن العبرة بأسلوب الوصف لا بالوصف في ذاته، وبروح الشاعر لا بموضع القصيدة.
وليس التجديد أن تقفو أثر الصحف بالنظم في الحوادث السياسية والعظات الاجتماعية؛ لأن الشاعر قد يحس ما حوله ولكنه يبرز إحساسه في قالب رواية خرافية، لا علاقة بينها وبين حوادث اليوم في الظاهر، ولا شأن لها بمشاكل السياسة والاجتماع، وقد يستحيل الغضب السياسي في طبعه إلى صرخة نفسية تفعل فعلها في حث العزائم، ولا تتسمى بالأسماء التي يعرفها الصحفيون والسواس، وليس التجديد أن نضرب عن تقليد العرب لنقلد الإفرنج، وننظم كما ينظمون وننقد كما ينقدون؛ لأن الإفرنج يخطئون في فهم الأدب كما يخطئ الشرقيون ويأبون على طائفة منهم أن تقلد الآخرين، وليس التجديد أن نقتحم المعاني ونعتسف الخواطر؛ لأن المعاني والخواطر أدوات الشاعر ووسائله، وليست بغاياته وقصارى مقاصده، فإذا مثل ما في نفسه بغير التجاء إلى ذلك الذي يسمونه المعنى أو الخاطر فهو الشاعر القدير والوصاف المبين ، وإذا أكثر من المعاني والخواطر؛ لأنه يريد أن يكثر منها لا لأنه يريد أن يمثل بها حالة نفسه وحقيقة حسه، فليس هو بالشاعر ولو أبدع في هذا غاية الإبداع، واخترع من التوليد «والتجديد» ما لم يأت بمثله المتقدمون والمتأخرون، وإنما التجديد أن يقول الإنسان؛ لأنه يجد في نفسه ما يحسه ويقوله وما يجدر به أن يحس ويقال: فالتجديد على هذا شيء غير الذي فهمه أنصار القديم، وهو كما قلنا في كلمة كتبناها لمجلة الحديث شيء غير كتابة الجديد. «فليس من الضروري أن تكون كتابة الكاتب كلها جديدة غير مسبوقة ليكون من المجددين، ويخرج من زمرة المقلدين، وليس هو مستطيعا ذلك لو حاوله ومضى عليه، ولو أنه استطاعه لوقع في التعسف واضطر إلى مخالفة الحقيقة، وتجنب البساطة وتزييف الآراء بغير طائل، فليس التجديد أن يكون الكاتب جديدا أبدا في كل ما يكتب، وإنما هو أن يكتب ما في نفسه ولا يكون قديما متأثرا للأقدمين يحذو حذوهم، وينظر إلى ما حوله بالعين التي كانوا بها ينظرون؛ فمن المجددين على هذا الاعتبار أبو نواس؛ لأنه ابن عصره، وليس من المجددين شعراء في هذا الزمان ينظمون في وصف الطيارة؛ لأن الأقدمين نظموا في وصف البعير! ومن المجددين شاعر يمدح من يستحق المديح من الأحياء والأموات، ويشرح فضائلهم، ويجلو لنا نفوسهم، وليس من المجددين شاعر يتحاشى كل مديح لكيلا يتهم بالتقليد! ومن المجددين شاعر يصف الإبل والصحراء في هذا العصر؛ لأنه رآهما ووقع في نفسه من رؤيتهما ما يستجيش القريحة إلى الإنشاد، ولكن ليس من المجددين من يصف المعارض الصناعية؛ لأنها من مستحدثات هذا الزمان، وهو يظن الحداثة أن يصف كل حديث فحسب إلى آخر ساعة، لا أن يصف ما في نفسه من قديم وحديث، وإننا حين ندعو إلى الجديد لا ندعو إلى هدم شيء قائم الأساس؛ لأننا نعلم أن كل شاعر صالح لزمانه، فذاك هو الشاعر الصالح لكل زمان، وليست العواطف الإنسانية زيا يبلى ويخلع ويتغير كلما تغيرت أرقام السنين. كلا، فإن العواطف الإنسانية تنزيل خالد لا تبديل لكلماته، وإنما يقع التبديل منه الزوائد الظاهرة والعرض اليسير، ولن يصدق شاعر في وصف النفس الإنسانية في زمن ما، ثم يصبح صدقه هذا كذبا في زمن غيره. ... يقولون ليس في الشعر قديم وجديد، وهذا حسن من الوجه الذي بيناه، ولكن الأمر الذي لا خلاف فيه أن الشعر فيه الجيد والرديء إن لم يكن فيه القديم والجديد. فالجيد هو ما عبرت به فأحسنت التعبير عن نفس مهملة، وشعور حي، وذوق قويم، والرديء هو ما أخطأ فيه التعبير، أو ما عبرت فيه عن معنى لا تحسه، أو تحسه ولا يساوي عناء التعبير عنه» هذه خلاصة موجزة لما تقدم من المقالات، فإن كنا قد أوضحنا ما نريد فذلك حسبنا منها وحسب القراء المخلصين.
روبنس المصور السياسي1
منذ ثلاثة أشهر احتفل العالم الفني بذكرى وفاة بيتهوفن، ذلك الجبار الشقي الذي كان موته أسعد ذكريات حياته، واليوم - في التاسع والعشرين من شهر يونيو - يحتفل العالم الفني بمضي ثلاثمائة سنة وخمسين على مولد المصور المجدود «بيتربول روبنس» الذي عاش حياته كلها في دعة قلما تتاح لعظماء الفنانين، وكانت ولادته من البداية إلى النهاية فلتة من الحظ السعيد، فقد كان وشيكا أن يقضي على أبيه بالموت حول السنة السبعين من القرن السادس عشر لشبهة غرامية بينه وبين زوجة وليم الصامت، فلولا الحرص على كرامة البيت المالك لمات الرجل في تلك السنة، ولم يظهر لابنه العظيم اسم في هذه الدنيا، إذ كان الحادث قبل مولده بسبع سنوات.
ولد بيتر في سنة 1577 بمدينة سيجن الألمانية، فما مضى على مولده عام حتى سمح لأبيه بالعود إلى كولون، ومكث فيها إلى أن بلغ التاسعة أو العاشرة، وتوفي أبوه فانتقلت به أمه إلى «أنتورب» حيث كان زوجها في مبدأ الأمر يمارس المحاماة، ويكسب بها الشهرة والجاه والثراء، أدخل هناك في إحدى المدارس المشهورة، وظهرت فيها فطنته وسرعة فهمه فأصبح محبوبا مدللا بين الأساتذة والتلاميذ لذكائه وجماله ودماثة طبعه، وفي الثالثة عشرة من عمره دخل في خدمة النبيلة «لالينج » أرملة الحاكم وصيفا من نخبة وصفائها، فأجدت عليه هذه الخدمة أحسن الجدوى، ومهدت له سبيل الزلفى إلى الملوك والأمراء، بما تعلمه في ذلك البيت من أصول اللباقة البلاطية، وفنون الكياسة والدهاء، ولكنه ما لبث أن سئم هذه المعيشة ونازعته طبيعته إلى التصوير، فكاشف أمه بهذه الرغبة، وألح عليها حتى قبلت رجاءه وألحقته بأستاذ مغمور لم يبق له الآن ذكر يعرف، ثم تركه ليلحق بالأستاذ آدم فان نورث، ثم ترك هذا بعد أربع سنوات ليلحق بمصنع الأستاذ أوتو فان فين، الذي بلغ في عصره مكانة تؤثر في العلم والكياسة والتصوير، فاستفاد كثيرا من التلمذة عليه في فنه ولباقته واتصاله بذوي الخطر والمعرفة، وما شارف العشرين حتى انتخب عضوا في جماعة القديس لوقا، ولم تمض عليه سنة بعد ذلك حتى انتدب ليساعد أستاذه في تزيين بعض الأماكن الرسمية، ثم خطر له وهو في الثالثة والعشرين أن يحج إلى إيطاليا قبلة الفن ومرجع المصورين من الأمم كافة في ذلك الزمان، فقصد إلى البندقية واطلع هناك على تحف الأساتذة المتقدمين، واقتبس منها خبرة بالتلوين تفرد بها بعد برهة بين جميع المصورين.
وصادفه الحظ السعيد في البندقية، كما صادفه في كل مكان، فوصلت بعض صوره إلى أمير مانتوا وحظيت عنده، فاستدعاه إلى حاشيته واستصحبه في سياحته إلى مانتوا وفلورنسية وجنوا حيث رأى صفوة ما فيهن من الذخائر الفنية النادرة والتراث النفيس، وبعد بضعة أشهر استقر الأمير في عاصمته، وفتح خزائنه الفنية لروبنس يستعرضها ويدرسها كما يشاء، فنعم المصور بهذه الفرصة، وقضى أوقاته بين التحف المذخورة التي غالى بها حكام المدينة أميرا بعد أمير، ثم برح مانتوا في السنة الثانية إلى روما لاستتمام الدرس والفرجة، فقوبل فيها بالحفاوة، ورحب به إخوان التصوير وعهد إليه ولاة الأمر بنقش المحراب في كنيسة «صليب أورشليم». ثم قفل إلى مانتوا فألفى الأمير في محنة سياسية تدعوه إلى مفاوضة ملك إسبانيا في بعض الشئون، فلم ير لقضاء هذه المهمة خيرا من صاحبه المصور الذي أعجبته منه رصانته، وسمته، وحسن تصرفه، وآنس منه قدرة في السياسة لا تقل عن قدرته في الفنون، وقد حقق روبنس هذا الظن، فأجزل الأمير مكافأته وأجرى عليه رزقا يرضيه، وأذن له مرة أخرى في زيارة روما فقضى فترة وبرحها إلى جنوة تلبية لدعوته فمكث فيها قليلا، وعاد منها إلى مقامه المحبوب في المدينة الخالدة، وفي سنة 1608 غادرها إلى أنتورب ليدرك أمه في النزع الأخير فلم يدركها قبل الوفاة، وحزن عليها حزنا شديدا تستحقه منه لا كما تستحق جميع الأمهات حزن الأبناء، فقد كانت مثلا في قوة الخلق، ونبل النفس، وصفاء الذهن، والحنو على البنين، وكان يحبها ويذكر لها فضلها في تربيته وتخريجه وأصالة رأيها في إجابة رجائه وإطاعة هواه، وكأن موتها حرك من نفسه العطف على ذكراها - ولا سيما بعد أن استوفى حظه من إيطاليا، وعرف في نفسه القدرة على الاستقلال بعمله - فأرسل إلى صاحبه الأمير يشكره ويستعفيه، وعول على الإقامة بأنتورب، وبدأ ثمة الدور الثاني من حياته بعد انتهاء دور التحضير والتعليم.
Bog aan la aqoon