Wadada Nolosha
سبيل الحياة
Noocyada
يدور بنفسي هذا المعنى إذا تخلل بي الإعياء، ثم أتذكر أني لما كبرت، وتخرجت، وصرت معلما يتقاضى في الشهر اثنى عشر جنيها مصريا ذهبا لا ورقا تصوروا هذه الثروة الضخمة في سنة 1909! - وطبعت الجزء الأول من ديوان شعري - تالله ما كان أحمقني! - أخذت أول نسخة منه أخرجتها المطبعة وزرت أخي الأكبر الذي جنى علينا ما جنى، وكنت - على نقمتي عليه - أحبه وأحترمه ولا أجرؤ أن أناديه باسمه، فإذا احتجت إلى النداء قلت: «أخويا! أخويا!» ذلك كان أدبنا قديما - فأخذها مني وفتحها، وقرأ الإهداء، وهو أبيات ليست فيه ولا له، وإذا الدموع تتساقط على خديه ولحيته. فجزعت، وكنت وأنا أقدم له هذه الهدية. وعليها كلمة بخطي، أشعر بشماتة مضمرة أو بأني أدركت ثأري كأنما أقول له، هذا أخوك الصغير الذي أفقرته، وكدت تلصق بطنه بالتراب قد استطاع أن يغالب الفقر وأن يصبح شيئا له حساب وقدر، وأن يكون شاعرا، وأما أنت فماذا؟ ضيعت مالنا، وكسبت مالا غيره. ولكنك مع هذا لست بشيء: من يعرفك من يذكرك؟».
ولكني خجلت حين رأيت دموعه. والدم لا يكون ماء، فنهضت إليه وقبلته بين عينيه، ولثمت لحيته، وانصرفت بلا كلام. لقد غفرت له دموعه فما رأيته يبكي قبل ذلك قط، ولو كان لي دمع يراق لبكيت في ذلك اليوم. •••
أي نعم أستاذي الأول الفقر - هو الذي آتاني القوة والمقدرة على الكفاح وعلمني التسامح والترفق، والعطف، وإيثار الحسنى وعودني ضبط النفس وتوخي الاتزان، وجنبني العنف والقسوة والفظاظة، وحبب إلي الفقراء، وفتح عيني على القيم الحقيقية للناس والأشياء والحوادث، ودربني على نشدان الخبر من وراء المظهر، وجنبني أن أحترم المال لذاته، وحماني أن أغمط الفضل والحق، والحمد لله! •••
أما الأستاذ الثاني - بورك فيه - فهو الضعف، وأقول بإيجاز - فقد أطلت - إنه علمني أن الإنسان ليس حمارا أو بغلا أو فيلا، وإن المعول ليس على قوة بدنه ومتانة أسره، فتلك قد تكون مزية الحيوان، ولكنها ليست مزية الإنسان، وإنما قيمة الإنسان بعقله وفضله، وسعة حيلته، وحسن تأتيه وسداده وتدبيره، وقدرته على الابتكار، وعلى أن يستطيع أن يقول في غير زهو - إنه لم يعش عبثا، وإنه نهض بعبء الحياة، وأدى فرائضها. على قدر ما تيسر له والحمد لله مرة أخرى.
وإني الآن لأعرض على عيني ما كان في حياتي، فأقول إني لو كنت خيرت، لكان الأرجح أن أضل وأسيء الاختيار، وإن حياتي كانت كما ينبغي أن تكون ولهذا تراني راضيا شاكرا لله فضله ومنته.
الفصل الرابع
بركة العجز
أرجو أن لا يظن القراء أني أتواضع أو أقول غير الحق حين أقول إني أخيب صحفي على ظهر هذه الأرض، ومازلت بعد ثلاثين عاما من اشتغالي بالصحافة عجز خلق الله عن استقاء خبر، وليس أبغض إلي ولا أثقل على نفسي من الاضطرار إلى مقابلة أحد ممن يظن أن عندهم العلم بأمر من الأمور، ولقد احتجت مرة إلى زيارة وزير العدل - وكان يسمى وزير الحقانية - فلما قابلت «الوزير» وحادثته فيما جئت له، تبينت أني خلطت، وأن هذا وزير «الداخلية» وحسبي هذا في بيان جهلي حتى بدور الوزارات!
ولكني على جهلي وخيبتي فزت مرة بثناء طيب من المغفور له سعد زغلول. رأيت سعد باشا أول مرة وأنا طالب في مدرسة المعلمين، وهو وزير أو «ناظر» للمعارف، وقد زار المدرسة، ودخل علينا وراءه المستشار الإنجليزي (دنلوب) وغيره من كبار الموظفين، فخلفهم وراءه - واقفين في أدب - وتقدم إلى الصف الأول وأقبل علينا يناقشنا في معنى «الحرية» ومأخذها. وأحسب أن هذا كان أول درس لي في «الحقوق» و«الواجبات»..
وقد رأيت بعد ذلك - وأنا معلم - وزراء للمعارف كان المستشار (دنلوب) يزور المدارس فينحيهم، ويؤخرهم، ويتقدمهم غير عابئ بهم، حتى لقد كبر في وهمي مرة أن أحد هؤلاء الوزراء» «سكرتير» أو موظف صغير فلم أحفل به! ولم يسوئه سوء أدبي!
Bog aan la aqoon