آخر بيت في الجانب الآخر فيما يلي آل العلوي. عرف البيت باسم صاحبته عديلة الحرة، أما اسمها فعديلة، وأما لقب الحرة فأضيف إليها على سبيل المدح المقصود به الذم. ويقيم في البيت عديلة ربته وابنتاها نبيلة وسناء. ويروي عم فرج تاريخ الست فيقول: إنها كانت زوجة لرجل يدعى عبد الله سنان، كون ثروة لا بأس بها من السمسرة، فشيد لها هذا البيت وكتبه باسمها، وأنجب منها نبيلة وسناء. وقبيل انتقالنا إلى الشارع بعام واحد سافر الرجل إلى بر الشام لشأن من شئونه، وهو من سلالة شامية، ثم لم يعد وانقطعت أخباره. ويفسر عم فرج اختفاء الرجل بأن عديلة كانت فائقة الجمال والدلال، وأن سلوكها لم يكن فوق الشبهات، وعجز زوجها عن كبحها فهرب! - تجنب مواجهتها بالطلاق خوفا من طول لسانها، والظاهر أنها كانت تعرف من أسراره ما لا يحب أن يعرف.
على أي حال اختطت لنفسها طريقا جديدا غير معهود في شارعنا، فانطلقت في تحررها إلى آخر المدى. وأصبح بيتها مع الزمن ملتقى الأعيان من العباسية الشرقية، يتسللون إليه بليل كالزنابير محملين بالهدايا، فيقضون فيه أطيب الأوقات مع ربة البيت ثم معها ومع ابنتيها الجميلتين. وكنا نراها أحيانا تسير في الشارع بمفردها أو بصحبة نبيلة وسناء، في هالة من التبرج الفاقع، فينتزعن الأعين من المحاجر ويثرن عواصف من الأقاويل. وكنا نحملق في نبيلة وسناء بأعين مترعة بالجنون ولكنهما لم تعيرانا أدنى التفات. وعلى ذلك تساءلنا: أين الشرطة؟ .. ألا تعلم بما يجري في هذا البيت؟! وقيل لنا إن الشرطة تعلم أكثر مما نعلم، وإن حماية الأعيان مبسوطة على البيت ومن فيه، بل وقيل إن الباشا وكيل الداخلية - وهو من سكان العباسية الشرقية - من عشاق البنت الصغرى رغم فارق السن الهائل بينهما. وطرح الموضوع للمناقشة فيما بيننا فتساءل عبد الخالق: هل يليق بنا أن نقبل هذا الوضع الشائن في شارعنا؟
فقال عزت بشهامته المعهودة: إذا تناومت الشرطة فنحن الشرطة.
ورحنا نقذف البيت بالطوب فنكدر صفو سهراته الخيالية. وجاء رد الفعل سريعا فتولى حراسة البيت نفر من حرافيش الوايلي لا قبل لنا بهم، ولم يكن في مقدور عزت التصدي لهم. وعلى ذلك تجاهلنا بيت الحرة على مضض مشاركين سكان الشارع سخطهم الصامت. وفي أواسط الثلاثينيات غادرت الأسرة بيتها كأنما قد ضاق عن نشاطها المتصاعد، فارتاحت الأنفس لذلك، واعتبر يوم رحيلهم من أيام السعد. ولم نعد نسمع عنهم خيرا أو شرا، حتى رأيت سناء في تاريخ لاحق بانتهاء الحرب العظمى الثانية، في حديقة لبتون بصحبة ضابط جيش. لم تبد في مظهرها القديم ولكنها رفلت في احتشام أضفى على صحبتها للرجل روح الزوجية. وقد عجبت لذلك وتحيرت، ولكن الأيام أيدت ظني، وعرفت من أكثر من مصدر أنها تزوجت من الضابط بعد قصة حب، ثم علمنا بعد قيام ثورة يوليو أن ذلك الضابط كان من القلة التي قررت الثورة محاكمتها، وقد قبض عليه وهو يحاول الهرب إلى الخارج وقدم للمحاكمة وقضي عليه بالسجن. وظل البيت يعرف ببيت عديلة الحرة كأنما هي تسمية تاريخية كرسها التاريخ. وحافظ على اسمه حتى بعد أن أقام فيه الشيخ الذهبي مدرس اللغة العربية والدين بمدرسة فؤاد الأول. وهو فلاح محافظ وزوجته فلاحة لم يغير انتقالها إلى العاصمة من طباعها أي تغيير. وعرف الشيخ الاسم الذي اشتهر به بيته بالمصادفة؛ فقد جاءه زائر من البلد وسأل عنه في شارع العباسية فأشاروا إلى موقع البيت ورددوا على مسمعيه اسمه، وأخبر الزائر الشيخ الذهبي ببراءة، وتحرى الشيخ عن الأمر حتى ألم بأطرافه وثار غضبه، ويوما دخل الشيخ الفصل فوجد أن مجهولا من الطلبة قد كتب على السبورة بأصبع الطباشير وبالخط الفارسي: «عديلة الحرة». واحتقن وجه الشيخ بالغضب وكان شديد الغضب، والتفت نحو الطلبة متسائلا في تحد: من ابن العاهرة الذي كتب هذا الاسم؟
ولم ينبس أحد، فقال ودفقات غضبه في تصاعد: قد تكون عديلة امرأة سوء ولكنها يقينا أشرف من أم من كتب هذا!
وبدأ الدرس.
وقد عاصرت من ألوان الفساد بألوانه وطبقاته وأنواعه ما يجعلني أذكر عديلة وابنتيها كما أذكر أحيانا مكتشف النار في تاريخ الحضارة بالمقارنة بغزاة الفضاء.
إذ شدني الحنين اليوم إلى زيارة العباسية فسرعان ما تتكشف لي عن عالم غريب لا عهد لي به؛ لا الشرقية شرقية ولا الغربية غربية، اندثرت الحقول والحدائق وتوارى اللون الأخضر، عمارات متراصة متلاصقة تنوء بأثقالها بلا لياقة أو جمال، شوارع جانبية مكتظة بالأطفال والصبيان، مختلف أنواع المركبات في سباق جنوني، ضجيج هائل يقتحم الفضاء مغلفا بالغبار، أكوام القمامة تترامى كالتلال في الأركان، المواقع الواطئة غريقة في مياه المجاري، الغضب والعنف والسباب ينفجر في الآذان، ولا أعرف أحدا ولا أحد يعرفني، وأتساءل، وأتساءل في حيرة بالغة: أين المغاني التي شهدت أعذب المودات وأجمل قصص الحب؟!
وإنها لنقمة أن تكون لنا ذاكرة، ولكنها أيضا النعمة الباقية.
أسعد الله مساءك
Bog aan la aqoon