صلى الله عليه وسلم
أم لم يكن، وفي هذه الحالة لم يكن ثمة ما يمنع أن يتولاها معاوية إذا توافرت له البيعة، فلما ثارت في قلب المعركة مسألة الاحتكام إلى الكتاب الكريم، في فض الخلاف بين الفريقين المتحاربين، تطورت الحوادث تطورا سريعا أدى إلى أن يعلن بعض أنصار الإمام علي - كرم الله وجهه - خروجهم عليه؛ اعتقادا منهم بأنه لم يكن حاسم الرأي في مسألة الاحتكام إلى الكتاب، وأطلق على هؤلاء المعارضين اسم «الخوارج».
ولم يلبث هؤلاء الخوارج أن كونوا لأنفسهم وجهة نظر شاملة، كان منها رأي في أحقية الخلافة، فلا هم سلموا بأولوية آل البيت في ذلك الحق على سواهم، ولا هم وافقوا على أن يقصر ذلك الحق على من كان ذا أصل عربي من بين المسلمين الأكفاء للخلافة، وخرجوا برأي ثالث، هو أن كل مسلم له حق الحكم ما دام ذا قدرة معترف بها، دون أن يكون بالضرورة من أصل عربي، أو أن يكون بالتفضيل من آل البيت: فإذا ضممنا هذا الرأي إلى غيره من آرائهم، ونظرنا إليها في ذاتها، فربما وجدنا وجهة نظر الخوارج خالية مما يؤخذ عليهم، فهي وجهة نظر لا تقل عن سواها من وجهات النظر: إذن فلماذا نفرت منهم الأمة الإسلامية، ولا تزال تنفر من مجرد ذكرهم؟! كانت العلة في تطرفهم بالمعنى الذي أسلفته عن التطرف؛ وهو اللجوء إلى القسوة العنيفة، إرهابا لكل من وقعت عليه أيديهم حتى يوافق على وجهة نظرهم، وإن لم يفعل قتلوه بأفظع صور القتل وأبشعها، ولا بد أن نضيف هنا حقيقة عنهم لتكتمل الصورة أمام القارئ، وهي أنهم كانوا لا ينقطعون عن عبادة الله لحظة واحدة، ويديمون الصلاة، حتى لقد كانوا يعرفون بما كانت تتقرح بهم جباههم من السجود على حصباء الأرض العارية، فالخوارج - كما ترى - قد أغضبوا الأمة الإسلامية على طول التاريخ الإسلامي كله، لا لمجرد أن لهم وجهة نظر إسلامية خاصة، ولا لأنهم قصروا في عبادة الله، بل هم أغضبوها بتطرفهم حين يكون معنى التطرف لجوء صاحبه إلى الإرهاب، فلا هي الموعظة الحسنة وسيلتهم، ولا هي الجدل بالحجة تقارع الحجة، ولا هي الحكمة: وتلك الوسائل الثلاثة هي وحدها المذكورة في القرآن الكريم.
ثانيا:
إذا كان اتخاذ الإرهاب وسيلة لإرغام الخصوم، هو العلامة الحاسمة التي تميز المتطرف عمن سواه، كان محالا أن يلجأ إليه إنسان قوي واثق بنفسه وبعقيدته، وإنما يلجأ إليه من به ضعف في أية صورة من صوره، لماذا؟ لأن الإنسان إذا أحس في نفسه ضعفا، تملكه الخوف من أن يطغى عليه أصحاب المواقف الأخرى، وكأي خائف آخر، ترى المتطرف هلعا جزوعا، يسرع إلى أقرب أداة للفتك بخصمه إذا استطاع قبل أن تتسع الفرصة أمام ذلك الخصم، وليس هذا النزوع العدواني مقصورا على المتطرف في الدين، بل هو نزوع نلحظه في كل ضروب التطرف الأخرى، فإذا أحدثت جماعة انقلابا في بلدها، تولت على أثره مقاليد الحكم في ذلك البلد، فإنها على الأرجح لا تتريث قبل أن تنزل على من تتوخى فيهم المعارضة، كل ضروب التنكيل والتعذيب تخلصا منهم أولا، ليكونوا عبرة لغيرهم ثانيا.
ثالثا:
لا يتطرف بالمعنى الذي حددناه للتطرف: إلا من حمل على كتفيه رأسا فارغا وحاويا، اللهم إلا أضغاثا دفع بها إلى ذلك الرأس، عن فهم أو عن غير فهم؛ وذلك لسببين يأتيان على التعاقب في خطوتين: فمن جهة أولى، لا تكون الأفكار التي شحن بها رأسه علمية بأي معنى من المعاني، إذ الفكرة العلمية لا هي تتطلب أن يتعصب لها أحد بالتطرف فيها، ولا الأخذ بما يشعر في نفسه بأي حافز يحفزه إلى ذلك؛ لأنها ما دامت فكرة علمية فهي مقطوع بصوابها من ناحية، وخالية من أية شحنة انفعالية، من ناحية أخرى، وهنا ننتقل إلى الخطوة الثانية: وهي أن ما يمتلئ به رأس المتطرف، ما دام لا يمت إلى العلم بصلة فلا بد - إذن - أن يكون فيه الخصائص المضادة لخصائص العلم، ومنها حرارة الانفعال، وغموض المعنى ، واحتمال أن تتعدد فيها وجهات النظر في فهمها وتأويلها واغتراف جانب من جوانبها مع إهمال الجوانب الأخرى.
وهذه الخصائص كلها لا غبار عليها، إذا كان رأس حاويها فيه القدرة الناقدة، وموضوعية النظر، بحيث إذا تقدم إليه ناقد بنقد شيء مما في رأسه، لم يقابله بالثورة الغاضبة، وبالتهديد بالقتل أو بالضرب، بل أنصت إلى نقده بعقل مفتوح، وما دمنا قد حددنا معنى التمرد باقترانه بالإرهاب الأهوج، تحتم أن يكون رأس المتطرف قد خلا من الضوابط التي تمكنه من مخالفة الآخرين لوجهة نظره.
رابعا:
لقد تساهلنا فيما أسلفناه، حين جعلنا التطرف في أي مجال، وجهة نظر؛ لأن من كانت له وجهة للنظر ثبت عليها ورأى كل شيء من خلالها ... لكن التطرف في حقيقته الدفينة «حالة» من حالات التكوين النفسي، تجعل صاحبها معدا لأن يتطرف وكفى: فليس المهم هو الموضوع الذي يتطرف فيه، بل المهم في تكوينه هو أن يتطرف للتطرف في حد ذاته، ومن هنا رأينا أمثلة كثيرة لمتطرفين يقفزون بين يوم وليلة من تطرف في فكرة إلى تطرف في الفكرة التي تناقضها: فنراه اليوم - مثلا - متطرفا في رؤية إسلامية معينة، ثم نراه غدا متطرفا في رؤية شيوعية، مع أن الإسلام والشيوعية ضدان لا يلتقيان.
Bog aan la aqoon