تراثنا بهذا المعنى، هو مجموعة تقاليدنا، ولكن - وبهذه الكلمة، كلمة لكن - أريد أن أستدرك استدراكا عظيم الشأن في موضوعنا هذا، لو أفلت منك فقد أفلت الموضوع كله - أقول: إن تراثنا هو مجموعة تقاليدنا، ولكن بعد أن نطرح من معنى كلمة تقاليد «في هذا الموضع من السياق، جانب التقليد»، وبعد طرحنا لجانب التقليد من معنى التقاليد «يكون باقي الطرح من معنى التقاليد» هو بالضبط ما يعنيه بالتراث الذي نريد له أن يندمج دمجا عضويا مع مقتضيات العصر ليتكون من عملية الدمج مواطن عربي معاصر، لكن هذا القول الموجز يريد منا شرحا طويلا يوضح معناه، وفيما يلي بعض هذا الشرح المطلوب:
وأول مثل أسوقه في سبيل الشرح، أستمده من اللغة وطبيعتها، وتستوي في ذلك اللغة العربية وكل لغة أخرى من لغات البشر، وربما أفادنا أن نمهد لما نريد عرضه، بتشبيه يوضح حقيقة الموقف، فتصور معي إنسانا صاحب أعمال، وضع ماله في مصرف ليسحب منه أي مبلغ من المال أراد، عند قيامه بعمل من أعماله، فالرصيد المالي المودع في المصرف، لا يدل بذاته على العملية التي سوف يؤديها الرجل غدا أو بعد شهر أو بعد عام، رصيد المال هناك، ينتظر رغبته وإرادته وما ينشأ له في مجرى حياته من أعمال يريد إنجازها، فأما رصيد المال في هذا التشبيه، فهو اللغة، وأما كل سحب من هذا الرصيد لقضاء ما يراد عمله، فهو بمثابة أي جملة أو مجموعة جمل يستخدمها صاحب اللغة ليقضي شأنا من شئونه، فكما أن رصيد المال ليس هو التجارة، أو الصناعة أو إقامة أي مشروع معين، فكذلك اللغة وهي في معاجمها، أو في قواعد نحوها وصرفها واشتقاقها، ليست هي قصيدة الشعر يقولها امرؤ القيس، أو يقولها المتنبي، أو أحمد شوقي، ولا هي موطأ مالك، أو مسند أحمد بن حنبل، ولا كتاب الأم للإمام الشافعي، لا، ليست اللغة وهي في معاجمها وقواعدها هي أي كتاب كتبه مؤلفه في تاريخ، أو فلسفة، أو فلك، وإنما تلك الكتب المؤلفة كلها، هي التي تقابل عمليات السحب من الرصيد المالي المودع في المصرف ليكون رهنا برغبة صاحبه ... ومن أين جاء رصيد اللغة المودع في المعاجم وفي كتب النحو وغيره من علوم اللغة؟ إنه جاء على النحو التالي: كانت هنالك جماعة من الناس يكلم بعضها بعضا، وفيهم من ينظم شعرا، ومنهم من يثبت على الورق أي شيء يريد إثباته، ثم جاء من جاء في عصور تالية، من رجال أرادوا أن يجمعوا المفردات اللغوية التي استخدمتها تلك الجماعة في حياتها، ورجال أرادوا أن يستخرجوا من الطرق التي تكلمت بها تلك الجماعة، ما عساه يكون فيها من ضوابط استخدام تلك اللغة عند أصحابها، فإذا تصورنا ما قد جمعه هؤلاء الرجال، وما استخلصوه من قواعد، فقد تصورنا بهذا لغة الجماعة المذكورة، إذ تكون في رصيدها الذي يختزنها، لمن شاء من أصحاب ذلك الرصيد أن يأخذ ما يريده ليستخدمه لما يريد.
وعلى ضوء هذا التصور الذي أسلفنا، لا يكون أي إنسان واحد ممن استخدموا لغة ما، هو اللغة «لم يكن المتنبي أو المعري، هو اللغة العربية»، ولا كان هو اللغة العربية أي رجل ممن استخدموها، اللغة كعين الماء التي لا تنضب، ولكل من أراد أن يغترف منها فليغترف، ولأي غرض أراده، وبأية وسيلة اختار، فهذا ينضح ماءه بدلو، وذلك ينضحه بكوب أو فنجان، وهذا يريد ماءه ليطهو طعاما، وهذا يريده ليشربه، وثالث يريده ليستحم أو ليغسل ثيابه، كل واحد من هؤلاء ينضح من عين الماء، لكنه ليس هو عين الماء.
وهكذا نقول عن التراث، فهو هناك مخزون في مكتباته وخزائنه، ولكل من شاء أن يغترف منه ما شاء وكيفما شاء بحسب ميدان تفكيره أو مجال نشاطه، لكن الاغتراف نوعان: فقد يغترف دارس منه شيئا ليحفظه حفظا أهم عن ظهر قلب ليتظاهر به، أو لا أدري ماذا يصنع به، وقد يغترف منه مبدع أراد أن يلتمس فيه إلهاما يقدح به شرارة الإبداع، فأما الحفاظ فهم الكتب ذاتها، وقد أصبحت تمشي وتأمل وتجلس وتنام، بعد أن كانت مخزونة في خزائنها ومكتباتها، فليسوا هم - أعني حفاظ الكتب - التراث، بالمعنى الذي نريد به للتراث أن يشتعل حياة ينبض بها عصرنا وتنبض به، وأما الذين يلتمسون في مخلفات السلف إلهاما توقد به المشاعل، فهؤلاء هم الذين يسحبون من الرصيد ما يحولونه في دنيا الأعمال تجارة وصناعة وكل نشاط مما تموج به الحياة.
إن أحياءنا لتراثنا لا يكون بحفظ نصوصه وتسميعها كلما نشأت مناسبة للتسميع، إن إحياءنا للتراث لا يتحقق بنقله من خزائنه الخشبية إلى جماجم رءوسنا نصا بنص، فهذه الرءوس لم تخلق لتنافس الخزائن، وكذلك إحياؤنا لتراثنا لا يكون بتقليده، إذ المقلد ليس محسوبا في النبتة الصغيرة كيف تلتمس ماءها وغذاءها، كما تراه في أصغر حيوان كيف يظفر لنفسه بمكان آمن إذا أحاط به الخطر، بل إن إحياءنا لتراثنا إنما يكون بالتزام تقاليده لا بتقليده، فليس فقيه الدين هو من حفظ ما قاله الفقهاء السابقون، بل هو من درس ما قاله هؤلاء الفقهاء، ليصوغ لنفسه فقها كما صاغوا، ولتكون له رؤية كما كانت لهم رؤى، فهو يدرسهم ليتذوق الرحيق لكي يتسنى له أن ينخرط في تاريخ الفقه فقيها، وليس الشاعر هو من حفظ دواوين الشعراء السابقين، لكنه هو الذي يتذوق الشعر العربي في تلك الدواوين لكي يتسنى له - بموهبته الفطرية - أن ينخرط في تاريخ الشعر العربي شاعرا، وليس الناقد الأدبي هو من قرأ كل ما كتبه نقاد الأدب في الماضي، ثم قرأ فوق ذلك كل ما كتبه نقاد الأدب في الحاضر، بل الناقد الأدبي هو من درس هؤلاء وأولئك ليقف على سر المهنة كي يتاح له أن ينخرط في سلك النقد الأدبي أو الفني ناقدا، إني لأشعر بالقلق الخلقي، كلما وجدتني مضطرا إلى شرح ما تدركه البديهة الإنسانية بفطرتها، وماذا هو أكثر بداهة من قولك: إن الشاعر العربي عليه أن يكون شاعرا عربيا، وإن الناقد الأدبي مطالب بأن يكون ناقدا أدبيا؟
قس كل جانب من جوانب التراث، وما يكون موضعه من حياتنا الراهنة، بالمقياس الذي قدمناه بلغة، فاللغة رصيد في المعاجم وقواعد التركيب، ثم يأتي كل مستخدم لها في أي عصر من التاريخ، ليبدع - أكرر: ليبدع، وأقولها مرة ثانية: ليبدع - يأتي من يستخدم تلك اللغة ليبدع ما لم يسبق إليه سابق، الطفل في أول نشأته، لا يكاد يجمع شيئا من مفردات اللغة، مع الذوق الخاص في تركيبها، حتى تسمعه يصوغ عبارات على نحو لم يسبق أن صاغ أحد على صورته، لكن ذلك الطفل ما كان ليبدع صياغته إلا بعد أن يملك من مادة اللغة ما يمكنه من ذلك، وهكذا يكون الأمر بالنسبة لكل مبدع في أي مجال، يبدع الفقيه بوحي من دراسة الفقه عند القدماء، ويبدع الشاعر بوحي ما أنتجته القريحة العربية من شعر القدماء، وهكذا في كل شيء، هل يمكن لمهندس العمارة أن يبدع تصميما لمسجد إذا هو لم يكن قد رأى في حياته مسجدا؟ وربما سألتني عمن صمم أول مسجد، فأجيبك إن الناس لم يمسوا ذات ليل ثم أصبحوا مع فلق الصبح ليروا مهندسا يقيم مسجدا محسوبا في فن العمارة من لا شيء، بل إن الأمر ليحتاج إلى بداية ساذجة، ثم تظل تلك البداية تتطور لتوغل في مجالها الفني على امتداد التاريخ.
علاقتنا بتراثنا هي أقرب شيء إلى اكتساب كل ذي موهبة، حسا تاريخيا فيما يتصل بمجال موهبته، فهو إذ ينتج ما ينتجه إبداعا غير مسبوق إليه إنما يفعل ذلك وهو ممتلئ بشعوره بالانتماء لا إلى جيله وحده، بل بالانتماء إلى كل من ظهروا في التاريخ مبدعين في الميدان الذي جاء هو بدوره ليبدع فيه، فالفقيه المعاصر ينتمي إلى الفقه متمثلا في جميع من شهدهم تاريخ الإسلام من فقهاء، والشاعر العربي المعاصر ، يرتد انتماؤه إلى الشعر العربي لا في جيله وحده، بل منذ عرفت الحياة الإنسانية شعرا ... وهكذا في أي مجال آخر للإبداع في الفكر والأدب والفن.
حقيقة الموقف الإبداعي في أي فرع من فروع الثقافة والعلم بكل ما يشتملان عليه من فروع هي أن توضع اللحظة الراهنة في خطها التاريخي، وإلا فكيف تتاح لها أن تجد مكانها؟ هل يمكن لعالم الرياضة ألا يكون على علم بما وصل إليه علماء الرياضة قبله، وكيف وصلوا؟ هل يمكن للخياط أن يعرف كيف يجيد صناعته، قبل أن يعرف أصولها؟ «قف لحظة عند كلمة أصول»، إنه لا سبيل أمامك إذا أردت أن تأتي بجديد في أي مجال، نظريا كان أم عمليا في فن أو في صناعة، إلا إذا عرفت أصوله «لتعرف عندئذ كيف تنبثق الفروع» الجديدة من أصولها.
فالمطالبة لحياتنا بصيغة جديدة، تدمج فيها عناصر العصر مع عناصر التراث لا تعني أن نضع شيئا من هنا إلى جانب شيء من هناك، بل يعني - بكل بساطة - أن يبدع منا من يبدع، وماضينا كله فيما يختص بمجال إبداعه ماثل في وجدانه؛ لأن انتماءه الفني أو العلمي لا يقتصر على جيله الحاضر بل يمتد ليشمل تاريخ مجاله ليتشرب تقاليده، دون أن يقلد أحدا.
الاقتصاد في الاعتقاد
Bog aan la aqoon