أنا أريد - إذن - أنا إنسان
قصة الإمام أبي حامد الغزالي مع نفسه، معروفة لكل من أسعده الحظ فانصرف بعقله وبقلبه حينا، إلى هذا العملاق العظيم، ليأخذ عنه شيئا من منهجه ومن فكره الذي نتج له عن ذلك المنهج ... وإنما عنيت بقصته مع نفسه ما قد حدث حين تأزمت به نفسه بسؤال لم يجد له الجواب المقنع، فأخذه القلق الذي لم يدعه لحظة ليستريح، فلم يكن له من سبيل إلا أن يترك بغداد، حيث كان يلقي دروسه، وحيث كان يقيم مع أسرته، فترك كل شيء وأخذ يرتحل ثم يرتحل ويحل إلى أن يفتح الله عليه بجواب عن سؤال؛ وذلك لأن السؤال لم يكن من تلك الأسئلة العابرة التي تطوف برأس صاحبها، ثم سرعان ما تختفي لتسقط في بحر النسيان سواء أوجد لها صاحبها جوابا يقنعه أم لم يجد، كلا، بل كان السؤال الذي ألح عليه، من ذلك النوع الذي يجيء ليبقى، وغالبا ما يصبح في حياة صاحبه نقطة بدء تضعه على منعرج في طريق حياته، فلقد دار في نفس الغزالي خاطر، هذا هو فحواه: إنني أثبت وجود الله «سبحانه وتعالى» بأدلة من آيات كتابه فيؤمن بها السامع كما أنا مؤمن بها؛ لأن كلينا كان قبل الإثبات على إيمان سابق بالكتاب، لكن ماذا لو أنني وجهت تلك الأدلة نفسها إلى غير مؤمن بالكتاب؟ إن أدلة الإثبات لا بد لها أن تستند إلى شيء في فطرة الإنسان من حيث هو إنسان، لا فرق في ذلك بين من آمن ومن لم يؤمن، فماذا عسى ذلك الشيء أن يكون؟
هذا هو السؤال الذي ضيق عليه الخناق حتى تأزمت نفسه فغادر بغداد، تاركا طلابه وأسرته وأخذ، وهو في أزمته تلك، يسافر ويقيم ثم يقيم ليسافر، إلى أن فتح الله عليه بجواب استراح له عقله كما اطمأن له قلبه في آن معا، وعندئذ عاد إلى بغداد ليستأنف ما قد كان فيه، ولكن شتان ما بين الحالتين، فالفرق بعيد بين رجل يقول ما يقوله لنفسه وللناس، وضميره يتأرق لشك يراوده، ورجل آخر يرضى ضميره عما يقول ...
وهناك في بغداد بعد عودته، كتب آيته الفريدة «المنقذ من الضلال»، وهو بمثابة ترجمة ذاتية، يروي فيها بدقة وصدق وإخلاص عن تلك الخبرة الداخلية التي خاضها، والتي لولا فضل الله عليه بأن هداه إلى ضالته، لضل هو نفسه وانحرف عن جادة الطريق، لكن الغزالي إذ ترجم لذاته، قد صور في الوقت نفسه أهم التيارات الفكرية التي سادت عصره ليرد على مزاعمها تيارا بعد تيار، مستهدفا أن يصل بالقارئ آخر الأمر إلى الوقفة الفكرية التي اهتدى إليها بعناية من الله ...
ولما كان مداره في وقفته الفكرية الجديدة هو الوسيلة التي يدرك بها الإنسان وجود الله سبحانه (وكلمة «الإنسان» هنا تعني أي إنسان، آمن أو لم يؤمن بدين الإسلام) أقول: إنه لما كانت وسيلة الإنسان في إدراك وجود الله إدراكا لا يحتمل الشك هي لب وقفته الجديدة، فقد اضطر في كتابه «المنقذ من الضلال» أن يستعرض وسائل الإدراك المختلفة وأدوارها في حياة الإنسان العقلية، ليبين لنا أن كل وسيلة منها ضرورية في مجالها، لكنها لا تسعف صاحبها بشيء من العلم الصحيح خارج ذلك المجال. وتلك الوسائل درجات تتفاوت صعودا فتتفاوت دقة، ويتبع ذلك أن يتفاوت الناس كذلك من حيث قدارتهم العقلية، فالأقل قدرة يكفيه الوسيلة الإدراكية الأقل دقة، وهكذا تتصاعد وسائل الإدراك مع تصاعد القدرات عند أفراد الناس، حتى تبلغ ذروة الوسائل عندما تبلغ ذروة الحق؛ وأعني وجود الله - جلا وعلا - وواضح أن تلك الذروة إذا كانت من نصيب الصفوة القادرة، فإن تلك الصفوة نفسها هي التي تنقل العلم الصحيح إلى من لم يكونوا قادرين على تحصيله بأنفسهم تحصيلا مباشرا.
وأدنى وسائل الإدراك التي أشرنا إليها، هي أن يحصل الإنسان معرفته عن طريق التواتر، بمعنى أن يكتفي الإنسان بما يسمعه شائعا بين الناس دون أن يقوم هو بإثبات صحة ما سمعه من أفواه الناقلين، ثم تتلو هذه الدرجة صعودا وثباتا ما يحصله الإنسان بحواسه تحصيلا مباشرا، فيكون هو الذي رأى الشيء بعينيه أو سمعه بأذنيه بغير وسيط ينقله إليه، ثم تتلو هذه الدرجة صعودا ودقة مرحلة «العقل»، فها هنا يكون إثبات صحة الحقيقة المعينة قائمة على الدليل العلمي القائم على منهج البحث العلمي، لكن هذه المرتبة العقلية العلمية المنهجية، إنما تقتصر قيمتها على ما هو ممكن للعقل أن يطبق عليه منطقه ومنهجه، ويبقى وجود الحق - سبحانه وتعالى - فوق هذه الدرجات كلها، ولا بد لإدراك وجوده من وسيلة أخرى، وتلك الوسيلة الأخرى هي الرؤية الباطنية، فتأمل ذات نفسك لترى كيف تعمل، وهناك سيلفت نظرك ما يحدث عندما تريد القيام بتحريك جارحة من جوارح بدنك، كأن تريد - مثلا - أن ترفع ذراعك أو أن تمدها أو تريد القيام بعد قعود، أو القعود بعد قيام، تأمل نفسك جيدا في أية واحدة من تلك الحالات، إنك لن «ترى» شيئا بمعنى الرؤية بالعين ولن تسمع شيئا بمعنى السمع بالأذن ... لكنك مع ذلك تحس في جوف ذاتك بالعزيمة التي تعزم بها أن تحرك البدن على النحو الذي «تريد»، فإذا تذكرت أن أقل حركة يتحرك بها جزء من البدن لرفع الذراع، أو القيام بعد قعود أو المشي ولو خطوة واحدة تقتضي أن تتناسق ألوف الألوف من الخلايا والأعصاب والعضلات إلخ إلخ ... فإنها همسة خاطفة غير مسموعة يعزم بها الإنسان، ففي لا زمن - لا تقل في «ثانية» أو في عشر معشار الثانية - لا، لا تقل ذلك لأن استجابة تلك الألوف من ألوف الأجزاء، تتناسق معا لأداء حركة واحدة «معا» تأتي في لا زمن، فالهمسة الإرادية الداخلية وما ينتج عنها وجهان لحقيقة واحدة، إنهما يحدثان معا ... ومن هذه الرؤية الباطنية نفهم معنى الخلق وكيف يتحقق وجوده استجابة للقول: «كن»، فكأنما الإرادة داخل الإنسان هي القائلة «بالعزيمة لا باللسان»: «كن»، فيكون ذلك التناسق بين ألوف الألوف من خلايا الجسد وأجزائه، وإذا كان الأمر كذلك في الإنسان على حدوده، فهو عند الله - جلت قدرته - في لا نهائيته المطلقة من كل حدود، وإذا شئنا أن نصوغ الوقفة الغزالية في مبدأ واحد مركز المعنى كانت الصيغة هي: «أنا أريد، إذن، أنا موجود قادر» ...
ولا بد أن تكون هذه الصيغة التي اخترناها لنصب فيها الوقفة الغزالية، قد ذكرتك بالصيغة الديكارتية المعروفة: «أنا أفكر، إذن أنا موجود» (وديكارت بعد الغزالي بنحو ستة قرون)، وحقيقة الأمر هي أن الشبه شديد من حيث «المنهج» - وليس من حيث المحتوى - بين الغزالي وديكارت، واقرأ عن خطوات المنهج الذي يؤدي بالإنسان إلى اليقين في كتاب «محك النظر» للغزالي، تجد نفسك على وشك أن تتساءل: وماذا بقي بعد ذلك لديكارت؟ إذ ربما كان ركن الأساس في المنهج عندهما واحدا، وهو ضرورة البدء بحقائق لا تحتمل أن يشك فيها بحكم طبيعتها المنطقية ذاتها، ثم هنالك بين الرجلين شبه آخر، لا يقل أهمية عن ركن الأساس الذي ذكرناه لتونا، وذلك الشبه الآخر هو أنه بالرغم من أن المبدأ الديكارتي يبدو وكأنه استدلال نتيجة من مقدمة، ففي كلمة «إذن» التي بين الطرفين ما قد يوحي بأن الطرف الثاني مستدل من الطرف الأول، إلا أن حقيقة الأمر عنده هي أن طرف «التفكير» وطرف «وجود المفكر» وجهان لحقيقة واحدة، وكذلك الأمر بالنسبة للإمام الغزالي، فإذا كانت الإرادة هي بمثابة الأمر «كن» فتأتي الاستجابة، فها هنا كذلك يكون الطرفان وجهين لحقيقة واحدة، وبعد ذلك فلتنظر إلى باطن نفسك مرة أخرى وراقبها جيدا عندما تهم بعزيمتك على إحداث حركة بدنية كيف تجيء تلك الحركة المرادة بعد العزم بها في لا زمن، على أن ذلك - بالطبع - لا يمنع أن تتعلق إرادتك بفعل تريد له أن يتحقق بعد حين؛ فلا يكون هناك فجوة زمنية بين الإرادة من جهة والإرجاء من جهة ثانية ...
طريق طويل سرناه معا فيما أسلفناه، وكان كل أملي أثناء كتابتي للأسطر السابقة هو ألا يأخذك الملل فتترك القراءة قبل أن تصل إلى ما أكتبه الآن؛ لأنه هو الغاية المقصودة بالحديث كله، فلقد أردت أن أضع في رأسك فكرة تؤمن بصدقها، وتشكل سلوكك على أساسها طواعية منك واختيارا؛ ولذلك قدمت ما قدمته ليكون هو الأساس الراسخ المتين، الذي نقيم عليه فكرتنا هذه التي نقدمها الآن، وهي أنه إذا كان وجودك ووجودي، إنسانين من البشر المسئول عما يفعل أمام ربه وأمام ضميره، مرهونا بأن يكون الواحد منا «مريدا» أي أن تنبع إرادة الفعل المعين نابعة من عزيمته هو، من ذاته هو، من ضميره هو، ترتب على ذلك نتيجة حتمية، وهي أن ما يريده سواك غير ملزم لك، إلا إذا أحسست بأنه مطابق لما تريده أنت كذلك، وأن آدميتك إنما تقاس بمقدار ما أردت أنت لا ما أراده الآخرون، وأكرر مرة أخرى: إلا إذا كان ما أراده الآخرون مطابقا لما كنت تريده أنت لو كنت أنت البادئ بالإرادة وتنفيذها.
وما يتفرع عن هذا الأساس، يكون له من الصواب ما للأساس نفسه، وأول ما يتفرع عنه، مما يهمني ذكره، هو أنه إذا كانت إرادة فرد لا تلزم فردا آخر مجاورا له، فمن باب أولى ألا تكون إرادة أرادها أبناء عصر معين، ملزمة لأبناء عصر آخر، وأكرر التعليق نفسه مرة ثالثة فأقول: إلا إذا أحس أبناء العصر التالي أنهم كانوا ليريدون الشيء نفسه لو كانوا هم البادئين.
كان من الجوانب التي جاءت مشتركة بين الغزالي وديكارت أن كليهما أقام دليله على وجود الله، على الطريقة التي أثبت بها وجود نفسه، لكن الفرق بينهما في ذلك هو أنه بينما تعقب الغزالي في ذاته فاعلية «الإرادة»، كانت فاعلية «الفكر» هي التي تعقبها ديكارت، فكأنما يقول الغزالي إنه موجود ما دام كائنا مريدا، على غرار ما قاله ديكارت بعد ذلك إنه موجود ما دام كائنا مفكرا، فالمنهج واحد كما ترى والمضمون يختلف ... وإني لأذكر تلك الساعة البعيدة من حياتي، هي بعيدة بعد ما قد يزيد على أربعين عاما حين قرأت لوايتهد جملة وردت في سياق حديث له لم أعد أذكر في أي كتاب من كتبه، يقول فيها: «إن الإسلام يجعل الأولوية للإرادة»، وعند قراءتي لتلك الجملة تركت الكتاب مفتوحا أمامي وشردت بنظري إلى الأفق أسائل نفسي: هل هذا صحيح؟ وبعد لحظات أجبت نفسي: نعم إنه صحيح فيما يبدو، ولست أظن أن تلك الفكرة كانت قد امتلأت في ذهني بغزارة معناها، كما هي ممثلة به الآن.
Bog aan la aqoon