Hogaamiyeyaasha Kacaanka Casriga ah
رواد النهضة الحديثة
Noocyada
هو إحدى حلقات تلك السلسلة الذهبية، أدرك الشدياق، وناصيف اليازجي، وإسحاق، ومشى مع صروف وزيدان رفيقي المدرسة، فتوغل زيدان في دياميس التاريخ على ضوء هلاله، وانصرف صروف إلى بساتين العلوم الحديثة يقتطف منها زهورا فواحة وثمارا يانعة، أما الشميل فجعل وكده العلم والفلسفة. جرته دراسته الطبية إلى بحث «الأنواع» فسد ثغرة وملأ فراغا، تحدث عن العلم والفسلفة بأسلوب أدبي رفيع فكان نسيج وحده.
قال صروف: جاء الشميل المدرسة الكلية الإنجليزية - الجامعة الأميركية اليوم - سنة 1867 وله من العمر حوالي سبعة عشر عاما فتجاورنا على مقعد المدرسة سنتين. شاب قصير القامة، أسمر اللون، مرتد الثياب الفرنجية يوم كانت نادرة الاستعمال. هو من كفر شيما ضيعة أستاذنا ناصيف اليازجي، وأنا من ضيعة الشدياق، وكلانا يود أن يحتذي بابن بلده، فكنا نتنافس في اقتفاء أثرهما.
والشميل ابن بيت علم، أخواه ملحم وأمين معلمان، ولهما تآليف في الفلسفة، وأبوهم من أدباء عصره. وفي سنة 1871 ترك شبلي المدرسة إذ صار طبيبا جسمانيا، ثم عالما صريحا، وفيلسوفا جريئا لا يحابي أحدا. كان حاد الذهن، سريع التصور ، نابغة في التعليل، ألمعيا في اكتشاف الحقائق. وكان أشهر الأطباء في التشخيص الطبي فكأنما يوحى إليه. وبلغت منه الفراسة أنه علل حوادث كثيرة بالاستهواء الذاتي قبل شيوع هذا العلم في أوروبا.
وهو - فوق ذلك - ذو ذاكرة ماضية، وقوة استحضار فائقة. أنيس المحضر، حسن المحاضرة، فكه الحديث، طلق المحيا، بشوش، مخلص، منصف، ذو شجاعة أدبية تفوق الحد، متغطرس على الظالمين، متواضع للضعفاء البائسين، كريم لم يستفد من علمه، ولو حرص على ماله حرصه على مقالاته، لكان من الأغنياء ولعاش ميسورا موفورا. كان واسع الرواية، قوي الحجة، متحمسا لمعتقده.
وهذا النابغة العظيم هو زعيم فكرة التطور والنشوء والارتقاء في عالم الضاد. حاز شهادة الطب يوم كانت معركة النشوء والارتقاء حامية الوطيس في الغرب، فنقل رحاها إلى الشرق. قرأ عنها في المدرسة سنة 1871 فهزئ بها، ولكنها شغلت باله، فظلت تعمل في عقله الباطن، حتى خطب عند نيله الشهادة في موضوع: «اختلاف الحيوان والإنسان بالنظر إلى الإقليم والغذاء والتربية»، وكل ذلك عن غير قصد منه. ورحل بعد نيل الشهادة إلى أوروبا والأستانة فاطلع على المذهب في كتب أصحابه، وكأنه يعلل تحوله إلى هذا الموضوع فيقول: «إن تربيتي المدرسية لم تسمني بطابعها، فإن اعتلال صحتي في حداثتي لم يسمح لي بأن أكون من متخرجي المدارس، ما خلا الطب.»
أثار الشميل قضية فلسفة النشوء والارتقاء فقامت حولها القيامة، وإن كنا نقرؤها اليوم كما نقرأ فرضا حسابيا. ولست أبعد بك كثيرا، أيها القارئ العزيز، فقد جئت والدي - بعد عودتي من المدرسة - بخبر أحدث بيني وبينه ما أحدثت فلسفة النشوء والارتقاء بين الشميل ومناظريه. جرني غرور الصبا والعلم فقلت لمن جاءوا للسلام علي وامتحان عبقريتي: الأرض تدور. فزأرني والدي، ولكني لم أعبأ بعارض جفنيه ومضيت في حديثي. فإذا به يعض على شفته السفلى عضة ترعب، فلم أسكت. أما الناس فكانوا يسمعون براهيني على دوران الأرض، وهم يضحكون علي، وأنا أحسبهم يضحكون لي، ولكن المرحوم والدي نزل أخيرا إلى الميدان، فخطأني وخطأ جميع الكتب، وسب ديك العلماء، وحجته الدامغة هو أن بابنا الشمالي يظل على الشمال، والشمس تغيب وراء جبل معاد، وتظل تغيب هناك ... وكان مسك الختام: سد بوزك. فسددناه مؤقتا ...
لسنا ندرس الشميل الدرويني فعلى من يهمه الأمر أن يرجع إلى كتبه التي طبعت سنة 1984 ثم أعيد طبعها في سنة 1909 على حساب الأجاويد والأنصار، وأولهم الأب بولس الكفوري والدكتور أيوب ثابت وغيرهما من أحرار رجال الفكر والقلم، ثم أصحاب الأكياس الوارمة. أما الذي يعنيني هنا فالشميل الأديب النابغة الحر الفكر الذي لا يؤمن بغير العلم، والعلم العملي وحده، وقد قال في ذلك:
إن اليوم الذي ينصرف فيه الإنسان عن تنميق الكلام إلى إتقان العمل هو اليوم الذي تتقوم فيه طباعه، فتقل سخافته، ويكثر جده، ويقل رياؤه، وينشط من الذل، ويرتقي ارتقاء حقيقيا، ويحق له حينئذ أن يعد نفسه إنسانا.
وإذا بحثنا الشميل الأديب فكأنا تناولنا الشميل كله بقضه وقضيضه، فهو لم يفارق عمود فكرته في كل ما كتب، فكأنه استعان ببيانه لإيضاح ما في وجدانه. أسلوب إنشائي؛ تارة ينحو فيه نحو الشدياق معلم الجيل في بساطة العبارة، وخفة الروح، وحينا ينهج نهج أديب إسحاق الخطابي فينقض على الموضوع انقضاضا.
فالشميل كاتب جدلي، مطبوع على الأسلوب الخطابي، ينم أسلوبه على لبنانيته. تقرأ مجموعته من أولها إلى آخرها، فلا تحس أدنى أثر للهجة المصرية، بل بالعكس فإنك ترى لونا صارخا من الأسلوب اللبناني وإليك مثلا هذا التعبير: «كم أنت متمسك بما نشأت عليه؟ فأنا كنت مثلك وأكثر.» ومثل هذه العبارة كثير في مقالاته.
Bog aan la aqoon