Rules of Tajweed According to the Narration of Hafs from Asim ibn Abi al-Nujud
قواعد التجويد على رواية حفص عن عاصم بن أبي النجود
Daabacaha
مؤسسة الرسالة
Lambarka Daabacaadda
.
Noocyada
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
فقد نظرت في كثير مما ألف في التجويد على رواية حفص من المصنفات القديمة فاستقر عزمي على تأليف كتاب للطلاب، أجمع فيه خلاصة ما في تلك الكتب وأرتبه بأسلوب مناسب لمداركهم في هذا العصر، وقد بذلت غاية جهدي لأكمل ما نقص، وأوضح ما أبهم، ولأختار من التعريفات والتقسيمات أكثرها دقة، وخاصة في باب مخارج الحروف، حيث يختلفون فيه اختلافًا ملحوظًا مع أنه أهم أبواب هذا الفن، ويليه باب الصفات، وهذان البابان يعتمدان اعتمادًا كبيرًا على دقة التطبيق العملي للنطق الصحيح الفصيح، وقد كنت أخضع ما يقوله بعض الشراح والعلماء من أهل هذا الفن للتجارب العملية في فصول الدراسة عند تدريس القرآن في المعهد الثانوي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وإن كنت لم أجد من الإمكانات أكثر من ذلك للتحقيق لكنني بذلك توصلت إلى بعض النتائج التي تيسر على الطالب قواعدها هذا العلم..
والأمر يحتاج إلى مزيد من الدراسات الدقيقة والجهود المخلصة والإمكانات والوسائل الحديثة لتستخدم في هذه الدراسات، والمقصود الرئيسي خدمة القرآن الكريم، والتوصل إلى النطق العربي النبوي الفصيح لكتاب الله.
1 / 5
وليعلم كل من درس هذا العلم أو قام بتدريسه أنه وإن كان يعتمد على النقل والرواية فحسب إلا أن مرجعه في الحقيقة الذوق العربي السليم الفصيح، لأن القرآن نزل بلسان العرب، وكانوا يلجئون في لغتهم دائمًا إلى الحسن الجميل السهل في النطق، ويفرون من الثقيل على ألسنتهم المستبشع في أذواقهم، فكالنوا يحلون كلامهم بكل مستحسن جميل في النطق ويميلون إلى السهولة واليسر.
ولذا وصف التجويد بأنه حلية التلاوة وزينة الأداء، وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: "زينوا القرآن بأصواتكم" رواه الحاكم، وقال ابن الجزري في المقدمة:
وهو أيضًا حلية التلاوة ... وزينة الأداء والقراءة
وعلى مدرسي هذا العلم أن يلحظوا أثناء تدريسهم أنه لابد من الإكثار من التطبيق وممارسة النطق الصحيح من الطلاب، وهناك ثلاث مراحل ينبغي أن يتدرج فيها المبتدئ في هذا الفن:
الأولى: تصحيح نطقه بتحقيق مخارج الحروف وصفاتها اللازمة حتى لا يخلط الحروف ببعضها، وحتى يتعود التمييز بينها، والنطق بها نطقًا صحيحًا، بإخراج كل حرف من مخرجه المحقق، وبالمحافظة على حركات الإعراب، والتنبه للوقوف اللازمة أو الممنوعة التي يترتب عليها إخلال بالمعنى، وفي هذه المرحلة يعنى المعلم أولًا بتصحيح اللحن الجلي المعروف حده وتعريفه في هذا الفن، وبتصحيح الخلل الواضح في النطق الذي يؤدي إلى خلل في المبنى أو في المعنى.. ويعنى أيضًا
1 / 6
بالأحكام الواجبة، كالمدود اللازمة، والطبيعية، ومواضع الإظهار ونحو ذلك.
الثانية: يرتقي فيها المعلم مع التلميذ إلى العناية بأحكام الحروف وصفاتها التكميلية، أي: لا تتوقف صحة النطق عليها، ولكنها من مقتضيات الفصاحة والكمال، كالترقيق والتفخيم، والغنة، والإدغام والإخفاء والإقلاب، والمدود الجائزة، ومن الصفات مثل القلقلة واللين، والانحراف، والإصمات، والإذلاق، وتحقيق التكرار، ومن الوقوف: المواضع الواضحة التي يظهر فيها تعلق المعنى أو عدم تعلقه وحسنه أو قبحه، ويبدأ في هذه المرحلة بتصحيح الأخطاء الخفية.
الثالثة: وهي المرحلة الأخيرة وتعتبر مرحلة المتقنين، فالتلميذ فيها يكون مجودًا محققًا لأحكام الحروف ومخارجها وصفاتها، ويكون نطقه سليمًا من الأخطاء الجلية، ومعظم الأخطاء الخفية، إلا أنه بعد لم يكتمل إتقانه، ولم يبلغ درجة كافية من المهارة في النطق، وحتى لو بلغ درجة المتقنين، فإن المتقنين على مراتب متفاوتة، والإتقان درجات بعضها فوق بعض، وقمة الإتقان ومنتهاه نطق رسول الله ﷺ الذي لم يأذن الله لشيء ما أذن له وهو يقرأ القرآن يجهر به ويتغنى به١
في هذه المرحلة الأخيرة يهتم المعلم بالنواقص الخفية التي تخل بالإتقان لا بالنطق، كالتدقيق في مقادير المدود ودرجاتها، ومراعاة المعاني الدقيقة في الوقوف، وبلوغ الغاية من المهارة في تحقيق الصفات.
_________
١ أخرجه الشيخان
1 / 7
وينبغي أن يوفر المعلم أثناء درس التجويد والقراءة فرصتين لتلاميذه:
إحداهما: السماع للنطق الصحيح، فيقرأ لهم وهم يتابعونه في المصحف أو على السبورة.
والأخرى: النطق الصحيح، فيقرءون وهو يستمع ويتابع ويصحح الأخطاء.
وليعلم كل طالب علم معنيّ بهذا الفن العظيم أنه من الفنون والعلوم العملية التي لا يمكن أخذها من الكتب وحدها، بل لابد من الممارسة والتطبيق، والإكثار من التمرين حتى يستقيم لسانه ويعتاد النطق السليم، قال ابن الجزري:
وليس بينه وبين تركه ... إلا رياضة امرئ بفكه
كما أنه من العلوم التي ترجع إلى السماع والنقل ولا مجال فيه للقياس فلابد من سماع القرآن من مجود متقن وعرضه عليه، وليحذر طالب التجويد الذي يروم التقحيق والإتقان أن يتلقى القراءة إلا من مجود متقن وكان السلف يشترطون في ذلك اتصال السند إلى النبي ﷺ لأن هذا العلم سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول كما ثبت عن عمر وزيد بن ثابت ﵄.
ولكن المعاصرين كثيرًا ما يخطئون فيه، وكذا أهل الأداء ومن انتسب إليهم، فإن العناية اليوم بالتحقيق ضعيفة، خاصة في هذا الميدان. حتى صار من الصعب الوثوق بمجود يقرر حكمًا حتى يثبت مرجعه أو اتصال سنده.
1 / 8
واعتمادي في هذا لكتاب على عدد من مراجع هذا الفن من كتب السلف المعتمدة، أولها: المقدمة فيما على قارئه أن يعلمه، وشروحها وهي كثيرة، لكنني رجعت إلى: شرح ابن المصنف مخطوطًا، وشرح الملا علي القاري، وشرح الشيخ زكريا الأنصاري، وتعليقات الشيخ خالد الأزهري.
ومما دفعني إلى تأليف هذه الرسالة ما علمته من اهتمام والدي ﵀ الشيخ عبد الفتاح القارئ -وهو شيخي في القراءة- بتأليف راسلة في رواية حفص استجابة لطلب إدارة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ورئيسها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وفقه الله وبارك في عمره، لكن عاق والدي عن ذلك الأجل المحتوم الذي أدركه، أسأل الله له الرحمة والرضوان، وأن يتقبل مني عملي هذا وينفع به طلبة القرآن، إنه سميع قريب.
كتبه بالمدينة النبوية في المحرم عام ١٣٩٣ هـ أبو عاصم عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ
1 / 9
لمحة موجزة من تاريخ التجويد والقراءات:
لقد تعبد الله ﷿ خلقه بتلاوة هذا القرآن العظيم، ووعدهم عليها الثواب الجزيل، وأثابهم على كل حرف منه عشر حسنات وأمرهم أن يتفكروا فيه، ويتدبروا معانيه، حتى يصلوا إلى المقصود والمراد وهو تحقيق مبادئه وتطبيق أحكامه، وشرع للقراءة صفة معينة، وأمر نبيه بها فقال: ﴿وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [٤: المزمل] وقال: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا﴾ . [١٠٦: الإسراء]
وكان ﷺ من حرصه على إتقان القرآن يستعجل عندما كان يلقنه جبريل ﵇ ويقرئه إياه فقال ﷿: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ [١٦، ١٧: القيامة] .
وكان ﷺ يعرض القرآن على جبريل في كل عام مرة في رمضان، وفي السنة التي توفي فيها عرضه مرتين.
وقد علم النبي ﷺ الصحابة القرآن كما تلقاه من جبريل، ولقنهم إياه بنفس الصفة، وحثهم على تعلمها والقراءة بها، وروي عنه أنه قال: "إن الله يحب أن يقرأ القرآن غضًا كما أنزل" رواه ابن خزيمة في صحيحه عن زيد بن ثابت.
ثم خص نفرًا من أصحابه أتقنوا القراءة حتى صاروا أعلامًا فيها، خصهم بمزيد من العناية والتعليم، وكان منهم: أبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبو
1 / 13
موسى الأشعري، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وغيرهم. وكان ﷺ يتعاهدهم بالاستماع لهم أحيانًا، وبإسماعهم القراءة أحيانًا أخرى، فقد جاء في الحديث الصحيح أنه طلب من ابن مسعود أن يقرأ عليه فقرأ حتى بلغ قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ [٤١: النساء] قال: حسبك. فالتفت فإذا به ﷺ تذرف عيناه١.
وجاء عنه أنه قال لأبي بن كعب: "يا أبا المنذر، إني أمرت أن أقرأ عليك القرآن" ٢
وقال ﷺ بتعلم القراءة، وبتحري الإتقان فيها، بتلقيها عن المتقنين الماهرين: "خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب" ٣.
كل هذا وغيرها يدل على أن هناك صفة معينة للقراءة، هي الصفة المأخوذة عنه ﷺ، وبها أنزل القرآن فمن خالفها أو أهملها فقد خالف السنة وقرأ القرآن بغير ما أنزل.
وصفة القراءة هذه التي اصطلحوا على تسميتها بعد ذلك بالتجويد تتضمن لهجات العرب الفصحى، وطريقتهم في النطق، وهذا من مقتضى كون القرآن عربيًا، فهو عربي في لفظه ومعناه، وأسلوبه وتركيبه، ولهجته وطريقة النطق به، ولذلك تجد كثيرًا من
_________
١ متفق عليه.
٢ مسلم والترمذي.
٣ البخاري.
1 / 14
مباحث التجويد والقراءة في علم اللغة والنحو، فهي مباحث مشتركة بين الطرفين.
وقد اهتمت الأمة بهذا العلم الجليل، وقام علماء السلف -رضوان الله تعالى عليهم- بخدمته ورعايته بالتصنيف والقراءة والإقراء، حتى ليكاد القارئ يقول: لم يتركوا للآخرين شيئا.
وإني كلما اطلعت على شيء من مصنفاتهم ازداد يقيني بأن ما صنفه هؤلاء في القراءات والتجويد يشكل مكتبة قرآنية ضخمة لا تعادلها مكتبة أخرى، ومازالت الكنوز المدفونة في هذه المكتة تكشف عن روائعها كل يوم.
تاريخ التأليف في هذا الفن:
لعل أول من جمع هذا العلم في كتاب: الإمام العظيم أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفي سنة ٢٢٤ هـ، فقد ألف كتاب القراءات الذي قال عنه الحافظ الذهبي: ولأبي عبيد كتاب في القراءات ليس لأحد من الكوفيين قبله مثله١
وقيل: إن أول من جمع القراءات وألف فيها: حفص بن عمر الدوري المتوفى سنة ٢٤٦ هـ ٢. واشتهر في القرن الرابع الهجري الحافظ أبو بكر بن مجاهد البغدادي، وهو أول من سبع السبعة، وأفرد القراءات السبعة المشهورة في كتاب وتوفي سنة ٣٢٤ هـ.
_________
١ معرفة القراء الذهبي: صـ١٤٢
٢ معرفة القراء: صـ١٥٧
1 / 15
وفي القرن الخامس اشتهر الحافظ الإمام أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني مؤلف كتاب التيسير في القراءات السبع، والذي صار عمدة القراء بعده فهم يدورون حوله شرحًا ونظمًا، وقراءة وإقراء، وله تصانيف كثيرة في هذا الفن وغيره، قال الحافظ الذهبي: بلغني أن له ماية وعشرين مصنفًا١. وقد عد ابن الجزري منها في طبقاته واحدًا وعشرين كتاب.
توفي أبو عمرو الداني سنة ٤٤٤هـ.
واشتهر في هذا القرن أيضًا الإمام مكي بن أبي طالب القيسي القيرواني وقد ألف كتاب لا تعد ولا تحصى في القراءات وعلوم القرآن وغيرها، وذكر ابن الجزري في طبقاته أن له نيفًا وثمانين تأليفا، قلت: وقد وجد الكثير منها، ومن أشهرها التبصرة في القراءات وشرحه الكشف عن وجوه القراءات وعللها، والإبانة عن معاني القراءات، والرعاية في التجويد.
وفي القرن السادس الهجري اشتهر شيخ هذا الفن الذي تسابق العلماء إلى لاميته، وانكبوا عليها انكباب الفراش على النور، تلك هي الشاطبية التي أسماها حرز الأماني ووجه التهاني نظم فيها القراءات السبعة المتواترة في ثلاثة وسبعين وألف بيت، وذاك هو أبو القاسم بن فيرة بن خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الأندلسي.
توفي سنة ٥٩٠ من الهجرة.
_________
١ معرفة القراء: ٣٢٧.
1 / 16
وبعده ما زالت العلماء تترى في هذا الفن في كل عصر وقرن، حاملين لواء القرآن آخذين بزمام علومه إقراءً وتطبيقًا، وصارفين الأعمار لخدمته تصنيفًَا وتحقيقًا، حتى قيض الله ﷿ له إمام المحققين ورئيس المقرئين محمد بن الجزري الشافعي، فتتلمذ عليه خلق لا يحصون وألف كتبًا كثيرة أشهرها النشر في القراءات العشر ضمنه السبعة وزاد عليها قراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف، ثم اختصره في كتابه تقريب النشر ثم نظم في هذه القراءات العشر منظومة أسماها طيبة النشر، ونظم في القراءات الثلاث الدرة المضية.
ونظم في التجويد المقدمة فيما على قارئه أن يعلمه وقد تداولها أهل هذا الفن وعنوا بها، وممن شرحها ابن الناظم، ثم وضع لها الشيخ خالد الأزهري شرحًا مختصرًا سماه الحواشي الأزهرية، وشرحها أيضًا الشيخ زكريا الأنصاري، والملا علي القاري، وغيرهم.
وقد أفرد العلماء بعض أبواب هذا الفن بالتصنيف، كمخارج الحروف وصفاتها ومن أشهر الكتب فيها الرعاية لمكي، وكالفرق بين الضاد والظاء، والممدود والمقصور، والوقف والابتداء، وأحكام النون الساكنة والتنوين.
وإن من أماني النفس أن نرى هذه المكتبة القرآنية العظيمة التي تحوي كنوزًا مدفونة لا حصر لها وقد أبرزت للدنيا وكشفت للناس، فيفرح بها المسلمون، وينتفع المقرئون، ويشهد الشانئون الحاقدون مقدار عظمة هذا الدين، وعظمة كتابه المبين، ويروا بأعينهم معنى الحفظ الذي تكفل الله به لهذا الكتاب العظيم ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
1 / 17
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [٩: الحجر] . ولعل بوادر نهضة في مجال الدراسات القرآنية قد بدت في الأفق، فإن القرآن لا تنفد عجائبه وعلومه، وما زال علم القراءات والتجويد يحتاج إلى مزيد من البحث والتدقيق باستخدام الوسائل المعاصرة.
ولا شك أن القارئ المعاصر، والتلميذ الحديث يحتاج مع ذلك إلى تقريب هذا الفن إلى ذهنه، وتحبيبه إلى قلبه بصياغته في ثوب جديد وأسلوب حديث، إذ أكثر المصنفات السالفة ألفت لمستويات رفيعة من المتفرغين وطلبة العلم المتخصصين، ووضعت بأسلوب غير أسلوبنا، وهم معذورون في ذلك إذ كانت الهمم أعلى، والعزائم أقوى، والنفوس مقبلة على العلم متفرغة له.
وجزى الله أسلافنا العلماء خير الجزاء عن القرآن وطلابه، وعن الإسلام وأهله.
1 / 18
القراءات المتواترة:
تواتر عن رسول الله ﷺ "أن القرآن أنزل على سبعة أحرف" -أي: سبعة أوجه من أوجه القراءة- تتضمن مختلف لغات العرب ولهجاتها الفصحى، وعلى رأسها لغة قريش حيث كان نزول القرآن أول ما نزل بها.
وكان ﷺ يقرئ أصحابه بهذه الأحرف فيذهب كل واحد منهم وهو يقرأ بقراءة غير التي يقرؤها صاحبه.
وتفرق الصحابة في البلاد، وأخذ عنهم الناس القرآن، ثم كثر تنازع الناس واختلافهم في القراءة، حتى خشي حذيفة بن اليمان ﵁ أن يصيبهم مثل ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف في كتابهم.
لقد كان الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- على وعي وإدراك تام لمعنى هذه الأحرف المختلفة والمقصود منها بعد أن علمهم النبي ﷺ أما الناس فلم يصل إدراكهم وفهمهم إلى ما وصل إليه أولئك، ولذلك استقر إجماع الصحابة على أن يجمعوا الأمة على مصحف واحد، فكتب عثمان بن عفان المصاحف وبعث بها إلى الأمصار، وأجمعت الأمة على ما كتبه في هذه المصاحف واطرحوا ما سواه فلم يقرءوا به، وما زال المسلمون على ذلك إلى اليوم.
اعتمد عثمان ﵁ في النص الذي كتبه، على العرضة الأخيرة التي عرضها فيها النبي ﷺ القرآن على جبريل مرتين قبل موته،
1 / 19
وجعل الأصل في خطه أن يكون على لسان قريش١ عند الاختلاف، وإذا أمكن الجمع بين الأحرف في الخط كتبوه كذلك وإلا اختاروا حرف قريش في الغالب.
والقرآن: إنما يتلقى بالرواية كما سبق بيانه، وينقل عبر الدهور في الصدور، فيرويه الجمع العظيم من القراء الضابطين عن شيوخهم، ويتسلسل السند إلى النبي ﷺ ولذلك كان الشرط الأول لقبول القراءة وثبوت قرآنيتها:
تواتر السند إلى النبي ﷺ أو استفاضته على الأقل، وقد ثبت عن زيد بن ثابت قوله: القراءة سنة متبعة.
ولكي لا يقع القارئ فيما اتفق الصحابة على اطراحه وتركه من الأحرف السبعة ويخرج على إجماعهم فإنهم اشترطوا أيضًا:
موافقة القراءة لخط المصاحف العثمانية ورسمها ولو تقديرًا.
فإذا لم يحتملها الرسم اعتبرت القراءة شاذة وإن صح سندها، فلا يقرأ بها القرآن، وبعضهم يزيد شرطًا ثالثًا هو:
أن توافق القراءة وجهًا من العربية.
فإذا تأملت هذه الشروط، فاعلم أن كل قراءة تعرض عليها فإن تحققت فيها فهي قرآن ثابت عن النبي ﷺ وهي مما تضمنه مصحف عثمان وأجمع عليه الصحابة، فيقرأ بها بلا خلاف، ولا يجوز إنكارها أو ردها، ومن هذا يتبين لك أنه لا تحديد في الأصل لعدد القراءات أو
_________
١ صحيح البخاري: كتاب التفسير، باب فضائل القرآن.
1 / 20
أعيان القراء الذين يقرأ بروايتهم، ولذلك كان كثير من علماء السلف يقرأ بقراءات ثبتت عندهم من غير طريق هؤلاء السبعة المشهورين، ولم يلتزموا في عدد الرواة بسبعة ولا بسبعين.
فابن جرير الطبري ﵀ روى في كتابه واحدًا وعشرين قراءة.
وكذلك فعل أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه القراءات.
وإسماعيل بن إسحاق القاضي صاحب قالون، وغيرهم.
يقول مكي بن أبي طالب القيسي في كتابه الإبانة: وقد ذكر الناس من الأئمة في كتبهم أكثر من سبعين ممن هو أعلى رتبة وأجل قدرًا من هؤلاء السبعة.
أما القراء السبعة فكان أول من اختارهم واقتصر عليهم في كتابه أبو بكر بن مجاهد في القرن الرابع الهجري ولذلك يوصف بأنه مسبع السبعة، وتبعه في ذلك أبو عمرو الداني، والشاطبي، وغيرهما، وإنما كان اختيار ابن مجاهد وغيره لهؤلاء القراء السبعة بقصد التيسير على الأمة، فإنهم رأوا الهمم قصرت والأفهام عجزت عن استيعاب طرق القراءات كلها، فنظروا في أئمة القراءة وأكثرهم ضبطًا وإتقانًا، واختاروا منهم هؤلاء، وابن مجاهد إنما جعلهم سبعة ليوافق عدد مصاحف عثمان ﵁ والقراء السبعة هم:
١ نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، ويكنى أبا رويم مولى جعونة بن شعوب الليثي حليف حمزة بن عبد المطلب، أصله من أصبهان، أخذ القراءة عن سبعين من التابعين.
1 / 21
أشهر من روى عن نافع: قالون واسمه عيسى بن مينا، وورش واسمه عثمان بن سعيد.
توفي نافع بالمدينة سنة ١٦٩هـ.
٢ عبد الله بن كثير الداري: إمام أهل مكة في القراءة، تابعي جليل، أخذ القراءة عرضًا عن عبد الله بن السائب ﵁ وعرض أيضًا على مجاهد مولى ابن عباس ﵄ توفي سنة ١٢٠هـ أشهر الرواة لقراءته: قنبل واسمه محمد بن عبد الرحمن المكي، والبزي واسمه أحمد بن محمد بن عبد الله.
٣ أبو عمرو بن العلاء بن عمار التميمي المازني البصري، واسمه زبان كما ذكر الذهبي وغيره، وهو أحد التابعين: سمع من أنس بن مالك، وقرأ على شيوخ لا يحصون، وهو أكثر القراء السبعة شيوخًا. توفي سنة ١٥٤ هـ، وأشهر الرواة لقراءته الدوري وهو أبو عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز الأزدي، والسوسي وهو أبو شعيب صالح بن زياد.
٤ عبد الله بن عامر بن يزيد اليحصبي، إمام أهل الشام في القراءة وأحد التابعين، أخذ القراءة عرضًا عن أبي الدرداء ﵁ وعن المغيرة بن أبي شهاب صاحب عثمان بن عفان ﵁ وقيل: إنه سمع بعض القرآن من عثمان وأنه قرأ على فضالة بن عبيد.
1 / 22
توفي بدمشق سنة ١١٨هـ، وأشهر الرواة لقراءته هشام بن عمار الدمشقي وابن ذكوان واسمه عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان القرشي.
٥ عاصم بن أبي النجود تأتي ترجمته مستقلة.
٦ حمزة بن حبيب الزيات أبو عمارة الكوفي التيمي مولاهم، أخذ القراءة عن الأعمش، وكان الأعمش يجود قراءة ابن مسعود، وقرأ على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وكان يجود قراءة علي، وقرأ على أبي إسحاق السبيبعي وكان يأخذ من قراءة ابن مسعود وقراءة علي، وقرأ على حمران بن أعين وكان حمران يأخذ بقراءة ابن مسعود ولا يخرج عن موافقة مصحف عثمان وهذا كان اختيار حمزة.
قال العجلي: قال أبو حنيفة لحمزة: شيئان غلبتنا عليهما لسنا ننازعك فيهما القرآن والفرائض. وكان شيخه الأعمش إذا رآه أقبل يقول: هذا حبر القرآن.
توفي حمزة سنة ١٥٦هـ، وأشهر الرواة لقراءته خلف وهو ابن هشام البزار وخلاد بن خالد الصيرفي الكوفي.
٧ الكسائي هو علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز الأسدي مولاهم، أصله من أولاد الفرس، وهو الكسائي الكبير إمام النحو والقراءة، وإليه انتهت رئاسة الإقراء بالكوفة بعد شيخه حمزة.
توفي سنة ١٨٩هـ، وأشهر من روى عنه أبو الحرث الليث بن خالد البغدادي والدوري حفص بن عمر.
1 / 23
فهؤلاء هم القراء السبعة الذين تلقت الأمة قراءتهم بالقبول وثبت تواترها إلى النبي ﷺ بالإجماع.
وزاد ابن الجزري في نشره ودرته ثلاثة قراء، هم:
١ أبو جعفر يزيد بن القعقاع المخزومي المدني، شيخ نافع وأحد التابعين المشهورين، أخذ القراءة عرضًا عن مولاه عبد الله بن عياش ﵁ وعن أبي هريرة، وعبد الله بن عباس، رضوان الله عليهم أجمعين.
توفي أبو جعفر بالمدينة سنة ١٣٠هـ.
وقد روى ابن الجزري قراءته من روايتي عيسى بن وردان وسليمان بن جماز.
٢ يعقوب بن إسحاق بن زيد الحضرمي مولاهم البصري، إمام أهل البصرة ومقرئها، أخذ القراءة عن سلام الطويل، وشهاب بن شرنفة. قال يعقوب: قرأت على سلام في سنة ونصف، وقرأت على شهاب بن شرنفة المجاشعي في خمسة أيام، وقرأ شهاب على مسلمة بن محارب في تسعة أيام، وقرأ مسلمة على الأسود الدؤلي على علي بن أبي طالب ﵁.
قال ابن الجزري في الطبقات: وقراءته على أبي الأشهب عن أبي رجاء عن أبي موسى في غاية العلو.
روى ابن الجزري قراءته من روايتي رويس وروح.
1 / 24
٣ خلف بن هشام البزار الأسدي، أحد رواة قراءة حمزة، أخذ القراءة عن عبد الرحمن بن حماد عن حمزة، وعن سليم عن حمزة، وعن يعقوب بن خليفة الأعشى، وأبي زيد سعيد بن أوس عن المفضل الضبي، وروى الحروف عن إسحاق المسيبي، وإسماعيل بن جعفر، وعبد الوهاب بن عطاء، وسمع من الكسائي.
روى ابن الجزري قراءته من روايتي إسحاق الوراق وإدريس الحداد.
1 / 25
ترجمة عاصم:
إسناده وشيوخه: هو عاصم بن أبي النجود -ويقال ابن بهدلة- الأسدي مولاهم شيخ الإقراء بالكوفة، وأحد التابعين، قال ابن الجزري: روى عن أبي رمثة رفاعة بن يثربي التميمي، والحارث بن حسان البكري وكانت لهما صحبة، أما حديثه عن أبي رمثة فرويناه في مسند أحمد بن حنبل، وأما حديثه عن الحارث فرويناه في كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام.
وإسناد عاصم في القراءة ينتهي إلى عبد بن مسعود وعلي بن أبي طالب ﵄ ويأتي إسناده في العلو بعد ابن كثير وابن عامر، فبين عاصم وبين النبي ﷺ رجلان، وليس بين ابن كثير وابن عامر وبين النبي ﷺ إلا الصحابي، وقد قرأ عاصم القرآن على أبي عبد الرحمن السلمي عن علي ﵁ وقرأ على زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود، ﵁.
وكان يتردد عليهما فيأخذ من هذا قراءة ابن مسعود ومن ذاك قراءة علي وهكذا استوثق في القراءة وجمع فيها بين أقوى المصادر، فأبو عبد الرحمن السلمي تابعي مشهور روى عنه الأئمة الحديث كما رووا القراءة، وأخرج له البخاري ومسلم وغيرهما، وزر بن حبيش أيضًا أحد الأعلام وقد عرض القرآن على عبد الله، وعلي رضوان الله عليهم أجمعين.
وكان عاصم يقرئ حفصًا بقراءة علي بن أبي طالب التي يرويها
1 / 26
من طريق أبي عبد الرحمن، ويقرئ أبا بكر بن عياش بقراءة ابن مسعود التي يرويها من طريق زر بن حبيش، وقرأ عاصم أيضًا على أبي عمرو سعد بن إياس الشيباني الكوفي، وأبو عمرو هذا أدرك النبي ﷺ ولم يره، وقد أخذ القراءة عن عبد الله بن مسعود.
تلاميذه: أما تلاميذ عاصم الذين رووا عنه فكثيرون، عد منهم الذهبي:
الأعمش، والمفضل بن محمد الضبي، وحماد بن شعيب، وأبا بكر بن عياش، وحفص بن سليمان، ونعيم بن ميسرة. وهؤلاء قرءوا عليه القرآن.
وممن روى عنه: عطاء بن أبي رباح، وأبو صالح السمان، وهما من شيوخه، وأبو عمرو بن العلاء، وحمزة بن حبيب الزيات، والحمادان، والسفيانان، وشعبة، وأبان، وشيبان، وأبو عوانة، وزاد ابن الجزري: إسماعيل بن مجالد، وسلامة بن سليمان أبا المنذر، وسهل بن شعيب، والضحاك بن ميمون، وعصمة بن عروة، وعمرو بن خالد، والمفضل بن صدقة، ومحمد بن زريق، ونعيم بن يحيى، والحسن بن صالح، والحكم بن ظهير، والحارث بن نبهان، والمغيرة الضبي، ومحمد بن عبد الله العزرمي. وغيرهم.
مكانته وثناء الأئمة عليه: سبق أن بينا إسناد قراءته وعلوها وأنه استوثق في الرواية ولم يكتف بطريق واحدة، ولذا فقد أثنى عليه الأئمة وقدموه في القراءة، وتلقوا روايته بالقبول، واعتبروا قراءته في مقدمة القراءات المتواترة التي أجمع الناس على أنه يقرأ بها القرآن.
1 / 27