فأخذ ألبير الساعة ونظر إليها وقال: الوقت منتصف الساعة السابعة. - فيجب علي الانصراف إذا؛ فإن ابني الصغير ... - أنا عارف بوجود ولد لك، وأنا أحبه من كل قلبي، كيف لا وهو أخو إيڤون. إني أستودعك الله الآن، فاذهبي يا مرغريت بحراسته تعالى، ولكن أستحلفك بأن تعودي إلي في الغد. - أعدك بأني أعود. - من كان يحبك منذ عشرة سنوات ويبذل النفس والنفيس في سبيل رضاك، ألست أنا؟ - نعم أنت. - ألم تكوني زوجتي التي أحببتها قبل أن تعرفي رجلا آخر. - نعم. - فلنعد إذا يا عزيزتي إلى ما كنا عليه قبلا من حسن الاتحاد والوئام؛ لنقضي باقي العمر معا في معترك هذه الحياة وانسي الماضي. ومن ذا الذي ما ساء قط! أما أنا فإني أعتبرك قرينتي كالسابق، ولا أريد أن أنفصل عنك ولا أن أعيش بدونك. فأناشدك الله أن تعودي إلي؛ فإن العود أحمد، أقسمي لي إذا بحبك لإيڤون بأن ترجعي بدون إبطاء.
أإلى هذا الحد تصل بإلحاحك؟ - نعم؛ إذ لم يبق لي من طاقة على الاصطبار، ولا أقدر على احتمال بعادك عني إلى أكثر من غد. نعم يا مرغريت، وحقك إني أذوب ضجرا في وحدتي، وقد سئمت نفسي العيشة في هذه الحياة الدنيا. عودي إلي ولا تخافي على ولدك؛ فإن والده يعتني به، وأمك تعوله فلا بأس عليه، أما أنا فإني أراني وحيدا في تعاستي في هذه الدنيا؛ إذ لا معين لي ولا أنيس يسليني في وحدتي، فأسرعي بالرجوع إن كنت تحبين إيڤون وتعزيني (ثم حاول أن يأخذها بين ذراعيه). - ثق بكلامي وتيقن أني أرجع على شرط أن لا تتلفظ بشيء مما ذكرته الآن. - سأطيعك بلا سؤال. - وأنا سأرجع بدون ريب، وأما الآن فلا بد من ذهابي على جناح السرعة لمشاهدة ابني الذي قد مل من الانتظار. - اذهبي الآن بحراسة الله، وغدا ترينني أنتظرك، وبعد غد، وكل وقت في هذا المكان؛ فإني لا أتعداه.
فتركته مرغريت وسارت في سبيلها وكل جوارحه أنظار تشيعها. أما هي فبعد أن ابتعدت عنه قليلا التفتت، فرأته لم يبرح مكانه وقد رفع يده مسلما، ثم ركبت أول عربة وجدتها وذهبت تنهب الأرض حتى توارت عن النظر.
الفصل الثاني
انتهت مرغريت إلى البيت وقرعت الجرس ففتح، ورأت زوجها أمامها وهو طلق المحيا، باسم الشفتين، ولما رآها أسرع إليها وصافحها وأمارات الحب ظاهرة على وجهه، ثم خاطبها بحنو قائلا: لقد تأخرت يا عزيزتي، فماذا جرى لك اليوم؟
فأجابته غير مكترثة به: لم يجر لي من شيء. قالت هذا وإذا بصوت أمها يناديها: أسرعي يا ابنتي أسرعي ؛ فإن صغيرك يبكي ولا يريد أن ينام بدونك. فقالت : هأنذا آتية. ثم هرولت إلى حجرتها وأشعلت فيها المصباح، ثم وقفت جامدة حائرة في وسط الحجرة لا تعي على شيء، مرتبطة اليدين، حزينة النفس، وكأني بها ترى ذاتها أنها غريبة في هذا البيت. وكان زوجها قد تبعها، فلما رآها على هذه الحال دنا منها ومد يده إلى رأسها نازعا الدبابيس من شعرها، ثم رفع القبعة عنه وقال: أسرعي إلى الصغير يا حبيبتي؛ فإنه يبكي منذ وقت غير وجيز. - ويلاه! هل هو مريض؟ - لا، بل هو في غاية الصحة، لكنه قد اعتاد أن يرى أمه كل يوم قبل هذا الوقت؛ فخفي إليه، وبعد أن تناغيه قليلا ينام لا محالة. فأسرعت مرغريت إلى حجرة ابنها، وأطفأ زوجها المصباح، ثم دخل مكتبه، وجعل يقرأ في كتاب كان قد طواه عند دخول مرغريت، وبعد مضي نصف ساعة خرجت تتبعها أمها على الأثر، فسألها زوجها: هل نام الصغير؟
فقالت والدتها: نعم نام. - فإذا يلزم أن نتناول طعام العشاء.
وإذ جلس الثلاثة على المائدة شعرت مرغريت ببعض التعزية عندما رأت زوجها الحقيقي تلقاءها، وتذكرت ألبير ذلك الخداع الذي عذبها ونغص عيشها، فقابلت بين الأول والثاني، فرأت فرقا عظيما بين معاملة هذا وذاك؛ فإن زوجها الثاني كثيرا ما أحبها في كل مرحلة من مراحل هذه الحياة، وخصوصا عندما كان يراها محتاجة، فإنه مد لها يد المساعدة، واتخذها تحت ظل حمايته لكي ينسيها آلامها السالفة، ويبدل غمومها وهمومها بالأفراح؛ ولذلك شعرت بميل إليه فائق العادة، ورأت أنها محتاجة إلى أن تخبره بواقعة الحال، أي بما جرى لها في يومها، غير أن وجود والدتها مدام موستل منعها عن الكلام؛ فأبقت ذلك إلى أول فرصة تسنح لها، إلا أنها لم تستطع كتمان عواطفها وإخفاء إحساساتها، ولم تمض سوى هنيهة حتى تفجرت ينابيع دموعها، وسالت أنهار دموعها على خديها، وشعرت بضيق صدر ضاغط على مجرى النفس كاد يخنقها، وأخذت تئن أنين البائس الحزين. فحينئذ نهض روجر عن كرسيه مرتعبا مضطربا، وأوقفها في مكانها وأسندها على ذراعه، ثم ذهب بها إلى حجرته حيث أجلسها على مقعد هناك، وفي غضون ذلك هرولت مدام موستل والطعام في فيها وقالت: ما الخبر؟ وأي خطب جرى؟ - لا تخافي يا حماتي، دعيني أعالجها وحدي، أما أنت فاذهبي إلى مزاولة شئونك. - نعم، في مثل هذا اليوم ولدت ابنتها إيڤون، فيظهر أنها تذكرت ذلك فما قدرت - والحالة هذه - على امتلاك عواطفها. - لم يغرب عني ذلك، وقد أدركت كل هذا من ملامح وجهها، وظهر لي جليا أنها تفتكر بابنتها إيڤون. قال هذا وشرع يداوي امرأته هذه بعناية كلية واعتناء لا زيادة بعده لمستزيد، وهو ينشقها المنعشات على اختلاف أنواعها وضروبها، وكان طبيبا ماهرا في صناعة الطب، ولم يكن إلا بضع دقائق حتى عادت إليها قواها وفتحت عينيها كأنها قد انتبهت من سبات عميق، وقالت: يا روجر، اذهب وأتم طعامك، وأنت يا والدتي اصحبيه إلى المائدة واستكملي غداءك، فما من حاجة لي بكما بعد.
فأجابت والدتها: لا أستطيع أن آكل لقمة واحدة؛ لأن معدتي في اضطراب شديد! - تعالي يا حماتي معي إلى المائدة، وأنت يا عزيزتي مرغريت إذا شعرت بتعب جديد فما عليك إلا أن تقرعي جرس الاستدعاء لأحضر بسرعة. - لا شك في ذلك.
فهدأ روع مرغريت وجمعت قواها لأن المكان خلا لها، ثم بدأت ثانية تعيد في فكرها ذكر ماضيها وما حدث لها في أدوار حياتها، وما هي إلا لحظة حتى أغمضت جفنيها، فتمثل حينئذ شخص ألبير الحلو أمام ناظريها، فأمعنت النظر طويلا في صباحة ذلك الوجه المنير، والجبهة العالية البيضاء، كما أنها تأملت في ذلك القوام المعتدل الذي لا يضاهيه قوام، فضلا عن رنات صوته اللذيذة، إلى غير ذلك من الصفات التي كانت تأخذ بمجامع القلوب. فعند ذلك، عضت على أناملها ندما وكادت تغيب عن الرشد، ثم عادت إلى واجباتها وفكرت في شخص الدكتور روجر الذي كان قوي البنية، عريض المنكبين، أسمر اللون، ذا لحية سوداء طويلة، وعينين براقتين، تلوح على محياه طهارة القلب وسلامة النية وحرية الضمير.
Bog aan la aqoon