لما كان الاعتدال من نتائج العقول الحكيمة كان للتربية تأثير فعلي فيها ونفوذ لا ينكر. والمشاهد الآن أن الناس تعنى بالتربية على وجهين؛ الأول: تربية الأطفال على مقتضى رغبات الآباء، والثاني: تربيتهم على مقتضى أهوائهم الذاتية.
وفي الحالة الأولى يكون الطفل في اعتبار الملاذ الكمالية للوالدين، وينزل منزلة ما يملكون من المتاع والماديات، وقد تقل درجة اعتباره لديهم على قلة وكثرة عواطفهم. ومن المحقق أنه كلما زاد ولعهم بالمنافع المادية كلما قلت قيمة الأطفال في أنظارهم، وجفت ينابيع المحبة والحنو في قلوبهم. فإن شب عاش تحت قدمي والديه خاضعا لإرادتهم، لا لمجرد واجبات البنوة، بل لتجرده من كل إرادة. والفكر ينقاد مع الاعتياد إلى الاستسلام والإرادة النفسية إلى الضعف فالزوال، والقلب إلى الجمود، ثم يموت فيه الشعور وكل العواطف. ويصير الشاب عبدا مسلوبا كل مزايا الإنسان العاقل الحر، فلا ينشأ إلا على ما شاء والده واقتضته مصالحه الشخصية، ومعتقده الديني، ومبدؤه السياسي، وذوقه الخصيص به، ولا يفكر ولا يتكلم ولا يعمل ولا يتزوج إلا بإرادة ولي أمره. وربما كانت هذه السلطة المطلقة في يد من لا مبدأ لهم ولا إرادة، فيكونون سببا في إفساد تربية الابن وفي نشأته على غير صالح الهيئة الاجتماعية. وكثيرا ما يتفق أن يكون للطفل إرادة قوية ونزوع إلى الاستقلال، فيبذل ذووه غاية جهدهم في تذليله بالقوة والاعتساف، فإن تعذر عليهم ذلك فباللطف والتدليل حتى تستأنس نفسه وينطبع على ما شاءوا فيعيش بينهم وبهم ولهم.
وليس هذا النوع من التربية محصورا في بعض العائلات، بل منتشرا بين كثير من معاهد التربية، حيث تكون الخطة الموضوعة للسير عليها قاصرة على إخضاع كل الملتجئين إليها، وقهرهم على التكون على الصورة التي يريدونها. وهذا هو الاعتساف بكل معانيه، والتحكم في غير وجه الصواب والحق، والتسلط الغير الشرعي، وتغلب القوة على الضعف بغير مسوغ لاجتذاب الأفراد إلى غاية موضوعة.
وكثيرا ما يقتنع الإنسان بأن التربية على هذا الشكل هي التربية الصحيحة المفيدة للنوع الإنساني، وللاجتماع على الإجمال؛ لأنه يسهل على المربي القيام بمثل هذا النوع من التربية أو الاستعباد، ويسهل تضليل الناس وتفهيمهم أن هذا الأسلوب هو الوسيلة الوحيدة لتوحيد المبادئ والمعتقدات واللغات والمشارب والأذواق. والحقيقة أنه واسطة لتجريد الخلائق من كل إرادة ونزوع إلا ما يسمح به الأوصياء والمدبرون.
إنهم يريدون أن يكون الناس من نوع واحد وفصيلة واحدة، كسائر النباتات والحيوانات التي تعيش في مكان واحد، أو في أماكن متشابهة بطبيعة الأرض والطقوس. ولكن الإنسان غير النبات والحيوان، وهذا التقييد مضر به حابس حريته مؤخر رقيه. وإن الناس ليختلفون في الطبائع والميول والرغبات والقوى، حتى ليعوزهم كثير من وسائل التربية ليكون لكل فريق ما يوافق طبيعته واستعداده. والنقص والتقصير في استكمال هذه الوسائل هما سبب الفساد الذي يعتور التربية فلا تؤدي إلى الغرض المقصود منها.
والتربية التي يكون أساسها الضغط وتقييد الحرية كثيرا ما تسبب ثورة النفوس، وانفجار براكين الحقد والكراهية، واندلاع لهيب الانتقام؛ فتكون سببا للفساد والمشاكل بدلا من الخضوع والاستسلام. وإذا حسنت الظواهر ولم يحدث حادث ما لتغلب القوة على الضعف يبقى الداء كمينا والنار دفينة؛ الأول على خطر حالاته، والثانية على أشد ما تكون من التسعر، لا يخفيهما عن الظهور غير حجاب كاذب وستر لا يدوم طويلا، ولا يكون وراء السكون الظاهر غير التذمر والحقد الأبكم والثورة المتحفزة للوثوب، وسحق كل ثقل ضاغط.
والتحكم اعتسافا وقوة يحتم الطاعة، فتبدو مظاهرها فقط، ويخلق الرياء في البيئة المغلوبة على أمرها، ويكون واسطة لوجود النفاق والمخاتلة واللؤم، بعد أن يغرس في القلوب الخبث والشر والكيد وحب الانتقام، فإذا كانت هذه هي ثمار هذا النوع من التربية، فهو ضار وخطره أشد من الخطر الذي ينشأ من الإهمال أو من ترك الناس همجا بلا أخلاق ولا نظام. •••
أما النوع الثاني فهو على عكس الأول في العناية، وينحصر في ترك الطفل على هوى النفس، فلا يلبث بعد وضعه أن يكون له المقام الأول، وإليه تتجه عناية كل فرد من أفراد العائلة، يزعجهم صراخه وتحركهم جميعا لفتة منه أو إشارة بيده، وإذا ما بكى ليلا هب الراقد واستيقظ النائم، فإذا درج كان سرور أهله وأسعدهم حظا من نال حظوة في عينيه وابتسامة من ثغره، وإذا ما اشتد وترعرع كان موضوع اهتمام الجد والوالد والخادم والمعلم والوالدة والأخوة والأخوات وكل أفراد البيت. ولا يلاحظ أحد ما ينتج من ذلك من التدلل، وصلابة الرأي، والعناد، والأنانية، وعدم الاحترام والقسوة إلا بعد فوات الوقت، وضياع فرصة الإصلاح والتقويم؛ فيكون هذا مدعاة لفساد خلق الصبي، وعدم مبالاته بالذين كانوا سبب حياته وينبوع سعادته وهنائه.
وهذه التربية واضح عيبها جلي قبحها سيئة نتيجتها عقيمة إلا في الإفساد، وهي عامة عند كل من لم يعن بالماضي ويستطلع أمر المستقبل من عبر الأيام وحوادثها، وعند من لم يقف على شيء من النظام والتقاليد والآداب القومية والأخلاق الفاضلة، وعند كل من يكتفي بالظواهر عن الحقائق وبالقشور عن اللباب، وعند الذين يظنون الحياة في الزهو والخيلاء وإنكار حقوق الغير وهضمها، والميل إلى جانب القوة.
إن هذه التربية لتقوي في النفس الميول الشهوانية وحب الاستبداد والظلم، وهي سيئة العاقبة شديدة الضر كالنوع السابق. والأكثر ضررا وشؤما على الهيئة الاجتماعية اجتماع النوعين، وتوفر الرذيلتين في الفرد الواحد؛ فإن ذلك يولد التقلب في المبادئ، والتنوع في المظالم، والتراوح بين البهيمية والوحشية، وحب الاستسلام والصغار، والنزوع إلى الثورة والتمرد.
Bog aan la aqoon