Rousseau: Hordhac Kooban
روسو: مقدمة قصيرة جدا
Noocyada
بما أن عدد الأصوات كان ضروريا لإثبات الإرادة العامة وكذلك إرادة الجميع (العقد الاجتماعي، الكتاب الرابع، الفصل الثاني)، فمن غير الواضح كيف تخيل روسو أن المواطنين سيستطيعون التمييز بين الإرادتين، ولا سيما في ضوء زعمه بأن الإرادة العامة يمكن حسابها باعتبارها مجموع فوارق ما هو موجب وما هو سالب لإرادة الجميع. لكن الصدام بين الإرادة العامة والخاصة أمسى بعد ذلك محوريا لمحاجته، وتجلى أيما تجل في روايته للتوتر الذي يحدثه في عقل كل مواطن، والذي يجعله يفرق بين ما هو مفيد له وما هو مفيد للمجتمع (العقد الاجتماعي، الكتاب الأول، الفصل السابع). كثيرا ما شجب نقاد روسو الليبراليون فكرته عن الإرادة العامة نظرا لنظرتها الجماعية الواضحة، ولكن في «العقد الاجتماعي»، من الواضح أن هذه الفكرة كانت مصممة لتفادي الترسيخ الاجتماعي للأفراد، لا لتحقيقه. ولأننا فقدنا الكثير من روحنا العامة، كانت الإرادة العامة لكل شخص في العالم المعاصر أضعف بكثير من إرادته الخاصة، بحسب اعتقاد روسو، الذي أشار إلى أنه يمكن تقوية تلك الإرادة أو إحياؤها لا بالترديد غير المتروي لكل مواطن لما يقوله جيرانه في أي تجمع عام، بل بالعكس تماما؛ أي بتعبير جميع الناس عن آرائهم كل على حدة، دون أي تواصل فيما بينهم من شأنه جعل أحكامهم المنفصلة متحيزة لمصلحة المجموعة هذه أو تلك. وقد اعترض جون ستيوارت ميل لاحقا على الاقتراع السري هذا، ولربما وافق روسو أيضا على أن نواب الشعب، حيثما تقتضي الضرورة، ينبغي أن يكونوا مسئولين دوما أمام ناخبيهم. ولكن، في الاستفتاء الشعبي أو الاستفتاء العام أو التجمع العام لجميع المواطنين، ولضمان أن عدد الأصوات يضارع عدد الأفراد، يجب أن يتصرف كل مواطن دون اعتبار للآخرين، بحسب اعتقاد روسو، بحيث يسترشد بإرادته العامة كعامل مستقل؛ وبذلك ينزل على رغبة نفسه دون سواها. إن تمييز روسو، فيما يختص بالسياسة الدولية، بين «المصلحة الحقيقية» المتصورة بشكل غير واضح للدولة في إرساء سلام اتحادي تحت لواء القانون الدولي من ناحية و«المصلحة الظاهرة» المستمسك بها بإصرار في الحفاظ على استقلالها المطلق من ناحية أخرى، صيغ في السابق بألفاظ شبيهة في عمله «الحكم على مشروع السلام للأب دي سان-بيير» الذي خط حوالي عام 1756 (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ روسو عن العلاقات الدولية).
بعد أن فصل روسو «مبادئ الحق السياسي» (وهو العنوان الفرعي ل «العقد الاجتماعي») في الكتابين الأول والثاني، انتقل بعد ذلك إلى تطبيق تلك المبادئ، عاكسا أولوياته بين الجانبين الفعلي والأخلاقي للدولة، لكي يتعاطى مع سلطتها التنفيذية بدلا من سلطتها التشريعية، مع الحكومة بدلا من السيادة الشعبية، ومع القوة بدلا من الحق، كما أوضح في الفصل الأول من الكتاب الثالث. فعلى العكس من السيادة التي لا يمكن تمثيلها مطلقا، تتشكل الحكومة - التي وصفها روسو باعتبارها «كيانا وسيطا» بين المواطنين بصفتهم السيادية وكرعايا يحكمهم القانون - دوما من ممثلين للشعب. وبينما تكون السيادة عامة دوما في تشريعاتها، فإن القوة التنفيذية للحكومة تمارس فقط فيما يخص حالات بعينها (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الأول). وبينما تتخذ السيادة شكلا واحدا وحسب، تعتمد الحكومة على الظروف؛ ومن ثم فهي تتخذ عدة أشكال مختلفة مناسبة لسد احتياجات خاصة. ومؤسساتها محلية ومشروطة ومحددة.
إن العامل الأكثر محورية الذي يحدد طبيعة الحكومات التي يتعين أن تؤسسها الدول هو سكانها، حيث تتطلب الدول ذات الكثافة السكانية العالية الحكومات الأكثر تركيزا، بينما تتطلب الدول ذات الكثافات السكانية الأقل الحكومات الأكثر انتشارا، تبعا للتناسب العكسي بين السلطات الحكومية، من ناحية، ونصيب كل مواطن من السيادة من ناحية أخرى، بحسب زعم روسو في الفصلين الأول والثاني من الكتاب الثالث من «العقد الاجتماعي». وتوجهه هذه القاعدة نحو إيراد التصنيف القديم للحكومات من حيث عدد القائمين عليها أو مسئوليها - أي من حيث كونها تتمثل في شخص واحد أو عدد قليل من الأشخاص أو عدد كبير من الأشخاص، أو الملكية والأرستقراطية والديمقراطية (أو نظام الحكم) على التوالي - الذي اشتهر بوصفه أرسطو، وذلك في الكتاب الثالث من كتابه «السياسة». وبالمثل على نفس خطا أرسطو، وجه روسو اهتمامه للبناء الطبقي للدول، وتوزيع الثروات الأنسب لكل شكل من أشكال الحكومات، مشيرا تحديدا إلى المساواة في المكانة والثروة الأنسب للديمقراطية (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الرابع) وللنبلاء والطبقات الوسيطة ما بين الأمير والرعايا في الحكومة الملكية. أشار روسو إلى أنه في دولة كبيرة، ساعدت القوى المتضادة هذه على تقويض السلطة الملكية التي قد يبدو تركزها في يد شخص واحد كميزتها الرئيسية فقط عندما تمارس بما يخدم الصالح العام، وهو الوضع الذي ظنه روسو نادرا.
زعم بودين وبوسويه وغيرهما من فلاسفة الحكم الملكي المطلق أن تجانس الدولة يمكن الحفاظ عليه بأفضل ما يكون تحت سلطة القوة المتفوقة بشكل متفرد لشخص واحد، لكن روسو لم يكن مقتنعا بمثل هذه المزاعم، حيث حاج، بالمقابلة بفكرته عن السيادة، أنه من الخطأ افتراض أن «الأمير هو كل ما ينبغي أن يكونه» (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل السادس). فالحكم الملكي في شكليه الانتخابي والوراثي ليس عرضة بشكل خاص وحسب إلى أزمات التعاقب على الحكم، لكنه أيضا عرضة لدسائس المرتشين وانعدام الكفاءة، بحسب زعم روسو، في ظل مكائد ضعاف المواهب أصحاب الطموحات العريضة. في «الحكم على مشروع السلام للأب دي سان-بيير»، صب روسو احتقاره أيضا على الخطط الأميرية للتوسع الإقليمي سعيا لإقامة إمبراطورية وحيازة المال، مثنيا على حكمة هنري الرابع ملك فرنسا الذي كان بروتستانتيا في فترة من الفترات، على سبيل المقابلة، وجهوده الدءوبة من أجل إنشاء كومنولث مسيحي دولي قرب نهاية القرن السادس عشر. لكنه أشار إلى أن سان-بيير من المستبعد أن يستطيع النجاح في تكرار هذه الجهود بعدها بمائتي عام، ويرجع ذلك جزئيا إلى قدراته الأقل بكثير، وبشكل أساسي للتغير المهول الذي طرأ على المؤسسات الدبلوماسية والعسكرية لدرجة أنه ما من اتحاد كونفدرالي للدول الأوروبية كان يمكن تأسيسه إلا عن طريق الثورات (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ روسو عن العلاقات الدولية). وافترض هوبز أن الحكومة الملكية أفضل عموما من غيرها من أشكال الحكومات نظرا للتماهي بين الصالح العام والخاص الذي تضمنه. ورغم ذلك، كان روسو مقتنعا بقدر أكبر بكثير بتقييم مكيافيللي أن «الشعب أكثر تعقلا واتزانا، ويتمتع بحكم أفضل وأكثر حكمة من الأمير» (نقاشات، الباب الأول). وشأنه شأن مكيافيللي، آمن روسو بأن الحكومة الجمهورية أفضل من الملكية، وحتى في «العقد الاجتماعي» زعم روسو أن كتاب «الأمير» لمكيافيللي، في تصويره للحكم البغيض حقا، كان يراد أن يكون «دليلا للجمهوريين» (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل السادس)، مخفيا عشق مؤلفه العميق للحرية الذي كان يشاركه روسو إياه.
في ضوء تلك الانتقادات الحادة، قد يبدو روسو وكأنه كان يرى أن الديمقراطية الشكل الأفضل للحكم، لكنه كان في واقع الأمر مصرا على أن الديمقراطية بالقدر نفسه خطرة؛ وذلك غالبا لأنها بطبيعتها تؤدي إلى الخلط ما بين صاحب السيادة الذي هو الشعب والحكومة في الدولة. ويجب ألا يقوم واضعو القوانين أنفسهم بتنفيذها، بحسب زعم روسو (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الرابع)؛ لأن ذلك من شأنه أن يجعل صاحب السيادة يلهيه تنفيذ الجزئيات عن المقاصد العامة، ويخلط ما بين الصالح الخاص والعام بقدر أكثر خبثا مما يحدث تحت الحكم الملكي. وزعم روسو أنه «عندما يحدث ذلك، تفسد الدولة من الداخل، ويستحيل إصلاحها.» ونظرا «لفضيلة التمييز بين صاحب السيادة والحكومة» التي تتمتع بها الأرستقراطية (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الخامس)، بدا أن روسو ميال أكثر إليها، أو بالأحرى الأرستقراطية الانتخابية، بما أنه كان يعتبر الأرستقراطية الطبيعية لا تناسب سوى الشعوب البدائية، وكان يرى أن الأرستقراطية الوراثية «أسوأ أنواع الحكومات على الإطلاق». ذهب روسو إلى أن الأرستقراطية الانتخابية لا تعتمد على أمانة كل مواطن وحكمته؛ ولذلك فهي بحاجة إلى فضائل أقل من الحكومة الديمقراطية. ورغم أنها يمكن أن تنجح فقط إذا وزعت الثروات بشيء من المساواة والاعتدال، فإن حقيقة أن المساواة الصارمة لا يمكن تحقيقها عموما يناسب هذا النوع من الحكم، حيث يتيح تكليف الإدارة اليومية للشئون العامة لأشخاص ذوي مواهب مناسبة تسمح لهم مواردهم المستقلة بتكريس كل وقتهم للدولة باتزان مالي. افترض روسو أنه تحت مظلة الأرستقراطية الانتخابية يستطيع أكثر المواطنين استقامة وذكاء وخبرة على الصعيد السياسي أن يضمنوا استقرار الدولة عندما يكونون أعلى مسئوليها وموظفيها الحكوميين.
اعتقد روسو هنا أن أهم حقيقية تتعلق بكل أشكال الحكومات المتنوعة تتمثل في اختلافها الجوهري عن صاحب السيادة في كل أمة. فإذا عجز الناس عن وضع وتنفيذ قوانينهم بشكل ملائم في الديمقراطية، فلن يستطيع حكامهم، في ظل الملكية أو الأرستقراطية على حد سواء، أن يحكموا بالنيابة عنهم. لقد استشعر روسو خطر إساءة استغلال السلطات التي تنتمي للشعب وحسب من قبل الحكومة بالقوة نفسها التي استشعرها لوك من قبله، ومن السائد جدا أن تميل الحكومات في الأعم الأغلب لإحلال إرادتها الخاصة محل الإرادة العامة لصاحب السيادة، الأمر الذي عده روسو ضربا من الاستبداد. فالشعب الإنجليزي لا يمارس الحرية إلا أثناء انتخابه لأعضاء البرلمان، بحسب ملاحظة روسو في الفصل الخامس عشر، بالكتاب الثالث من «العقد الاجتماعي»، وفي الفصل السابع من مقالته «حكومة بولندا». ففي تفويضهم الخاطئ لسلطتهم التشريعية كصاحب سيادة لهيئة عامة كان ينبغي أن تقوم على خدمتهم وحسب باعتبارها سلطة تنفيذية، أثبتوا أنهم غير مؤهلين للحرية التي كان حريا بهم ممارستها بأنفسهم مباشرة.
وأيضا، في جنيف، أمست السلطة التنفيذية (الممثلة في المجلس الصغير) تدريجيا أكثر هيمنة؛ إذ انتزعت سلطات كان من المفترض أنها تنتمي للمجلس العام للمواطنين (الممثل في المجلس العام)، لدرجة أنها منعت حتى اجتماع هذا المجلس صاحب السيادة. وفي ظل إقصاء القوة التنفيذية لبلده الأم للإرادة الشعبية، فسد الحق المطلق وتحول إلى قوة مطلقة. قال روسو تعليقا على هذه التطورات في «رسائل من الجبل»، مستعينا هنا بلفظ «الديمقراطية» إشارة إلى صاحب السيادة إنه «حيثما تسود القوة وحدها، تتفكك الدولة. وهكذا ... تنهار الدول الديمقراطية كلها في نهاية المطاف» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث). وإذ خصص روسو «خطاب عن اللامساواة» لجمهورية جنيف التي طبقت مثلا للسيادة الشعبية أكثر عداء للحكومة الاستبدادية من أي دستور آخر لدولة حديثة، شهد روسو في حياته فساد المبادئ التي ربط بها هويته الشخصية. ولقد حولت فكرة التجارة المسالمة التي روج لها دعاة التنوير في جنيف نظاما ديمقراطيا عادلا إلى حكم أقلية حرم أبناء بلده من حقوقهم المدنية؛ ولم تكن التحولات الطارئة على الطبيعة البشرية كتلك التي وصفها روسو من قبل في تاريخه التخميني للبشرية في أي مكان آخر قطنه في العالم أكثر تجليا بشكل واضح في السياق السياسي كما تجلت في بلده.
ولقد سعى المعلقون الأوائل مرارا وتكرارا لتقديم ضمانات ضد تهديدات الاستبداد باستدعاء مبادئ خاصة بالقانون الطبيعي يمكن أن يخالفها الحكام فقط على حساب أرواحهم أو حتى حياتهم، مخاطرين بتعرضهم للقتل أو اندلاع ثورات ضدهم. ومن بين معاصري روسو، فصل مونتسكيو مذهبا لحكم القانون، الذي ظهر أنه كان له تأثير عميق في الفكر الليبرالي الغربي، والذي ميز بين سلطة الملوك ورغبات المستبدين في سياقه، وعزز أيضا فكرته، فيما يتعلق بإنجلترا، عن النظام القضائي المستقل. لكن روسو، الذي اتضح أن إقامته القصيرة في إنجلترا بعد صدور «العقد الاجتماعي» بسنوات قلائل مرهقة لاستقلاله الشخصي إرهاق البرلمان للإنجليز بحسب رأيه، وجد مفهوم مونتسكيو للقانون غير مقنع أيضا. وعلى العكس من النقاد الذين سيخشون لاحقا سوء استغلال سلطات السيادة التي رسمها روسو، فقد آمن بأن الممارسة الحذرة لهذه السلطات من قبل الناس أنفسهم هي الضمانة الوحيدة ضد الاستبداد. وبموجب مبادئ فلسفته السياسية، ما من قوة يمكن ممارستها ضد أشخاص بعينهم في أي دولة من قبل صاحب السيادة نفسه المقيد بطبيعته بحيث لا يقدر على تنفيذ إرادته الخاصة. فهذه المسئولية كانت منوطة بالحكومة وحدها. ولذا فإن الحرية لا يحميها وجود قانون طبيعي شامل أو كيان قضائي مستقل داخل الحكومة، بل يكفل لها الحماية الفصل البنيوي للسلطات، المتصور بشكل مختلف عن منظور مونتسكيو ، بين الحكومة والسيادة.
في الفصل الثاني من الكتاب الأول من «العقد الاجتماعي» زعم روسو أن جروشيوس أعطى شرعية زائفة للعبودية والاستبداد بتقديمه حقيقة محضة على أنها دليل على الحق. وفي الكتاب الخامس من «إميل» (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية)، حيث كرر هذا الادعاء، ادعى روسو أن مونتسكيو أخفق كذلك في تناول مبادئ الحق السياسي، واكتفى بدلا من ذلك ب «مناقشة الحق الإيجابي للحكومات القائمة». وأصر روسو على أنه ما من شيء في عالم السياسة يمكن أن يكون أبعد عن الحقيقة أكثر من الحق؛ مما أشعل نزاعا بين الفلاسفة والعلماء أدى إلى انقسام محبيه، وغيرهم، من تلامذة جروشيوس ومونتسكيو حتى يومنا هذا. لكن روسو في «العقد الاجتماعي» كان أيضا تواقا للتعاطي مع حقائق الحياة السياسية، وما يدين به لأسلوب مونتسكيو في تفسير تلك الحقائق كبير. فشأنه شأن مونتسكيو، كان روسو معنيا بالتاريخ الطبيعي للحكومات وتحليل أمراضها، وبالطريقة التي نشأت بها الدول وتوسعت وتفككت؛ وذلك أن «الأمة كجسم سياسي»، بحسب زعمه، «شأنها شأن جسد الإنسان، تبدأ في الاحتضار فور ميلادها، وتحمل في طياتها دواعي انهيارها» (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصلان العاشر والحادي عشر). وأقر روسو، سائرا على خطا مونتسكيو أيضا، بأثر العوامل المادية على طبيعة الحكومة ودساتير الدول، ملاحظا، بالإشارة إلى الكتاب الرابع عشر من مؤلف مونتسكيو «روح القوانين»، أن «الحرية ليست ثمرة كل الأقاليم»؛ ومن ثم فهي ليست في متناول كل الشعوب (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الثامن). وبينما أكد على مدى إمكانية تفسير أخلاق الأشخاص في المجتمع المدني بالرجوع إلى القوانين والعوامل السياسية، فقد شدد بالقدر نفسه تقريبا على الطريقة التي تحدد بها الأخلاق القوانين الإيجابية، واصفا قوى العادة والتقليد والإيمان، المحفورة، ليس على الرخام أو النحاس، بل في قلوب المواطنين وكأنها نوع رابع من القوانين (إضافة إلى القوانين السياسية والمدنية والجنائية)، معتبرها «النوع الأهم على الإطلاق منها جميعا» (العقد الاجتماعي، الكتاب الثاني، الفصل الثاني عشر). وفي «إميل»، أثنى روسو على مؤلف «روح القوانين» تحديدا لتناوله علاقة الأخلاق بالحكومة (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). ورغم الاختلافات الفكرية بين روسو ومونتسكيو، فقد تأثر روسو كثيرا برواية مونتسكيو عن القيود الأخلاقية على التشريع التي تشكل اتجاهه، وتصبغه بروحها. وبينما تدبر في القوانين بحسب ما قد تكون عليه، فقد انشغل في «العقد الاجتماعي»، كما تجلى في عبارته الأولى، بتناول البشر كما هم. ورغم أن حقائق السياسة ومعاييرها شيئان مختلفان، فلا بد أن يتناولهما معا حتى يستطيع تقييم ما هو ممكن في الشئون البشرية، وكذلك ما هو حق. وشأنه شأن مونتسكيو، محص روسو الدساتير من أسسها، في ضوء الأعراف الاجتماعية والتقاليد الشعبية التي تعززها، وبالقدر نفسه من قمتها في سياق المبادئ الأولى.
إن حساسية روسو الواضحة في «العقد الاجتماعي» تجاه العادات المحلية والتقاليد الوطنية، إلى جانب تعلقه بمعايير ما هو حق دوما، جعلاه يحظى بمعجبين في شتى أرجاء أوروبا، وخاصة في الدول التي تكافح الاستعمار الأجنبي، أو التي تسعى للحفاظ على حريتها الطبيعية خلال الحروب الأهلية بعد أن كانت فريسة لقوى خارجية. وعندما دعا البطل الكورسيكي ماتيو بوتافوكو روسو عام 1764 ليكون المشرع الخاص بدولة حرة، التي قال روسو عنها بالفعل إنها مناسبة بشكل متفرد للتشريع، وعندما دعاه الكونت ميشيل فيلهورسكي عام 1770 للتعليق على جهود اتحاد بار البولندي لتحرير بولندا من استبداد روسيا، استجاب روسو في كلتا الحالتين بحماس. وإذ كان حريصا دوما على ألا تبدو كتاباته مثيرة للقلاقل سياسيا، تردد روسو في أخذ زمام المبادرة في الأزمة السياسية التي حلت بمدينته الأم في منتصف ستينيات القرن الثامن عشر، حيث بدا كارها لتقديم الكثير من الدعم للجمهوريين الراديكاليين المحبطين من بين أبناء بلده، الذين احتشدوا رغم ذلك في نهاية المطاف للدفاع عنه ضد الحكومة التي حظرت أعماله. اعترف روسو لتلميذه وكاتب سيرته برناردين دي سان-بيير قائلا: «إنني أتمتع بطبيعة جريئة، ولكن شخصيتي مترددة.» ولما لم يكن جسورا قط لتجاوز أي عراقيل، شأنه شأن باكونين، أو لتوجيه مصير الأحزاب الثورية من غرف اللجان، شأنه شأن ماركس، رفض روسو توريط نفسه مباشرة في الصراعات السياسية في عصره، على الأقل، كما ذكر ذات مرة في رسالة أرسلها إلى كونتيسة وارتنسليبين؛ لأن «حرية البشرية بأسرها لا تبرر إراقة دم إنسان واحد» (المراسلات الكاملة، الرسالة رقم 5450). لكن وضع دساتير بناء على خيال مدني خصب، وهي ما ليست بحاجة لوضعها محل التجربة السياسية، كان بالنسبة إليه مسألة أخرى، أكثر جاذبية.
Bog aan la aqoon