ولنعد الآن إلى باكارا والكونت أرتوف، فنقول إنه بعد حادثة الهندية خلت باكارا بالكونت في منزلها وقالت له: إنك تعلم الآن حقيقة ما كنت أسعى إليه، فلقد أخبرتك كل شيء، ولذلك بقيت وحدك غير واثق من توبة أندريا دون الجميع. - ذلك لأنهم لم يروا ما رأيت، ولم يعلموا ما علمت من أمره. - نعم، فإن جرأة هذا الرجل لا تقف عند حد، وبعد أن قبضت على رفيقه وأوشكت أن أظفر به وأحمله على الإقرار باسم رئيسه الأثيم، خرج إليه فقتله كي يأمن إقراره ويظهر للحاضرين بمظاهر الصلاح. أما سمعته حين أقبل يعاتبني بعد تلك الطعنة لأني أردت مطاردة الجمعية السرية وحدي دون أن أعتمد عليه؟
فقال الكونت: إننا أخطأنا منذ البدء، فقد كان يجب علي أن أقتله حين ظفرنا به المرة الأولى. - نعم، كنا منعناه عن ارتكاب آثام جديدة. - أتحسبين أنه يعود إلى الشر بعد ما لقيه من أخطاره؟ - إنه فطر عليه، وإن مر يوم لا يرتكب فيه إثما لا يعده من أيامه، ثم إن هذا الرجل لا يكترث للمال، ولكنه ظمآن للانتقام من أخيه. - أتحسبين أنه يقتله؟ - يطمع بأكثر من حياته، فإنه يريد ثروته وامرأته وولده كما فعل أبوه من قبل بأبيه، وفوق هذا فإنه لا يطيب له خاطر إلا بقتلي؛ فقد كشفت دسائسه وحبطت مساعيه مرات كثيرة، فهو لا يغفر لي. - إذن، يجب أن يموت.
فابتسمت باكارا وقالت: إنك رجل شريف، غير أنه لا سبيل لنا إلى قتله الآن، وأخص ما يجب أن أسعى إليه أن أدعه يثق بي ويحسبني واثقة من إخلاصه في توبته، وهو ما سأظفر به بعد ساعة. - كيف ذلك؟ - ذلك أنه سيزوني الآن كما أخبرني في رسالة بعثها إلي، ولا أعلم القصد من هذه الزيارة سوى أني أظن أنه يريد سبر غوري للوقوف على حقيقة ظني به، وسيلقى كفؤا له في السياسة، فإني سأدعه يخرج مقتنعا بوثوقي من توبته، وهو سيحضر قريبا فاختبئ في هذه الغرفة المجاورة حيث تسمع كل ما يدور بيننا من الحديث.
ولم تكد تتم كلامها حتى دخلت الخادمة تخبرها بقدوم أندريا، فأمرتها بإدخاله وأسرع الكونت إلى الاختباء.
ودخل أندريا وكان بملابس التوبة، فجلس بالقرب من باكارا ودار بينهما الحديث الآتي، فقال أندريا: إني أتيت يا سيدتي لأباحثك في أمور خطيرة. - قل ما تشاء يا سيدي، فإني مصغية إليك. - لا بد لي قبل أن أذكر شيئا من سابق أحوالي وأحوالك، فلقد كنت من بنات الهوى ثم ارتجعت عن هذا العيش الذميم وعشت عيشة صلاح، ولقد كنت أشر منك فإني كنت لصا قاتلا سفاكا، إلا أني عدت أيضا بإلهام من الله مثلك إلى التوبة، ولكني رأيت بين الناس من لم يثق بتوبتي ومنهم أنت، وذلك أنه بينما عهد إلي أخي أرمان مطاردة تلك الجمعية السرية الهائلة رأيت من ملامح وجهك ما استدللت منه أنك غير واثقة بصدق توبتي.
فأطرقت باكارا بعينها إلى الأرض إطراق النادم وقالت: إنني أعترف بصحة ما تقول. - ولقد أثرت بي شكوكك، إلا أنني حسبتها عقابا لي من الله، وعلمت أنه جل جلاله لم يغفر لي بعد، ومن يعلم فلقد يكون جال في ظنك أنني واحد من رجال تلك العصابة الشريرة. - هو ما تقول يا سيدي الفيكونت، فلقد ظننت هذا الظن. - ولهذا فلقد طاردت رجال العصابة كما كنت أطاردهم دون أن تشركيني بشيء، والغريب أننا وصلنا إلى غاية واحدة دون أن أعرف الطريق التي سلكت فيها. - أتريد يا سيدي أن أعترف لك بكل شيء؟ - تكلمي. - إنك قتلت أمس بخنجرك ذلك الرجل في منزل الهندية، فكان خير برهان للحاضرين على صدق توبتك، إلا أنني لا أزال على ريب منك وألتمس منك أن تزيل مني هذا الريب ببرهان دامغ، فإنه يثقل علي. - إن ظنونك هي يد الله التي تعاقبني على آثامي السابقة، فأنا لا أحاول إقناعك، بل أنحني صاغرا أمام هذه اليد المنتقمة، ولا أهرب من عقاب الله.
فتظاهرت باكارا بالتأثر الشديد وقالت: رباه! ماذا أسمع؟ فإنك إذا كنت صادقا فيما تقول فإن الندم على سوء ظني بك سيقتلني لا محالة.
ففرح أندريا فرحا شديدا دون أن يظهر عليه شيء من آثاره، وقال لها: إذا حلفتك يمينا أتبرين باليمين؟ - إني أبر بيميني ولو حلفتها للص أثيم. - إذن، فأقسمي لي إنك لا تبوحين بالسر الذي سآتمنك عليه. - أقسم لك أني لا أبوح بسرك. - إذن فابحثي في أعماق قلبك الذي نفذت إليه مدة أشعة الغرام الصحيح، تعلمين حقيقة السبب في توبتي. - ماذا أسمع؟ ألعلك أصبحت من العاشقين؟ - نعم، فإني بعد أن فقدت جميع آمالي السابقة شعرت أن قلبي الحجري يحب، وأني أحب تلك المرأة التي أردت تدنيسها حب احترام لا حد له.
ثم أطرق برأسه وقال: هذه المرأة هي امرأة أخي أرمان.
فصاحت باكارا صيحة الندم، وقالت: أسألك العفو، فلقد زالت الآن ظنوني.
Bog aan la aqoon