أما المركيز فإنه دنا منه وقال: إني لا يصدني شيء عن قتلك الآن، ولكني لا أريد قتلك إلا بمبارزة، فانزل معي إلى الحديقة.
غير أنه قبل أن يثوب روكامبول إلى رشاده من هول ما رآه، وقبل أن يتمكن من إجابة المركيز، فتح مصراعا الباب بشدة وانقض رجل منهما انقضاض الصاعقة على روكامبول، فطعنه بخنجره في صدره طعنة قوية ألقته على الأرض يتخبط بدمائه وقال: أيها اللص إني أطاردك منذ شهر، وكلما عثرت بك تنجو مني، أما الآن فقد قضي عليك وقضي على هذه الجمعية السرية الهائلة من بعدك إذ لم يعد لها رئيس.
وكان هذا الرجل القاتل المتلبس بالتوبة والصلاح أندريا، ذلك الرجل الزاهد الناسك رئيس بوليس أخيه أرمان، فلم يبق ريب لدى الحاضرين بصلاحه، وصعقت باكارا لخذلانها ولما رأته من جرأة هذا الرجل الذي يعرف أن يبلغ النصر من طرق الفشل والخذلان، وقالت في نفسها: لقد انتصر الشر على الخير أيضا. غير أن باكارا كانت تثق بالله وكان الله معها.
51
ندخل الآن في القسم الأخير من هذه الرواية الهائلة، ولا بد لنا أن ندع بعض أشخاصها للاهتمام بأرمان دي كركاز، فنقول: بعد ثلاثة أشهر مضت على الحوادث المتقدمة، كان رجل طريح الفراش في منزل صغير وأمامه امرأة عجوز تنظر إليه بحنو، فنظر إليها العليل وقال لها: بأي يوم نحن يا أماه؟ - في الرابع عشر منه. - أتعلمين أني طريح هذا الفراش منذ ثلاثة أشهر؟ - نعم، فإن نجاتك من الموت كانت من العجائب الخارقة. - إن الأبالسة قد أخذت بيدي، فإن ساعتي لم تحن بعد ولكني لا أجد بدا من الخروج للتنزه، فقد سئمت العيش في هذا الفراش. - إن النزهة تفيدك يا بني، ولكنك لا تستطيع الخروج قبل أن يحضر الرئيس. - تبا له من رئيس، فلقد كاد يبعث بي إلى الدنيا الآخرة، ولكنه رجل نابغة، وأنا أجد لذة في الامتثال له.
وكان هذا الشاب روكامبول بعينه، وتلك العجوز التي يناديها بأمه لم تكن إلا مدام فيبار. وحكايته أنه بعد أن طعنه أندريا تلك الطعنة الهائلة سقط على الأرض مغشيا عليه أمام الهندية المائتة، ثم انصرف جميع من كان في غرفتها، وهم الكونت الروسي وباكارا والمركيز والمركيزة وأندريا، كل في شأنه وخلا المكان للخدم، فسرقوا كل ما عثروا عليه من أمتعة الهندية وحليها، حتى إنهم جردوا روكامبول من ملابسه فسلبوها أيضا وفروا بها.
وفي اليوم التالي اتصل الخبر برجال الحكومة، فأقبلوا إلى المنزل ورأوا الهندية مائتة والمنزل مسروقا، وروكامبول طريحا بالقرب من الهندية وفيه بقية رمق، ففتشوا جيوبه علهم يجدون بها ما يدل على اسمه، فلم يجدوا شيئا، فحملوه إلى المستشفى وهم يؤملون أن يعلموا حقيقة الأمر بعد أن يعود إلى رشده.
غير أن الحقيقة بقيت مكتومة عنهم؛ فإن روكامبول حين عاد إلى رشده اتصل به هذيان الحمى، فكان كلما أتاه رجال التحقيق يجدونه في هذيانه فلا يعلمون منه أمرا، ولم يكن هذيان روكامبول طبيعيا بل إنه كان يتكلفه تكلفا كي يتنصل من رجال البوليس؛ وذلك لأنه عندما صحا من غشيانه جعل يتذكر ما مضى، فذكر أنه رأى الهندية مائتة وأن أعداءه كانوا محيطين بهما، وأن رجلا هجم عليه وطعنه بخنجر، ولكنه لا يعرف من هو هذا الرجل، ولم يعلم شيئا سوى ذلك من سر هذه الحكاية، وما كان من تقول الناس عنه بها، إلى أن سمع ممرضتين في المستشفى يتباحثان بشأنه وهما تحسبان أنه نائم، فكانت إحداهما تقول للأخرى: لا إخال رجال التحقيق يقفون على شيء من أمر هذا الجريح، فإنه أصبح دائم الهذيان.
فأدرك روكامبول أن البوليس يترقب أن يصحو كي يستنطقه ويقف على الحقيقة منه، فجعل عند ذلك يتكلف الهذيان تكلفا؛ حذرا من البوليس وهو يتوقع أن يأتيه الفرج من باب يجهله.
وطال به العهد حتى يئس الأطباء من شفائه وقنط رجال البوليس من استنطاقه، إلى أن أتت يوما امرأة عجوز إلى المستشفى، وادعت أن الجريح ولدها فأدخلوها إليه، وكانت هذه العجوز مدام فيبار، فلما دخلت إليه وضغطت على يده وقالت له وهي تعانقه باللغة المتعارفة بينهما: احذر من أن تخالفني فيما أقول.
Bog aan la aqoon