هذه الأشياء التي لا غنية بالآدمي عنها، مما هو له غذاء أو معاش، ثم حذره أن يلهيه ذلك الفرح حتى يأشر ويبطر، ويتعدى الحدود. فالكيس حسم باب الفرح عن نفسه، من كل حلال أو حرام، ومن جميع أعمال البر، مما يجد في النفس استرواحًا إليه. وبه فرحا، حتى ملأها غمًا، حتى طهر قلبه. وتجلت فيه أنوار العزيز الماجد الكريم، على ما ذكرنا بديا، وعريت الملائكة من الشهوات
والجوارح والأجسام والأجواف والضرورات، فلا يحتاجون إلى طعام ولا شراب، ولا كسوة ولا كن يستكنونه من الحر والبرد، فنجت من فتن الآدميين وضروراتهم، ومكايد العدو، وأظهر خلقهم من التدبير بقوله (كن). وعاملهم من ملك الجبروت، ومقاومتهم في ملك الجلال، وأظهر خلقنا من يده، وعاملنا من ملك الرأفة والرحمة، ومقاومنا في ملك المحبة؛ فالملائكة مجبورون على حال واحد، لا ينفكون ولا ينقلون عنها. والآدميون خدم بين يديه ﷿، يتقلبون من حال إلى حال، وكل أحوالهم خدمة، وإنما صار هكذا لأن المعرفة من الملائكة على الأبصار، والمعرفة من الأميين على القلوب، والقلب أمير على الجوارح، فحركات الجوارح كلها من تقلب القلب بمشيئاته، ومشيئاته بمشيئات ربه ﷿، فأي جارحة حركها فإنما محركها قلبه، والقلب شاخص إلى الله ﷿ بولهه في تلك الحركة، فتلك خدمة منه له، مأخوذة هذه اللفظة من خدمة الساق، لأن الآدمي إذا قام منتصبًا، قام على خدمة ساقه، فهو بالقلب قائم بين يدي ربه ﷿، ومنه تتأدى الحركات إلى الجوارح، حتى تظهر على الجوارح، فقيامه ونهوضه إلى ربه ﷿ بتلك الحركة هو خدمته، وهو النية التي ينوى بها العبد في كل عمل،
1 / 66