دق جرس الباب، أوه! مفاجأة سارة أو غير سارة، لم يعد السرور شيئا هاما، تقاطيع وجهها منحوتة حجرية غير قابلة للموت، عيناها ثاقبتان كحد السكين، تكاد تشبه عيني كارمن وكل العيون الميتة، يكسبها الموت رهبة الآلهة والشياطين والأرواح الخفية، تأتي من الباب الخلفي من دون موعد، لا تتبع تقاليد العائلات الراقية في جاردن سيتي، تدخل بخطوة واسعة سريعة، تدوس الأرض بحذائها القديم المترب، ترمقه بعينيها ولا يطرف لها جفن، ينجذب إليها بقوة غير منطقية، يقول لنفسه، انجذاب غير مفهوم لفتاة مجهولة الاسم مجهولة الأصل، لا يندرج اسمها ضمن الكاتبات المحترمات، تعيش في زقاق مسدود في حي السيدة، عاملة فقيرة من الفئات الدنيا، تحمل سفاحا منه أو من سميح أو رجل آخر، غير معروف الاسم، انجذاب غير معقول يمتد إلى ما وراء العقل، ربما إلى الروح، تنجذب روحه إلى جسدها الطويل الممشوق، وملامح وجهها المألوف الغريب، المذهل في غرابته وألفته، يكاد يشبه الوجه الذي يطل عليه من المرآة كل يوم، الوجه ذاته الذي يظهر له في النوم، مثل إبليس، الوجه الملزوق على الملصقات فوق الجدران، في موسم الانتخابات، المنافسون له في المجلس يذكرون ابنه غير الشرعي، يتهامسون قبل فرز الأصوات بما يلهب خيال الناخبين، يصبح له بدل الابن الواحد ثلاثة أو أربعة أو أكثر، وابنة واحدة غير شرعية يلتقي بها سرا في الشاليه في صحاري سيتي، يرسمون صورته إلى جوار تمثال رمسيس الأكبر، يندفع منه خرطوم البول ليغرق المدينة، كان الفرعون العظيم يقدس ذاته، وكل ما يمتد خارج الذات، وإن كان على شكل الماء، كان يسكب ماءه المقدس في رحم أي واحدة من الحريم، وإن كانت أخته وابنته، وكل ما يفعله الإله فرعون يندرج تحت الشرع والقانون ... آه يا رمسيس الأكبر، يا من تعيش إلى الأبد، بجسدك الحجري وملامحك المنحوتة في الصخر، ونظرتك الثابتة لا يطرف لها جفن، يا رمسيس يا ... يا نرسيس يا عابد ذاتك.
تدخل الفتاة، هي نفسها بجسمها وملامحها كما كانت، وكما هي بالضبط، الوجه الشاحب الدم تنقصه الفيتامينات، الملامح الحجرية الحزينة إلى الأبد، الظهر المنتصب فوق عمود فقري صلب، تزهو بنفسها رغم الفقر وانعدام الأصل، يرتج الشيء تحت ضلوعه حين يراها، ارتجاجة غير مفهومة، مزيج من لذة جسدية جديدة وشعور قديم بالذنب، خليط من عذاب الروح وتأنيب ضمير غير موجود، عيناها مرفوعتان بنظرة استعلاء، كأنما مشبعة بشبق العقل، وما هو أكثر من ذلك، لا شيء يشبعها وإن كانت قمة اللذة في الفراش، عقلها التواق المراوغ الشبقي إلى الأبد، ملابسها المهملة الرخيصة تبدو غالية، رباطة جأشها مثل لبؤة لا يرضيها الأسد، ليست عذراء ولا غير عذراء، ولا أنثى ولا ذكر، لا شيء يغيرها وإن اجتازت البحار، وحملت سفاحا من بذور الأشجار، تعود كما كانت من دون أن تبللها قطرة ماء، أو تعلق بأهدابها قطرة دمع.
يردد رستم بصوته المتحشرج: ياه! إيه المفاجأة السارة؟
يتعانقان في اللحظة الحاضرة قبل أن تنزلق إلى الماضي، وتروح في العدم، يمسكها بيديه الاثنتين كأنما طائر يخشى أن يفرد جناحيه ويطير، يقبض عليها كمن يقبض على الهواء أو شبح من الماضي، يتراجع رستم خطوة إلى الوراء، أو نصف خطوة، يرى نفسه في المرآة المثبتة في الحائط، عيناه رماديتان مبللتان بدموع حبيسة، يختزن وراء عينيه دموعا كثيرة، يخشى أن ينام حتى لا يبكي في الحلم. - رجعت إمته من برشلونة؟ - من شهرين. - ياه! من غير ما أعرف؟ - كان لازم تعرف ... يعني؟ - طبعا والا إيه؟ - إيه.
يضحك رستم على النكتة، ويقول لنفسه صدفة غير معقولة، تغيب وتعود منذ شهرين، ولا تأتي إلا هذه الليلة. - الليلة عندنا حفلة كبيرة. - حفلة؟
تقول لنفسها، غير معقول أن يقيم حفلة كبيرة بعد موت كارمن بثلاثة أيام، لكن الأمر يبدو معقولا، هناك شيء في الموت يستوجب الاحتفال، شيء جميل في الموت لا تراه العيون المغلقة، لا يفتحها إلا الموت، لا يرى رستم نفسه في المرآة، هناك شخص آخر يقف وراء المرآة، يرتدي ربطة عنق زاهية الألوان، خلع الربطة السوداء بعد ثلاثة أيام الحداد، ومن أجل الاحتفال بالرواية، لا تليق الربطة السوداء بحفل كبير تحصل فيه كارمن على جائزة الرواية. - أي جائزة؟ - جائزة غير معروفة لا تكتب عنها الصحف. - غير معقول يا رستم! - معقول جدا؛ فالصحف تكتب عن جوائز الدولة، وهذه الجائزة لا تملكها أي دولة. - ومن يملكها؟ - لا أحد. أعني كل الناس.
يتلاعب رستم كعادته بالألفاظ، فالكلمات لعبته في السياسة في السلم وفي الحرب، في الحب والكره وكل شيء، أتقن رستم قواعد الألعاب منذ الطفولة. - على أي حال أنا سعيد بعودتك إلينا.
يردد كلمة إلينا بالجمع، يعني هو وكارمن وسميح، ينسى أن كارمن ماتت وسميح سافر، ينسى غيابهما كما كان ينسى وجودهما. يكرر بدون وعي: أنا سعيد بعودتك، كأنما السعادة تستوجب غياب الوعي. - صدفة غير معقولة. - كل الصدف غير معقولة. - بما فيها لقاؤنا الأول. - يمكن. - ولقائي الأول بكارمن؟ - وسميح وسوزي. - وجمالات ومريم الشاعرة وكل الناس.
ويكاد يضيف بلا صوت: ودخولي رحم أمي بالصدفة في لحظة حب عابرة بينها وبين أبي، وبالصدفة أيضا جاء ابني محمد إدريس الذي يحمل اسم رجل آخر بالصدفة، ويهمس لنفسه من دون أن ينظر إليها، الحياة كلها صدفة والموت صدفة، والرواية الجيدة صدفة، لولا ظهور الفتاة صدفة في حياة كارمن ما كانت الرواية. - قرأت الرواية؟ - أيوه. - أعطتنا جميعا أسماءنا. - يمكن. - إلا أنت. - لست أنا بالضبط. - ما معنى ذلك؟ - ربما فتاة لها ملامحي. - كنت أتمنى أن تكون كارمن موجودة في الحفلة. - كارمن موجودة على العموم. - بالروح على الأقل. - الروح ليس أقل من الجسم.
ترد عليه بثقة أكبر، يكبرها بثلاثين عاما، تبدو أكبر منه، على الأقل فيما يخص الروح، كلمة الروح مراوغة يمكن أن تقوده إلى الهاوية، أنقذ عقله بمشقة كبيرة من الجمعية، كاد أن يفقد الوعي ويقع في حب جمالات. - جمالات؟
Bog aan la aqoon