انتزعت يولاندا الطفلة من حضنها، ملامحها تشبه ابنها الغائب فرانسيسك، تحاليل المعمل والحامض النووي يمكن أن تثبت علاقات الدم، أرضعتها يولاندا من ثديها، وضعت الحلمة السوداء في فمها، انهمر اللبن غزيرا مثل النهر، أو الشلال تسقط أمامه السدود، تغيرت يولاندا، عاد إليها الشباب وغريزة الأمومة، لم يعد في حياتها شيء إلا هذه الطفلة، اسمها نورية، باسم أمها وجدتها، تستعيد يولاندا وجه أمها وجدتها، تنظر في وجه نورية فترى ابنها الغائب وابنتها المهاجرة، وكل أولادها وبناتها المبعثرين في بلاد العالم. - سأعطيك نصف المطعم والشقة في العمارة وآخذ نورية. - اسمعي يا يولاندا، أنا لا أبيع ابنتي! - سأعطيك ثلاثين ألف يورو نقدا. - ابنتي ليست للبيع. - ليست ابنتك وحدك، ابني فرانسيسك هو أبوها. - ليس لها أب لا فرانسيسك ولا غيره. وأنا الأم أقرر من هو الأب!
لم تكن جمالات تحب الربيع في القاهرة، تقول عنه موسم الخماسين والزعابيب، تهب الرياح من الصحراء محملة بالرمال، يصبح الكون لونه أصفر، تلتهب عيناها يصبح بياضهما أحمر.
ترتدي نظارة سوداء، ترى كل شيء أسود، تلعن الدنيا والدين وكل شيء، بما في ذلك نفسها. - أنا منافقة زي كل الناس، لازم أكذب عشان أعيش، لازم أكتب الباب بتاعي كل أسبوع، لازم أقول أي حاجة حسب الجو، والجو في بلدنا ملوث بالسموم والتراب والدخان، حتى الربيع، موسم الحب والزهر والفرح في العالم، أصبح عندنا موسم القرف والزفت والقطران!
ثم تنفجر بالبكاء والضحك، تدمع عيناها الحمراوان، تمسحهما بمنديل من الورق، تشده من فتحة العلبة الكرتون المستطيلة، مكتوب عليها «كلينكس» بحروف أجنبية، تتحول الضحكات المبتورة إلى نشيج متقطع، صوتها متحشرج يخرج من أنفها الذي يرشح مثل صنبور ماء بليت جلدته، تجففه بمناديل الورق تملأ بها صفيحة القمامة. - حتى الزكام بييجي في الربيع، وفيروس سي، وفيروس الأبيض المتوسط، ومشروع الشرق الأوسط الكبير، حتى المناديل اللي بنمسح بيها مناخيرنا ما نعرفش نعملها، نستوردها بالعملة الصعبة من أمريكا زي القمح والعيش والفول المدمس، الله يخرب بيتك يا طاغوت ويخرب بيت صاحبك في البيت الأبيض!
دق جرس الباب، دخل بعض أصدقاء جمالات وزملائها في الصحافة، منهم بهي الدين برعم، يحمل باقة ورد ملفوفة بورق شفاف، في يده الأخرى كتاب جديد من تأليفه في النقد الأدبي، يشتمل على فصل كامل من الكاتبة الكبيرة جمالات، جلس على المقعد إلى جوارها وهي مريضة في الفراش، يقرأ لها مقدمة الفصل. - تختلف الكاتبة الكبيرة جمالات عن غيرها من الكاتبات النسويات، فهي لا تكتب عن الجنس، أو الرغبات الجسدية للمرأة، لديها اتزان أدبي رفيع، وحرص على الأخلاق والأسرة وقيم الدين الحنيف، تتوجه في بابها الأسبوعي دائما إلى الله خالق الكون، وإلى الرئيس الحبيب حامي الوطن، وإلى السيدة الأولى للبلاد محررة النساء وقائدة الثقافة والإصلاح والتنوير.
لطمت جمالات خديها وهي تصرخ، كان الزكام والصداع يسد أنفها وأذنيها، رنت الكلمة الأخيرة في رأسها «التزوير»، نهارك إسود يا بهي يا برعم، عاوز توديني في داهية؟!
لم تطمئن جمالات حتى ناولها الكتاب، ارتدت نظارة النظر ذات الشنبر الذهبي، تأكدت عن يقين أن الكلمة هي التنوير وليس التزوير، وضعت الكتاب تحت وسادتها، عاد الدم إلى وجهها الشاحب، وعاد المرح إلى صوتها. - اللغة العربية خطيرة جدا، نقطة واحدة على حرف واحد تدخلك السجن، ودي غلطة مطبعية مقصودة مية في المية، عمال المطبعة بقوا من أتباع العرب الأفغان والقاعدة وأسامة بن لادن، عاوزين يشتموا النظام على حسابي وحسابك يا بهي، منافقين وجبناء وعملاء لرئيس التحرير، الدنيا كلها بقت ملخبطة وأنا عيانة ودماغي واجعاني!
من الشارع يرى سميح النور مضاء في غرفتها، كانت الفتاة تحاول الكتابة أو تقرأ رواية، يصعد إليها حاملا كيس برتقال أو موز، أو رزمة ورق وأقلام سوداء جافة، كان يشجعها على الكتابة، في أيام الصيف يأخذها إلى الإسكندرية، ورث عن أمه شقة تطل على البحر في سيدي بشر، كان يعلمها السباحة، تبدو الأمواج مخيفة مثل الكتابة، تحاول أن تكسر الخوف دون جدوى، لا تعرف كيف تطفو فوق الماء، في الليل تواجهها الصفحة البيضاء مرعبة مثل سحابة فوق عينيها.
تتمشى مع سميح على كورنيش البحر، الهواء النقي وهدوء الليل بعد أن ينام الناس، يتمشيان حتى تظهر نجمة الصباح، أحيانا ترتفع الأمواج، تصبح مخيفة في الليل، مثل جبال من الرمال السوداء، هديرها يدوي، يرج السماء، مثل هتاف المظاهرات في الشوارع وميدان التحرير، يحوطها سميح بذراعيه كالأم الحنون، أنامله الرقيقة تلامس وجهها، تضع رأسها فوق صدره وتنام بعمق، تفتح عينيها في الظلمة، يدها تلمس يده، تريد التأكد أنه جسم حقيقي وليس فكرة في الخيال، في الصباح بعد الفطور، يصنع الشاي بعناية، والخبز التوست، مربى البرتقال أو الفراولة، اللبن المنزوع الدسم، البيض المسلوق أربع رقائق، تبدو الحياة مستقرة تخضع لنظام ثابت، تغمض جفونها في استرخاء، تود أن تستمر الحياة المطمئنة إلى الأبد، أن تلد منه أربعة أطفال، ولدين وبنتين، تود أن تعبر له عن كل ما في نفسها، وحبها لرستم، كأنما علاقتها برستم شيء خارج حياتها الحقيقية، مجرد قصة أو رواية فوق الورق تحكيها لسميح وتنتهي منها.
كان سميح مثل الجدار تستند إليه، يحميها من الوحدة والحزن والفقر، في الأعياد يأخذها إلى الحدائق، في شم النسيم، في العيد الكبير والصغير، يتمشيان في حديقة الحيوان، وحديقة الأورمان، يمسك يدها في يده وسط الزحام، قريب منها إلى حد التلاصق، هي وهو وحدهما في العالم الكبير، يشتري لها اللب الأبيض والفول السوداني، على شاطئ النيل، يسيران المسافات دون أن ينال منهما التعب دون أن يشعرا بمرور الوقت، يجلسان على الدكك الخشبية يقزقزان اللب، تمر بهما الطفلة الشحاذة، يناولها سميح قطعة من النقود، تدعو الله أن يحميهما من الأشرار، يأتي الصبي الذي يمسح الأحذية، يعطيه سميح قطعة أخرى من النقود دون أن يمد له قدمه، يشعر بالحرج، كيف يمكن لأحد أن يمسح لأحد حذاءه! وتذكرت قصيدة لمريم الشاعرة بعنوان الزعيمة:
Bog aan la aqoon