تتصاعد رائحة الشواء، ترتفع الأصوات تدعوهم إلى العشاء، تجلس كارمن على رأس المائدة، رستم يفتح زجاجات النبيذ، تطلب جمالات عصير فاكهة لأن الله حرم الخمر ولحم الخنزير، يهمس سميح في أذنها، صديقتك دمها خفيف. تعزف الموسيقى لحنا جميلا لا تعرفه، تقول كارمن، اسم المؤلف تشايكوفسكي، تهز رأسها، تمر بعينيها على الوجوه، تلتقي عيناها بعيني رستم، يبتسم يرفع كأسه نحوها قائلا «في صحتك».
مرة بعد مرة ضاع رونق هذه الدعوات، أصبحت الفتاة تشعر بالملل والاغتراب، لا تنتمي إلى هذه الفئة، وإن اشتاقت أحيانا لما يدور فيها من أحاديث، تلبي دعوة رستم للعشاء، تشعر بالإثم مع اللذة وهما يتحاوران حول رواية من الروايات، يتمشيان معا في الظلمة، يدخلان إلى الشاليه البعيد في الصحراء، يخلع رستم عن وجهه القناع، يخلع ربطة العنق والحذاء، يمشي فوق الرمال حافيا، يلعبان كالأطفال «التعلب فات فات، وفي ديله سبع لفات»، يعانقها تحت ضوء القمر شاردا بعينيه في السماء، «سئمت حياتي المليئة بالنفاق، أرجوك خديني.»
هو الذي يقول خديني، كأنما هي الرجل وهو المرأة، يصبح بين ذراعيها شخصا آخر، لا تكاد تعرفه، يطفئ اللهب في جسدها، لم تتدرب في حياتها على أن تأخذ الرجل، تجربتها في الحب أحادية، يأخذ الذكر الأنثى وليس العكس، كان يدربها على أشياء جديدة، يفتح عينيها على حقائق لا تعرفها، وروايات لم تقرأها، وموسيقى لم تسمعها، بدأت الحياة تبدو لها أكثر ثراء، ألوانها متعددة مثل الطيور، مثل الزهور البرية في الغابات تنمو وحدها وتتشعب وتعلو دون أسوار.
في مكتبة النادي كانت تقضي النهار في القراءة، إن أصابها الملل أو التعب تتمشى قليلا في حديقة الأطفال، تتبادل الحديث مع خادمة أو مربية يسمونها «دادة ماجدة»، لا تجلس بجوار حوض الرمل، حيث يلعب الأطفال، لم يكن مسموحا لها أن تجلس فوق الكراسي التي يجلس عليها الأعضاء والعضوات، نمت الصداقة بينهما، اسمها ماجدة، اختصار ماجدولين، ولدت في قرية قرب لاهور، من أب باكستاني مسلم وأم هندوكية، اغتصبها ابن عم أبيها وهي في الحادية عشرة، ارتفع بطنها بالحمل، هربت قبل أن يقتلها أبوها، ركبت القطار في ظلمة الليل إلى لاهور، تخلصت من الجنين وأصبح اسمها ماجدولين بدلا من خديجة، حذفت اسم أبيها، قالت لها صاحبة مكتب التشغيل أنا أمك فوفو، ترسل إليها نصف راتبها كل شهر بحسب العقد.
لا تكف ماجدة عن الكلام، في أعماقها مخزون من الحكايات، عيناها سوداوان مسحوبتان، فيهما بريق جذاب، خليط من دماء آسيوية عربية إسلامية هندوكية، ومسحة من الشجن أو الحزن الجميل، خيالها واسع، سافرت إلى بلاد العالم عبر أسواق الرقيق، من لاهور إلى مانيلا في الفلبين، ومن الرياض إلى مكة إلى إسرائيل، ومن لندن إلى باريس إلى نيويورك إلى بيروت ثم القاهرة، تعرف أسرار القصور والبيوت، دخلت الفراش مع الوزراء والسفراء والسفرجية والطباخين والزبالين، تسرد الحكايات عن أعضاء النادي وهي جالسة في حوض الرمل، عيناها ترقبان الطفلين بانتباه رغم استغراقها في الحكاية، أبوهما شخص مهم في المجلس الأعلى، يشاركها الفراش حين تسافر زوجته، عجوز متصاب يصبغ شعره وشنبه بالحنة البغدادي السوداء، يبتلع حبوب الفياجرا الزرقاء، ترى صوره أحيانا في الصفحة الأولى مع الرئيس. له ابن من زوجته الأولى خبير بالبورصة، وابن من الزوجة الثانية رجل أعمال يشارك أبناء الرؤساء في الشركات الكبرى، أما الزوجة الثالثة فهي قريبة وكيل المجلس النيابي، المسئول عن المرشحين ونتائج الانتخابات، لا أحد ينجح دون جهوده، كان من المعدمين أصبح من ذوي البلايين.
كانت ماجدة تزودها بالحكايات، وقطع من تورتة الشكولاتة (بلاك فورست)، وأنواع الفاكهة المجففة مع اللوز والفستق، وأشياء أخرى لا تقول عنها سرقة، بل جزء من حقها المسلوب، تضحك وتهز شعرها الأسود الطويل الناعم، ضريبة الحب المجاني في غياب ست البيت، تقولها بمزيج من العربية والإنجليزية والباكستانية، ثم تنهض تنفض عن ثوبها الرمل، تمسك الطفلين، كل طفل في يد ، يحاولان الفكاك من قبضتها الحديدية، عيناها وهي ترمقهما تمتلئان بالكراهية، تصفع أحدهما على قفاه، تلكز الآخر في كتفه، ثم تجرهما وراءها كالأرنبين من الأذنين. •••
كانت ليلة صيفية دافئة، السيارة المرسيدس يقودها رستم، القمر غائب وراء غلالة شفافة، تملأ الفتاة صدرها بهواء الصحراء في الليل، جاف وناعم كالحرير، يملأها بالحنين إلى شيء مجهول، أوقف السيارة عند باب الشاليه، جلسا فوق الرمل يرشفان البيرة المثلجة مع قطع الخيار المخلل الأخضر والزيتون الأخضر، كان شاردا وكانت صامتة، ترقب السماء والشعاع الأبيض يتسلل من وراء السحابة، وجه القمر من الفضة اللامعة في خضم السواد، تعلوه ابتسامة ماكرة متنكرة وراء الإله، كان يتنكر على شكل القمر، يتألق في السماء ثم يهبط في بطن الأرض، ليصبح إله الموت، تذكرت أمها الميتة، كل شيء مصيره الموت حتى هي، عقلها عاجز عن استيعاب الفكرة، أن تموت وتنتهي مثل هذه النملة الزاحفة بين الرمل، عقلها عاجز أيضا عن استيعاب فكرة البعث أو الحياة بعد الموت، اجتاحتها رغبة عنيفة أن يحوطها ويغرقها بالحب قبل أن تموت. - هل فكرت في كتابة رواية؟
فاجأها السؤال، صوته مبحوح فيه ذبحة، كأنما يعاني ألما في صدره، أو التهابا في الحنجرة، واهتز رأسها وحده علامة النفي، لم تفكر أبدا في كتابة رواية أو أي شيء آخر، ربما خطرت لها الفكرة وهي غارقة في النوم، أو في الطفولة قبل أن يدركها الوعي، فكرة غامضة تتسلل من وراء سحابة سوداء، ترعبها الفكرة كالموت.
سمعته يتنهد بصوته كالأنين. - آه من الكتابة، هي الجحيم بعينه، عذبتني طول حياتي، خيالي عاجز بارد بالنسبة لسخونة الأحداث، كل يوم فيه حدث سياسي مهم، ومشاغل المجلس والانتخابات، الكتابة عاوزة معاناة وتعب وجوع وشقاء، وأنا شبعان ومستريح أربعة وعشرين قيراط، ويعني الكتابة بتعمل إيه؟ كلام على الورق، مجرد تنفيس عن الغضب المكبوت زي العادة السرية.
رنت كلمة العادة السرية في أذنها نابية، لم يعودها على سماع هذه الكلمات الخارجة عن الأدب. - أنا آسف إذا كنت جرحت شعورك.
Bog aan la aqoon