يمكن أن نلخص السلسلة وحلقاتها كالآتي؛ تجربة - بصر - بصيرة - صرخة - استجابة - اختزان في العقل الباطن - ترجمة - تفسير - ترتيب - إخراج - توصيل، ويمكن اختصارها في تجربة - تعبير - توصيل.
فلننظر الآن في التجربة الأدبية؛ التجربة إما أن تكون حادثة أو فكرة أو منظرا، ولكنها على كل حال، تجربة غنية بالأضواء والصور والرموز، تجربة متعددة الأجزاء، كل جزء له قيمته من حيث إنه وحدة في كل متناسق، وزيادة على ذلك فعاطفته التي تثير التجربة عاطفة من لون خاص، فالعاطفة تتميز بالصدق الذي هو اقتناع قلبي مرتفع على قاعدة من الحماسة القوية، فليست العاطفة الصادقة إذن انفعالا متصنعا ولا نواحا ولا ندبا ولا عويلا، بل هي نوع من الانفعال المكظوم، نوع من الألم الجبار الذي أمكن للنفس القوية مهادنته وحبسه في جو من الهدوء، ومن ثم تكون نوعا لا يستثير الألم والعذاب، وإنما تكون ضربا من العزاء والشقاء، ولقد قال «كينس» معاتبا نفسه وموضحا معنى العاطفة العبقرية: من أنت؟ أنت حالم تعيش في حمى، إنك تثير آلام الناس وسخطهم، ولكنك ليس لديك البلسم الذي تلقيه فوق متاعبهم وآلامهم. ما أضيعك!
هذه العاطفة العميقة هي بمثابة اللهب الذي يضفي على التجربة الظلال والأضواء والأصباغ، وهو الذي يخلع على التجربة النبض والحياة، وقد تقول بالأصح: إن العاطفة العميقة تثير الخيال الذي هو في الواقع اليد الساحرة التي تقوم بكل هذا.
أما الشرح السيكولوجي لهذا، فهو أدق وأكثر توضيحا، وخلاصته أنا نعيش في ثلاثة عوالم؛ العالم الخارجي، والعالم الشعوري، والعالم اللاشعوري؛ أي عالم الحقيقة وعالم العاطفة وعالم الخيال، وهذه العوالم في دنيانا العملية تكاد تكون منفصلة تماما، أو على الأقل بينها اتصال غير كامل، أما العالم الخارجي فمنه المادة التي تعطينا التجربة، ففي لحظة الانفعال تنزاح الفواصل بين عالم المادة، وعالم العاطفة؛ أي يزول ما بين الوعي وغير الوعي، ففي هذه اللحظة المتاحة تستوعب التجربة صورة موحدة، وأنموذجا كاملا، ولا تلتقط مهلهلة الأجزاء مبعثرة الأشلاء، ولا مبتورة التفاصيل، فإذا انزاحت الفواصل بين الشعور واللاشعور، فإن اللحظة الانفعالية تصير حالة انفعالية ممتدة الزمن، وزيادة على ذلك فإن الانفعال يستوعب التجربة كخليط معقد الجوانب، وهذا ما يجعله مثيرا أو مشتعلا، ويجعل الأديب متوثبا لاستيعاب الانفعال والسيطرة عليه، فهنا يختلط الواعي بالباطن، فيطفو الأخير بأحلامه وضبابه وخيالاته في الشعور، وفي هاته اللحظة نحس بالحاجة إلى التعبير، ولكن الشعور تحليلي في نزعته، بعكس اللاشعور فهو تركيبي، فعلى ذلك يحيل الأول التجربة إلى الثاني الذي يعيد تركيبها، على أن الثاني إذ يعيدها، إنما يعيدها ومعها فروق وتدرجات وألوان وأصباغ وأضواء وظلال كالآفاق التي تبدو في الحلم سواء بسواء، وذلك لأن الباطن طبقات وإمكانيات، وهو يعطى بالتدريج ويغري باقتحامات جديدة، فالتجسد الأول للتجربة - أي التجسد الشعوري - تضخم متعب قد يؤدي إلى الانتحار أو الجنون.
أما التجسد الثاني فهو مخفف تدريجي يطفو في وسط الألوان والأضواء، وفيه شعور كذلك بالتحرر من قيود العرف، ولذلك يكون عمله في الأغلب في هدوء الليل وبعيدا عن الناس. على أن هذا التحرر - أو بالأصح اختلاط الواعي بالباطن واتفاقهما على كيفية التعبير - يصاحبه امتزاج المدركات الحسية جميعها، من حس إلى فكرة إلى عاطفة، ففي عالم الأدب يمتزج البصر بالوجدان بالفكرة، فنقول: عينان فرحتان، امتزاج حس ووجدان! والنحت حسي لمسي فقط، والموسيقى سمعي عاطفي، ولا يستثار الإحساس بالجمال إلا بالتئام الوجدان مع المدركات الأخرى.
يتضح من هذا أن العمل الفني مدين في جزء كبير منه للوعي والشعور، ولذلك يتبين أن العبقرية والقول بالسليقة وحدها لإنتاج العمل العبقري، قول على غير أساس.
ويتضح من هذا التحرر السيكولوجي أن المسألة محاولة إزالة فواصل، فمن الباطن الواعي إلى الخارج وبالعكس، معنى ذلك أنها عملية «إفضاء»؛ أي توصيل، وبعبارة أخرى: الخروج عما هو شخصي إلى ما هو إنساني وهذا هو غرض الأديب ورسالته ، ولكن ما دام اللفظ هو الوسيلة لهذا الإفضاء فما مركزه في هذه الحلقة «اللفظ» عليه أن يؤدي الصورة مستعينا بالخيال والرمز والموسيقى.
أما الموسيقى فقد سبق أن قلنا: إنها العصا السحرية، والوسيلة للإقناع القلبي الذي تحدثت عنه.
وليس أبدع من لغتنا العربية في التحدث عن اللفظ الفني: فيقال مثلا: إن المجاز «هو تجاوز اللفظ إلى ما لم يقصد به القاموس.»
ثم تقول كتب البلاغة: إن الكناية لون من ألوان التشبيه المركز، منه التلويح والإيماء والرمز، حسب ظهور العلاقة أو النسبة أو اختفائهما.
Bog aan la aqoon