رسالة في تحَقيق مَعنَى النَّظمِ والصِّيَاغةِ لابن كمال باشا (ت:٩٤٠هـ)
درَاسَة وَتحقِيق:
الدكتورْ حَامِدصَادِق قنيبي قسم الدراسات الإسلامية والعربية جامعة الملك فهد للبترول والعادن - الظهران
المحتويات
رسالة في تحقيق معنى النظم والصياغة لابن كمال باشا (ت ٩٤٠ هـ)
أولا: السيرة الذاتية لابن كمال باشا
ثانيا: القراءة التقويمية وخطة التحقيق.
ثالثا: تحقيق الرسالة.
ثبت المصادر
الخلاصة
عاش ابن كمال (٩٤٠ هـ)، صاحب هذه الرسالة في عصر هيمنت فيه النزعة الفلسفية وتفريعاتها المنطقية الجافة على الدرس البلاغي اللغوي بتأثير مدرسة أبي يعقوب السّكاكي (ت ٦٢٦ هـ) وشرّاحها.
ويدعو ابن كمال في هذه الرسالة إلى تجديد اتجاه عبد القاهر الجرجاني (ت ٤٧١ هـ)، وفيها يُلقى الضوء على جوانب من نظرية النظم، ويجلو قيمة الصياغة الفنية في إطار النظرة الشمولية لمعاني النحو والتجربة الشعورية بعيدًا عن التزويق أو الزخرفة المصطنعة. وهي من منظور نقدي معاصر جديرة بالاهتمام.
1 / 169
أولا: السيرة الذاتية لابن كمال باشا
ابن كمال باشا، شمس الدين أحمد١
(٨٧٣-٩٤٠هـ / ١٤٦٨-١٥٣٤م)
من علماء الترك المستعربين، بل هو واحد من أكبر المدققين. اسمه: شمس الدين أحمد بن سليمان بن كمال باشا، الشهير بابن كمال باشا٢. نشأ في بيت علم وفضل ومكانة عالية.
فجده لأبيه (كمال باشا) من أمراء الدولة العثمانية، كان ذا حظوة لدى سلاطينها، إذ كان مربيا لبايزيد الثاني (ولي العهد آنذاك)، ثم صار (نشانجى) ٣ الديوان السلطاني ٤. وكان عالما ومن تلاميذه٥ التفتازاني٦ والشريف الجرجاني٧. وكذلك كان والده (سليمان بك ابن كمال باشا) ٨، فقد كان من قادة عساكر السلطان محمد الثاني الفاتح وحامل لواء (أماسيا amasya) في فتح القسطنطينية عام ٨٥٧ هـ/١٤٥٣ م. وصار بعد الفتح وكيلًا لجند السلطان برتبة (صوباشي) ٩، أي منصب من تتوفر فيه الكفاية لضبط البلد من جهة السلطان١٠.
١ مصادر ترجمته: هدية العارفين ١/١٤١، كشف الظنون ١/٤١، الشقائق النعمانية ٢٢٦-٢٢٨، عقود الجوهر ١/٢١٧، الموسوعة التركية ٥٦١-٥٦٦.
٢ يحلو لبعض الدارسين تسميته بـ/ كمال باشا أوغلو، أو كمال باشا زاده. على أن (أوغلو) كلمة تركية تعني ابن، و(زاده) كلمة فارسية تعني ابن أيضا. ولكننا نؤثر تسميته بابن كمال باشا كما كان يحلو أن يُسمي نفسه بذلك.
٣ تشانجى، أي: الذي يختم المراسيم والمكاتيب بختم «السيد العظيم» المعروف بطغراء السلطان.
٤ عاش عهدي السلطانين محمد الثاني الفاتح ابن مراد (٨٥٥-٨٨٦هـ / ١٤٥٠-١٤٨١ م)، وبايزيد الثاني ابن محمد الفاتح (٨٨٦-٩١٨هـ/١٤٨١- ١٥١٢م) .
٥ انظر: الشقائق النعمانية ص ٢١٥.
٦ التفتازاني، هو مسعود بن عبد الله التفتازاني، الملقب بسعد الدين (ت ٧٩١ هـ)، العلامة الأصولي المفسر المتكلم المحدث البلاغي الأديب. له مصنفات في علوم شتى منها: التلويح في كشف حقائق التنقيح في الأصول، وحاشية على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب في الأصول، والمطول الذي وضعه شرحا لتلخيص المفتاح للسكاكي، وله حاشية على الكشاف ولم يتم (ترجمته: بغية الوعاة ص ٣٩١، الفوائد البهية ص ١٣٦-١٣٧، الأعلام ١٣/١١٣-١١٤، أبجد العلوم (٣/٥٦) .
٧ الشريف الجرجاني، هو علي بن محمد بن علي (ت ٨١٦هـ)، من كبار العلماء بالعربية، كان بينه وبين التفتازاني مباحثات ومحاورات في مجلس تيمورلنك. من مصنفاته: التعريفات، وشرح مواقف الإيجي، والحوشي على المطول للتفتازاني، وشرح على حاشية القاضي العضد. على مختصر المنتهى، وشرح القسم الثالث من المفتاح، وحاشية على الكشاف ولم يتم (ترجمته: الفوائد البهية ص ١٢٥-١٣٧، الأعلام ٥/١٥٩-١٦٠، أبجد العلوم ٣/٥٦) .
٨ أما أمه فهي ابنة محمد محيي الدين كوبلي kupeli-oglu mehmed، وكان جدها (سنان باشا يوسف ضياء الدين) من العلماء.
٩ انظر: الشقائق النعمانية ص٢١٥. بالإضافة إلى شهرة الفاتح كقائد عسكري طموح، فلقد كان شاعرا محبا للعلم والعلماء وكان يجيد عدة لغات شرقية وأوربية وله ديوان شعر بالتركية مطبوع.
_________
١٠ انظر: معجم صفصافى ص٤٧١.
1 / 170
في ظل هذه الأسرة المنعمة نشأ صاحبنا (ابن كمال باشا)، وقد حُبِّبَ إليه العلم والترقي فيه فأكب في شبابه على نهل المعرفة ليلا ونهارا. ثم انتظم في سلك الجيش، وخرج سنة ٨٨٧ هـ في سفر مع الوزير (إبراهيم بن خليل باشا)، وكان معهم الأمير (أحمد بك بن أورنوس) وهو المقدّم على سائر الأمراء آنذاك، وبينما هم في مجلسهم ذات يوم إذ دخل عليهم رجل من العلماء رثّ الهيئة فجلس في صدر المجلس، مما أثار استغراب ابن كمال باشا، وتساءل عن هذا (الرجل) الذي تقدم على مجلس الأمير، فقيل له: إنه رجل من أهل العلم يُقال له (الملا لطفي) .. فكانت هذه الحادثة نقطة تحول في حياة (ابن كمال) إذ تأكد له من يومها أنه لن يبلغ المراتب العالية إلا إذا اشتغل بالعلم الشريف، وكان له ما أراد، أما أصل الحكاية فلنستمع إلى ابن كمال يرويها بلسانه إذ يقول١:
".. كنت واقفا على قدمي قدّام الوزير المزبور. والأمير المذكور عنده جالس إذ جاء رجل من العلماء رث الهيئة دنيء اللباس فجلس فوق الأمير المذكور، ولم يمنعه أحد عن ذلك فتحيرت في هذا. فقلت لبعض رفقائي: مَنْ هذا الذي جلس فوق هذا الأمير؟ فقال: هو رجل عالم مدّرس بمدرسة (فلبا filibe) يقال له: المولى لطفي. قلت: كم وظيفته؟ فقال: ثلاثون درهما. قلت: فكيف يتصدّر هذا الأمير ومنصبه٢ هذا المقدار؟ قال رفيقي: إن العلماء معظمون لعلمهم، ولو تأخّر لم يرض بذلك ولا الوزير، قال رحمه الله تعالى: فتفكرت في نفسي فقلت: إني لا أبلغ مرتبة الأمير المذكور في الإمارة، وإني لو اشتغلت بالعلم يمكن أن أبلغ مرتبة العالم المذكور، فنويت أن أشتغل بالعلم الشريف ".
بعد هذه الحادثة وَقَرَ في نفس ابن كمال باشا أن يسلك طريق العلم الشريف، فترك الجيش ولازم المولى لطفي في مدرسة (دار الحديث) بأدرنة، وقرأ عليه (حواشي شرح المطالع)، وقد سبق له قراءة (مبادئ العلوم) في صدر شبابه. ومن شيوخه الذين تلقّى العلم على أيديهم٣:
ا- المولى القسطلاني، مصلح الدين مصطفى
٢- المولى خطيب زاده، محيي الدين محمد
٣- المولى معروف زاده، سنان الدين يوسف.
_________
١ الشقائق النعمانية ص ٢٢٦.
٢ كذا في الأصل ولعل المقصود: مرتبه أو وظيفته.
٣ انظر: طاش كبرى زاده، الشقائق النعمانية بذيل وفيات الأعيان ج٢م٢ص٥٩٢.
1 / 171
وفي سنة ٩١١ هـ١ صار (ابن كمال باشا) مدّرسا بمدرسة (علي بك) في أدرنة، وقد طلب منه السلطان بايزيد الثاني أن يكتب تاريخ العثمانيين.
وفي سنة ٩١٧ هـ٢ ولي التدريس بمدرسة (أسكوب) في اليونان. ثم رجع في سنة ٩١٨ هـ إلى المدرسة الحلبية بأدرنة. ثم صار مدرسا بإحدى المدرستين المتجاورتين بأدرنة، وبعدها بإحدى المدارس الثمان٣ إلى أن أصبح مدرسا لمدرسة السلطان بايزيد الثاني.
وفي سنة ٩٢٢ هـ صار قاضيا لأدرنة، وفي السنة نفسها جعله السلطان سليم الأول٤ (قاضي عسكر الأناضول) ٥، ثم عزل من هذا المنصب سنة ٩٢٥ هـ، وعينّ رئيسًا لدار الحديث بأدرنة.
وكان- ﵀ حسن المنظر، حافظ الآداب، لطيف الصحبة إذا جلس مع الأحباب، كريم الشأن، عظيم المكان، قليل المقال، كثير التفكير في كل حال، وهذه بعض شمائله.
وفي عام ٩٣٢ هـ وبعد وفاة علاء الدين الجمالي صار ابن كمال باشا شيخ الإسلام (مفتي الخلافة العلمية العثمانية)، ولم يزل في منصب الإفتاء إلى أن توفي يوم الجمعة الثاني من شوال ٩٤٠ هـ، الموافق ١٧ من نيسان ١٥٣٤م في عهد سليمان القانوني٦.
ودفن في (باب أدرنة) بالآستانة في زاوية (محمود جلبي) وقيل في تاريخ موته (ارتحل العلم بالكمال)، وكُتب على قبره (هذا مقام أحمد)، وعلى أكفانه (هي آخر ملابسه)، وكلّها
_________
١ انظر المرجع السابق ص ٥٩٣.
٢ انظر المرجع السابق ص ٣٩٣-٥٩٤.
٣ أنشأها السلطان محمد الفاتح، وتعرف هذه المدارس بمدارس الصحن الثمان، وهي للتعليم العالي المتكامل في مرافقه وخدماته لطلاب العلم أشبه ما يكون بالمدينة الجامعية.
٤ هو تاسع السلاطين العثمانيين (٩١٨-٩٢٦ هـ/١٥١٢-١٥٢٠م)، الملقب بـ/ «ياوز»، أي القاطع. وفي عهده تم التغلب على سورية ومصر إثر واقعة مرج دابق.
«قاضي عسكر» أو «قاضيعسكر»: كان لقبا علميا كبيرًا في الدولة العثمانية، فقد كانت الدولة العثمانية مقسمة إلى منطقتين كبيرتين من هذه الوجهة هي الأناضول والرومليّ (أي بلاد الروم) وكان يعين على كلّ منهما قاض للعسكر (عن معجم صفصافي ٢٣٦)، وهذا يشبه منصب قاضي القضاة عند العرب.
٦ هو سليمان الأول (١٥٢٠-١٥٦٦م) عاشر السلاطين العثمانيين، وعهده هو العهد الذهبي في تاريخ الدولة العثمانية إذ ازدهرت العلوم والفنون والآداب، واستبحر العمران، وارتقت الدولة في جميع مرافقها.
1 / 172
تتضمن تاريخ وفاته. وكان يقول ﵀ وهو يحتضر: (يا أحد نجنا مما نخاف) فحسبت بعد موته فكانت تاريخًا لوفاته أيضا بحساب الجُمَّل.
(*) - مكانته العلمية:
تكشف مؤلفاته عن شخصيته الموسوعية، ويعتبر بحق من أكابر العلماء العثمانيين. ومصنفاته في: الدين، والآداب، واللغة وله في تاريخ العثمانيين كتاب كبير ومهم، فضلا عن مئات الرسائل والمقالات والمقطوعات الشعرية.
لقد أثبت مكانته الرفيعة في كلّ العلوم التي تناولها، ولقد قرظّه العلماء وأثنوا عليه بما هو أهله، فقد قال عنه طاش كبرى زاده١:
" كان يشتغل بالعلم ليلا ونهارا ولم يفتر قلمه، وصنف رسائل كثيرة في المباحث المهمة والغامضة... وكان صاحب أخلاق حميدة حسنة وأدب تام وعقل وافر، وتقرير حسن ملخص، وله تحرير مقبول جدا لإيجازه مع وضوح دلالته على المراد. وبالجملة أنسى٢- رحمه الله تعالى - ذكر السلف بين الناس، وأحيا رباع العلم بعد الاندراس، وكان في العلم جبلا راسخا وطودا شامخا، وكان من مفردات الدنيا، ومنبعا للمعارف العليا. روّح الله تعالى روحه، وزاد في غرف الجنان فتوحه ".
وابن كمال باشا عند العثمانيين يشبه جلال الدين السيوطي (ت ٩١١ هـ) عند العرب، فكلاهما زينة العصر. اتفقا في كثرة التأليف والجمع، ولقد أثنى علماء القاهرة على ابن كمال باشا عند زيارته مصر عام ٩٢٣ هـ في صحبة السلطان سليم الأول " ياوز " فقد أثبت شخصيته من خلال الجدل والمناقشة، وقد جعله اللكنوي من أصحاب الترجيح المقلدين القادرين على تفضيل بعض الروايات على بعض٣، وقد عقد مقارنة بينه وبين السيوطي فقال٤:
" كان ابن كمال مساويا للسيوطي في كثرة التأليف وسعة الاطلاع في الأدب والأصول، ولكن لا يساويه في فنون الحديث، فالسيوطي أوسع نظرا وأدق فكرا في هذه الفنون منه، بل من جميع معاصريه، وأظن أنه لا يوجد مثله بعده، وأما صاحب الترجمة (ابن كمال) فبضاعته
_________
١ الشقائق النعمانية ٢٢٧.
٢ كذا في الأصل. ولعله من الأفضل أن يقال: أحيا ذكر السلف.
٣ الفوائد البهية في تراجم الحنفية ٢١.
٤ المصدر السابق ٢٢.
1 / 173
في الحديث مزجاة كما لا يخفى على من طالع تصانيفهما فشتان ما بينهما كتفاوت السماء والأرض وما بينهما... ولكن ابن كمال باشا عندي أدق من السيوطي، وأحسن فهما على أنهما كانا جمال ذلك العصر "، وقوله (كتفاوت السماء والأرض وما بينهما) ... مبالغة في عمومها، والأصح أنهما نظيران تشابها في كثير من فروع المعرفة، غير أن ابن كمال تميز في إجادته التامة للغات العربية والتركية والفارسية الأمر الذي جعله يقف على أسرارها ويؤلف في فقهها المقارن، فضلا على أنه عاش طيلة حياته رجل سياسة وقضاء. بينما يظل السيوطي متفردًا في علوم الحديث.
(*) - مؤلفات ابن كمال باشا:
تذكر الموسوعة التركية أن مجموع تصانيف ابن كمال باشا قد بلغت (٢٠٩) مصنفات، يمكن إدراجها تحت رؤوس الموضوعات التالية:
_________
١- تفسير القرآن الكريم وعلومه ١٢ مصنفا
٢- الحديث الشريف وعلومه ٨ مصنفات
٣- الفقه والشريعة ٤٣ مصنفا
٤- الفلسفة ٥٠ مصنفا
٥- الآداب ٢٢ مصنفا
٦- المنطق ٨ مصنفات
٧- التصوف مصنفان
٨- الأخلاق مصنفان
٩- علوم العربية ونحوها ٢١ مصنفا
١٠- مصنفات باللغة الفارسية ٩ مصنفات
١١- مصنفات في موضوعات متنوعة ٣٢ مصنفا
ولقد عدد طاش كبرى زاده من مؤلفاته١:
".. كان عدد رسائله قريبا من مائة رسالة، وله من التصانيف تفسير لطيف حسن قريب من التمام، وقد اخترمته المنية ولم يكمله. وله حواش على الكشاف. وله شرح بعض الهداية. وله كتاب في الفقه (متن) . وشرح سماه بالإصلاح والإيضاح. وله كتاب في الأصول
١ الشقائق النعمانية ٢٢٧.
1 / 174
(متن) . وشرح أيضا سماه تغيير التنقيح١. وله كتاب في علم الكلام (متن) وشرح أيضا. وله حواش على التلويح٢. وله حواش على التهافت للمولى خوجه زاده٣. وهذا ما شاع بين الناس. وأما ما بقي في المسودة فأكثر مما ذكر، وله يد طولى في الإنشاء والنظم بالفارسية والتركية. وقد صنف كتابا بالفارسية على منوال كتاب (كلستان) سماه بنكارستان. وصنف كتابا في تواريخ آل عثمان بالتركية ".
_________
١ عنوانه «تغيير التنقيح (بالتنقيح») - وتنقيح الأصول لعبد الله بن مسعود البخاري الحنفي المتوفى سنة ٧٢٧ هـ (عن حاجي خليفة، كشف الظنون ١/ ٤٩٩) .
٢ هو كتاب «التلويح في كشف حقائق التنقيح» لسعد الدين التفتازاني. المطبعة الخيرية بالقاهرة ١٣٠٤ هـ.
٣ انظر: الطبقات السنية في تراجم الحنفية لتقي الدين عبد القادر التميمي (ت ١٠٠٥هـ)، تحقيق عبد الفتاح الحلو. القاهرة، ١٩٧٠م. الجزء الأول ص ٤١١.
ثانيا: القراءة التقويمية موضوع هذه الرسالة (في تحقيق معنى النظم والصياغة)، ومصطلح النظم والصياغة يقابل في الدرس الحديث الصورة البلاغية. وابن كمال في هذه الدراسة يلتقي مع الشيخ عبد القاهر الجرجاني (ت ٤٧١ هـ)، بل لا نعدو الحقيقة إذا قلنا أنه يكشف عن بعض الجوانب الغامضة في آراء (شيخه) كما يحب أن يدعوه. وهو ينحو باللائمة على مدرسة السكاكي وما خلّفته من جمود كان له الأثر السلبي في الدرس البلاغي النقدي. والنظم والصياغة عند ابن كمال هما الوعاء الذي يختزن التجربة الشعورية عند الأديب، فهما ليسا زينة عارضة تطرأ على المعنى الأصلي بقدر ما هما جسر لتحقيق الصورة الفنية الموحية، يقول ابن كمال/ س ٩٥ أ/: " اعلم أن أساس البلاغة وقاعدة الفصاحة نظم الكلام، لا بمعنى ضمّ بعضها إلى بعض كيف جاء واتفق، بل بمعنى ترتيبها على حسب ترتيب المعاني في النفس، فهو إذًا نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، ولهذا كان عند أرباب هذه الصناعة نظيرًا للنسج والوشي والصياغة وما أشبه ذلك. مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض حتى يكون لِوَضْع كل منها حيث وُضِع علّة تقتضي كونه هناك وحتى لو وضع مكان غيره لم يصلح ". وحتى يؤكد ما يذهب إليه يعمد إلى النقل عن عبد القاهر الجرجاني، فهما متفقان على أن عملية الصياغة إنما هي محصلة ما يحدثه السياق من صور وأحاسيس وفكر وصوت
ثانيا: القراءة التقويمية موضوع هذه الرسالة (في تحقيق معنى النظم والصياغة)، ومصطلح النظم والصياغة يقابل في الدرس الحديث الصورة البلاغية. وابن كمال في هذه الدراسة يلتقي مع الشيخ عبد القاهر الجرجاني (ت ٤٧١ هـ)، بل لا نعدو الحقيقة إذا قلنا أنه يكشف عن بعض الجوانب الغامضة في آراء (شيخه) كما يحب أن يدعوه. وهو ينحو باللائمة على مدرسة السكاكي وما خلّفته من جمود كان له الأثر السلبي في الدرس البلاغي النقدي. والنظم والصياغة عند ابن كمال هما الوعاء الذي يختزن التجربة الشعورية عند الأديب، فهما ليسا زينة عارضة تطرأ على المعنى الأصلي بقدر ما هما جسر لتحقيق الصورة الفنية الموحية، يقول ابن كمال/ س ٩٥ أ/: " اعلم أن أساس البلاغة وقاعدة الفصاحة نظم الكلام، لا بمعنى ضمّ بعضها إلى بعض كيف جاء واتفق، بل بمعنى ترتيبها على حسب ترتيب المعاني في النفس، فهو إذًا نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، ولهذا كان عند أرباب هذه الصناعة نظيرًا للنسج والوشي والصياغة وما أشبه ذلك. مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض حتى يكون لِوَضْع كل منها حيث وُضِع علّة تقتضي كونه هناك وحتى لو وضع مكان غيره لم يصلح ". وحتى يؤكد ما يذهب إليه يعمد إلى النقل عن عبد القاهر الجرجاني، فهما متفقان على أن عملية الصياغة إنما هي محصلة ما يحدثه السياق من صور وأحاسيس وفكر وصوت
1 / 175
تكوّن في مجموعها الصورة الأدبية. يقول الجرجاني (الدلائل، ص ٣٧- طبعة المنار): "... فإذا وجب لمعنى أن يكون أولا في النفس وجب للفظ الدال عليه أن يكون مثله أولا في النطق، فأما أن تتصور في الألفاظ أن تكون المقصودة قبل المعاني بالنظم والترتيب، وأن يكون الفكر في النظم الذي يتواصفه البلغاء فكرا في نظم الألفاظ، أو أن تحتاج بعد ترتيب المعاني إلى فكر تستأنفه لأن تجيء بالألفاظ على نسقها، فباطل من الظنّ، ووهم يتخيل إلى من لا يوفي النظر حقه. وكيف تكون مفكرا في نظم الألفاظ وأنت لا تعقل لها أوصافا وأحوالا إذا عرفتها عرفت أن حقها أن تنظم على وجه كذا؟ ".
لقد شغلت قضية اللفظ والمعنى جهود النقاد العرب. وقد نصب الجرجاني همّه لرفض الثنائية بينهما وتابعه في هذا الاتجاه ابن كمال. فاللفظ يعانق المعنى فإذا وجب للمعنى أن يكون أولا في النص وجب للفظ الدّال عليه أن يكون مثله لا النطق. وهذا الاتجاه لا يخرج عما انتهى إليه الدرس الحديث، يقول طه حسين (خصام ونقد، ص ٨٧): " إن من أعسر العسر أن تفصل بين صورة الأدب ومادته، فالأدب يوشك ألا يخضع لهذا النوع من التحليل الذي يعمد إليه العلماء وأصحاب الكيمياء منهم خاصة، فإذا عمد النقاد إلى تحليله فهم يقاربون ولا يحققون.. إن اللغة صورة الأدب وإن المعاني هي مادته وهذا كلام مقارب لا تحقيق فيه فكثير من النقاد القدماء خاصة، تصوروا أن المعاني تشبه الأجسام قبل أن تلبس الثياب، ونعرف الثياب قبل أن تسبغ على الأجسام ونستطيع أن نحقق الفصل بينهما، ولكننا لا نعرف المعاني المجردة التي تتخذ ثيابها من الألفاظ ولا نعرف الألفاظ الفارغة التي تنتظر المعاني لتلبسها، وإنما نعرف الألفاظ والمعاني ممتزجة متحدة، لا تستطيع أن تنفصل ولا أن تفترق ".
وفي الرسالة دعوة إلى وحدة علوم اللغة، فعلم المعاني بمعناه العام الذي يضم البيان وإن اشتهر ضمه إلى علوم البلاغة فهو ليس إلا دراسة لغوية تدخل في إطار النحو بمعناه الدقيق، لأن علم المعاني يعنى بدراسة الجملة وما يكون فيها من حذف أو ذكر، أو تعريف أو تنكير، أو تقديم أو تأخير، أو قصر أو وصل، أو إيجاز أو إطناب. ولابن كمال دراسة قائمة بذاتها لتأكيد هذه الصلة، يقول فيها:/مخطوط لدى الباحث/ ".. ويشارك النحوي في البحث عن المركبات إلا أنّ النحوي يبحث عنها من جهة هيئاتها التركيبية صحة وفسادا، ودلالة تلك الهيئات على معانيها الوضعية على وجه السداد. وصاحب المعاني
1 / 176
يبحث عنها من جهة حسن النظم المعبّر عنه بالفصاحة في التركيب.. ومرجع تلك الفصاحة إلى الخلو من التعقيد. فما يبحث عنه في علم النحو من جهة الصحة والفساد يبحث عنه في علم المعاني من جهة الحسن والقبح، وهذا معنى كون عِلم المعاني تمام علم النحو ".
ولقد سبق أن أشرنا إلى أن ابن كمال مجدد لدعوة عبد القاهر الجرجاني في الدرس اللغوي المبينة على النظرة الشمولية... فهو- مثلا- يساوي بين مصطلحي الفصاحة والبلاغة. وتقوم نظرية النظم عند عبد القاهر على عدم المفاضلة بين اللفظ والمعنى، ومن ثَمّ بين الفصاحة والبلاغة ففي دلائل الإعجاز (ص ١٨٣- طبعة المنار) نقرأ: "يصحُّ التعبير عن المعنى بلفظين مختلفين، ثم يكون لأحدهما مزية على الآخر، وأن أحدهما فصيح، والآخر غير فصيح.. "، وإنما تتحقق الفصاحة عنده بعد التأليف وصوغ العبارة، لأن الكلمة في حال إفرادها لا تفضل غيرها وإنما يظهر التمايز في إطار السياق وحسن الأداء، وتمام المعنى. يقول/ الدلائل، ص ٣١/: " وهل تجد أحدًا يقول: هذه اللفظة فصيحة، إلا وهو يعتبر مكانها من النظم، وحسن ملاءمة معناها لمعنى جاراتها، وفضل مؤانستها لأخواتها؟ وهل قالوا لفظة متمكنة ومقبولة، وفي خلافه: قلقة ونابية ومستكرهة، إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من معنييهما، وبالقلق والنبوّ عن سوء التلاؤم، وأن الأولى لم تَلِقْ بالثانية في معناها، وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقًا للتالية في مؤدّاها؟.. ".
وإذا كان علم النحو يعنى بالجمل من حيث صحة التراكيب لتحقيق الاتصال بين الناس فإنه- أي علم النحو- لا يقوم كيانه دون أن يرفد من علم الصرف بالمواد الأولية، والتي يمكن أن توصف بأنها خطوات ممهدة أو وسائل لتحقيق الغاية. فنحن نتعلم من علم الصرف حالات الاسم مفردا أو مثنى أو جمعا، ثم نوظف هذه المعرفة في تركيب العبارات والجمل وفق مقتضيات علم النحو دون إخلال بأساسيات العلوم الأخرى المساندة. وهكذا يبدو اعتماد العلمين على بعضهما كما لو كانا كلا متكاملا.
وابن كمال في معالجته هذه القضية يدرك الرابطة الوثيقة بين علوم اللغة، يقول في هذه الرسالة:/ س ٩٩ أ/: ".. وبهذا التفصيل تبين أن مرادهم من المعاني التي يضيفون إليها عبارة (الصياغة) المعاني الأول. وقد نبهت فيما سبق على صياغتها على نحوين: أحدهما ما يكون بالتصرف في النظم بلا اتّساع وتجوز في الكلام. والآخر ما يكون بنحو من الاتساع والتجوز فيه مع قطع النظر عن حال النظم ".
1 / 177
ثم ينتهي إلى القول/ س ٩٩ ب/: " ومن هنا انكشف لك سرّ وهو أن الاختلاف في كيفية الدلالة غير منحصر في طريق المجاز والكناية كما توهمه صاحب المفتاح حيث قال: انصباب علم البيان إلى التعرض للمجاز والكناية بناء على ما قدمه من أن التفاوت في الدلالة إنما يكون بالدلالة العقلية وذلك بالطريقين المذكورين لأن قوله (يَسُبني) في الوجهين المزبورين على حقيقته. والتفاوت المذكور في الدلالة مرجعه إلى المعنى النحوي، لا إلى المعنى اللغوي. فافهم هذا السر الدقيق، فإنه بالحفظ حقيق ".
على أنه فيما يكشف عنه من سر مسبوق بما قاله الجرجاني -سلفه- حيث يقول في (الدلائل، ص ٢٤٠): ".. ومرادهم من النظم في أمثال هذا المقام توخي معاني النحو فيما بين الكلام حسب الأغراض التي يصاغ لها الكلام، والنظم بهذا المعنى، أسُّ البلاغة، وأمّ الإعجاز ".
ولعل هذه الرسالة في مضمونها جاءت مكملة لما سبق لابن كمال دراسته في مجموعة من الرسائل في هذا الباب وهي: (الكلمة المفردة) و(اللفظ قد يوضع لقيد) و(المزايا والخواص) و(مشاركة صاحب المعاني اللغوي في البحث عن مفردات الألفاظ المستعملة في كلام العرب) ١.
ويدعو ابن كمال في دراساته هذه إلى تجديد الدرس اللغوي وإحياء آراء عبد القاهر الجرجاني، والتي ليس بينها وبين المعاصرة فاصل كبير، وهي تأتي في زمن هيمن فيه (مفتاح العلوم) لأبي يعقوب السكاكي (ت ٦٢٦ هـ)، ونظمه، وشروحه، وتلخيصاته.. فكانت محاولة للخروج من التأثر بالمنطق والفلسفة والعلوم العقلية إلى فهم روح البلاغة، وإثراء الإحساس في تذوق النص الأدبي، ووضع البلاغة والنحو وضعا سليما في خدمة اللسان العربي. وإنما تقوم اللغة بمجموعة العلاقات بين الدلالات ورموز المعاني المتمثلة في الألفاظ لأداء ما في النفس.
وليس للفظ المفرد أهمية ذاتية مهما بلغ من انسجام في حروفه، وحسن وقعه وجرسه، وإنما تبدو أهميته حين ينتظم مع غيره، ويتلاءم مع ما يجاوره ويتوافق معه.. والأداء العربي لا يمكن أن يتحقق إلا لمن كان عارفا بالطرائق الصحيحة في القول، متمرسا بالأساليب العربية الرفيعة، مزودا بالمعرفة النحوية عن طريق الذوق والمعايشة لما تزخر به العربية من روائع القول.
_________
١ حقق الباحث بعض هذه الرسائل، وقد أفاد منها في تحقيق هذه الرسالة ودراستها.
1 / 178
وصف نسختي المخطوط
اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على نسختين في المكتبة السليمانية باستانبول.
الأولى: نسخة المكتبة السليمانية (رقم ١٠٤٥)، وقد رمزت لها بالحرف (س)، وجعلتها بمثابة النسخة الأم إذ عزوت إليها في الدراسة دون النسخة الأخرى. وهي قريبة العهد بحياة المؤلف، إذ كان تاريخ نسخها في سنة ٩٩١ هـ. وهي بخط تعليق، ولا تخلو من تحريف وتصحيف. وتقع ضمن مجموع بدءًا من الورقة (٩٥ ب) إلى (٩٩ ب) . والصفحة الواحدة منها (١٩) سطرا، وقياس كتابتها (٦١ /١٢٢ ملم) . وتمتاز النسخة بأنها خزائنية دونت في خاتمة المجموع وقفية السلطان هكذا:
" وقف السلطان الأسعد الأحمد وتخليد الخاقان الأمجد الأكمل الصارف همته الجليلة نحو الحرب، المعرب عن معالي الحسنات السلطان ابن السلطان أبو الفتوح والمغازي محمود خان ابن السلطان مصطفى خان رزقه الله أطول الأعمار وطول الآماد، وجعل وقت خلافته العلية أبعد الآماد. وأنا الفقير لله ﷾ مصطفى طاهر المفتش بالحرمين الشريفين المحرمين. غفر له ". وجاء في الورقة (١٤٧): " وقع الفارغ من تحرير الرسائل للعلامة ابن كمال باشا في أواخر جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وتسعماية على يد أحقر الورى محمد بن حسن بسبيري زاده ".
أما النسخة الثانية، فهي نسخة "بغداد وهبى" (رقم ٢٠٤١)، وقد رمزت لها بالحرف (ع)، وهي نسخة جيدة، وخطها تعليق جميل، ونص الرسالة يقع في الورقات (٢٠٨ ب إلى ٢١١ ب)، والصفحة الواحدة منها (٢١) سطرا، وقياس كتابتها (٥٦/١٣٠ ملم) . والمجموع كتبه (أبو السعود) وفي الصفحة الأخيرة ترجمة موجزة للمؤلف جاء فيها: " هذه الرسائل للمولى العلامة أستاذ أرباب الفضائل أحمد بن سليمان بن كمال باشا رحمه الله تعالى. من أكابر العلماء وأفاضل الفضلاء، جمع جميع العلوم، وتفرد في كلّها سراجا منيرا يهتدي بمناره الروم.. ".
1 / 179
وقد كانت خطتي في تحقيق هذه الرسالة إثبات الفروق بين النسختين. كما قمت بمراجعة النصوص على مصادر ابن كمال حيثما وُجد المطبوع منها. ولم أر ضرورة إلى التعريف بالأعلام لأنها مشهورة في حقل الاختصاص، وهي قليلة على العموم.
1 / 180
ثالثا: تحقيق الرسالة .
" رسالة في تحقيق معنى النظم والصياغة " ١
بسم الله الرحمن الرحيم ٢
باسمه سبحانه ٣، الحمد لوليه ٤، والصلاة على نبيه ٥. وبعد؛ فهذه رسالة رتبناها في تحقيق معنى النظم والصياغة عند أرباب البلاغة وأصحاب البراعة، فنقول ومن الله التوفيق، وبيده أزمة التحقيق: اعلم أن أساس البلاغة وقاعدة الفصاحة نظم الكلام، لا بمعنى ضم بعضها إلى بعض كيف جاء واتفق، بل بمعنى ترتيبها حسب ترتيب المعاني في النفس، فهو إذًا نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، لهذا كان عند أرباب هذه الصناعة ٦ نظيرا للنسج والوشي الصياغة وما أشبه ذلك. مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض حتى يكون لوضع كل منها ٧ حيث وضع علة تقتضي كونه هناك، وحتى لو وضع في مكان غيره لم يصلح ٨.
وإذا تحققت هذا فاعلم أن نظم أجزاء الكلام مع قطع النظر عن الدلالة بمعانيها الوضعية على معان أُخر ضرب من القصور فيستعار له من ٩ الصياغة بدون اعتبار ما في المعنى من الاتساع والتَّجوُّز على ما أفصح /س٩٦أ/ عنه ١٠ الشيخ ١١ حيث قال في دلائل الإعجاز ١٢: "واعلم أنّ مَثَل واضع اللغة مثل من يأخذ قطعًا من الذهب أو ١٣ الفضة فيذيب ١٤ بعضها بعضا في بعض حتى تصير قطعة واحدة. وذلك أنك إذا قلت: " ضرب زيد عَمْرا يوم الجمعة ضربًا شديدًا تأديبًا له " فإنك تحصل من مجموع هذه الكَلِم ١٥ على مفهوم هو معنى واحد/ع٢٠٩أ/، لا عدة معان كما يتوهمه ١٦ الناس ١٧. وهو إثباتك ١٨ زيدا فاعلا ضربا لعمرو في وقت كذا وعلى صفة كذا لغرض كذا. ولهذا نقول إنه كلام واحد ١٩ وإذا عرفت هذا فبيت (بشار) ٢٠ إذا تأملته وجدته كالحلقة ٢١ المفرغة التي لا تقبل ٢٢ التقسيم، ورأيته قد صنع في الكَلِم التي فيه ما يصنعه الصانع ٢٣ حين يأخذ كِسَرًا ٢٤ من الذهب فيذيبها ثم يصبها في قالب ويخرجها لك سِوارا، أو خلخالا. وأنت إذا حاولت قطع بعض ألفاظ البيت عن بعض كنت كمن يكسر الحلقة ويفصم السوار ٢٥. وذلك أنه لم يرد أن يشبّه النقع بالليل على حدة، والأسياف بالكواكب على حِدة ٢٦، ولكنه أراد أن يشبه النقع والأسياف تجول فيه بالليل في حال ما تكدر ٢٧ الكواكب وتتهاوى فيه. فالمفهوم من الجميع مفهوم واحد. والبيت من أوله إلى أخره كلام واحد " ٢٨. والبيت هذا:
1 / 185
هذا ١:
كأن مُثارَ النَّقع فوق رؤوسنا ... وأسْيافَنا، ليل تَهَاوى كواكبه
ومراد صاحب المفتاح من الصياغة /س ٩٦ب/ حيث قال ٢: " مثل ما يسبق إلى فهمك من تركيب (إن زيدا منطلقٌ) إذا سمعته عن العارف بصياغة الكلام.. " هذه الصياغة المستعارة للنظم. ولذلك أضافها إلى الكلام دون المعاني كما أضافها إليها في موضع آخر على ما تقف عليه بإذن الله تعالى.
وقد تستعار الصياغة لترتيب المعاني وإحداث الصورة فيها كما هو الظاهر من كلام الشيخ حيث قال في كتابه المذكور سابقا ٣: " واعلم أن قولنا (الصورة) إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا فلما رأينا البينونة بين آحاد الأجناس /ع ٢٠٩ب/ تكون ٤ من جهة الصورة، فكان تبين ٥ إنسان من إنسان، وفرس من فرس، بخصوصية تكون ٦ في صورة هذا لا تكون ٧ في صورة ذاك. وكذلك الأمر في المصنوعات، وكان تبين ٨ خاتم من خاتم، وسوار من سوار بذلك، ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين ٩، وبينه في الآخر بينونة في عقولنا وفرقا، عبرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا: للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك، وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئا نحن ابتدأناه فينكره منكر، بل هو مستعمل في كلام العلماء، ويكفيك قول الجاحظ: " إنما الشعر صياغة١٠ وضرب من التصوير " انتهى كلامه.
وهذا المعنى من الصياغة أيضا لا يتوقف على الاتساع /س ٩٧أ/ والتجوز، بل يتحقق بهما تارة، وبمجرد التصرف في النظم أخرى. صرَّح الشيخ بذلك، حيث قال ١١: " جملة الأمر أنَّ صورَ المعاني لا تتغير ١٢ بنقلها من لفظ إلى لفظ حتى يكون هناك اتساع ومجاز، وحتى لا يراد من الألفاظ ظواهر ما وضعت له في اللغة، ولكن يشار إلى معان أخر.
واعلم أن هذا كذلك ما دام النظم واحدا، فأما إذا تغيَّر النظم فلا بد حينئذ من أن تتغير ١٣ صورة المعنى على ما مضى من البيان في ١٤ مسائل التقديم والتأخير " إلى هنا كلامه.
إلا أنه في الغالب يكون بنوع من الأتساع والتجوز، ولذلك قال الجاحظ: وإنما الشعر صياغة، ولم يقل: وإنما الكلام صياغة؛ فإن الشعر كالعلم لما اتُّسع فيه وتجوّز من الكلام، وإلا فحقه التعميم كما فصله ١٥ الشيخ، حيث قال ١٦: " ومعلوم أم سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وأن سبيل المعنى /ع ٢١٠أ/ الذي يعبر عنه سبيل الشيء ١٧ الذي يقع التصوير والصوغ فيه، كالفضة والذهب، يصاغ منها خاتم أو سوار " انتهى كلامه ١٨.
1 / 186
ومراد صاحب المفتاح من الصياغة حيث قال ١: وإذا تحققت أن علم المعاني والبيان هو معرفة خواص تراكيب الكلام. ومعرفة صياغات المعاني هذه الصياغة المستعارة لتصوير المعاني، ولذلك أضافها إليه ٢ كما أن مراد الجاحظ أيضا هي ما نبه عليه الشيخ فيما نقلناه عنه سابقا.
وإذ قد وقفت على أن مراد الجاحظ من /س ٩٨أ/ التصوير الذي عبر عنه بالصياغة، تصوير المعاني ٣ بترتيبها الذهني، لا تصوير الألفاظ بتركيبها الخارجي، فقد عرفت أن من قال ٤ في شرح القول المنقول عن صاحب المفتاح أولا ٥: يشبه تأليف الكلام بترتيب كلماته متناسبة الدلالات على حسب الأغراض المقصودة منه بصياغة الحلي ٦، ومنه قول الجاحظ: أن الشعر صياغة وضرب من التصوير لم يصب ٧ في قوله.
ومنه قول الجاحظ: وإذا تحققت أن الصياغة المستعملة في عرف أهل هذه الصناعة تستعمل تارة لما في نظم الكلام
وتأليفه من أحداث الهيئة، وأخرى ٨لما في معنى ٩ الكلام وترتيبه من أحداث الصورة ١٠. فاعلم ١١ أنه لا دخل لعلم البيان في الصياغة بالمعنى الأول؛ فإن علم المعاني مستقل ١٢ في بيان ما يتعلق بها، وكذا الحال في الصياغة
بالمعنى الثاني إن لم يكن فيه تأثير للتوسع والتجوز؛ وإن كان فيها تأثير لهما فلعلم البيان فيها شركة مع علم المعاني، والحظ الوافر للثاني، ضرورة أن الأول ١٣ منه بمنزلة الغصن ١٤ من الدوحة ١٥، وقد فرغنا من تحقيق هذا في بعض تعليقاتنا ١٦.
وبهذا التفصيل تبين فساد ما قيل ١٧ في شرح القول /ع ٢١٠ب/ المنقول عن صاحب المفتاح ثانيا ١٨، أي علمت حقيقة أن علم المعاني هو معرفة خواص تراكيب الكلام، وأن علم البيان معرفة صياغات المعاني، أي تصويراتها بالصور المختلفة وإيرادها بالطرق ١٩ المتفاوتة على ما قال /س ٩٨أ/ الجاحظ: إن الشعر صياغة وضرب من التصوير، حيث مبناه على اختصاص معرفة الصياغة بالمعنى الثاني بعلم البيان.
بقي هنا شيء لا بد من التنبيه عليه، وهو أن المعاني المعتبرة عند أرباب هذه الصناعة ثلاثة أنواع:
الأول: معاني النحو التي كان النظم الذي هو الأصل فيها عبارة عن توخي تلك المعاني على ما ٢٠ صرح به الشيخ في مواضع من دلائل الإعجاز، منها قوله ٢١: " إذا كان لا يكون النظم شيئا ٢٢ غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، كان من أعجب العجب أن يزعم زاعم أنه ٢٣ يطلب المزية في النظم ثم لا يطلبها في معاني النحو وأحكامه ".
1 / 187
انتهى كلامه، ولذلك، أي ولكون المعتبر في النظم هذه المعاني دون خصوصيات ١ الألفاظ فقد تتبدل ٢ الألفاظ ٣ ولا يتغير المعنى، وقد يتغير النظم ولا تغيُّر ٤ في الألفاظ. أما الأول فظاهر من اشتراك الكلامين كقولك: (جاء زيد، وذهب عمرو) ٥ في نظم مخصوص. وأما الثاني فلأنك إذا جعلت المبتدأ خبرا، والخبر مبتدأ في نحو قولك: (الذي جاء زيد) يتغير النظم ولا تتغير الألفاظ، وكذا إذا جعلت الصفة حالا أو العكس ٦، واعتبر هذا في نحو قوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبني ٧
والمراد من المعني المذكورة في أول الرسالة هذا النوع. دل على ذلك الشيخ، وملوم علم الضرورة أن يكون للفظة تعلق /ع٢١١أ/ بلفظة أخرى من غير أن يعتبر حال معنى / ٩٨ب/ هذه مع معنى تلك، ويراعى هناك أمر يتصل أحدهما بالأخرى كمراعاة (نبك) ٨ جوابا للأمر.
والنوع الثاني ٩: من الأنواع المذكورة: المعاني الوضعية المعبر عنها في عُرفهم بالمعاني الأولى. د
والثالث منها: المعاني المقصودة في المقام، والأغراض التي سيق لأجلها الكلام المعبر عنها بالمعاني الثواني، قال الشيخ بعد التفصيل المشبع في الفرق بين هذين النوعين ١٠: " وإذا عرفت هذه الجملة فهنا عبارة مختصرة وهي أن نقول: المعنى، ومعنى المعنى. نعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ، والذي تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى، ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى آخر، كالذي فسرت لك ". ثم قال بعد التمثيل والتوضيح ١١: " فالمعاني الأول المفهومة من أنفس الألفاظ، وهي المعارض والوشي والحلي وأشباه ذلك، والمعاني الثواني التي يومأ إليها بتلك المعاني هي تكسي تلك المعارض وتزين بذلك الوشي والحلي " انتهى كلامه. وهنا نكتة، وهي أن الوشي من الثياب يكون وشيا كان على اللابس أو كان قد خلع وترك غير ملبوس، وكذلك الحلي يكون حليا بحالها أن تلبس، وهذه المعاني التي دلوا بها على معان ثوان يكون وشيا وحليا ما دامت لباسا لتلك المعاني؛ فإذا خلعت عنها ونظر إليها منزوعة منها لم يكن وشيا ولا حليا. ولو قلت: (فصلان فلان مهزولة) وأنت لا تكني بذلك عن ١٢ غيره وأمثاله ١٣ للضيافة /س ٩٩أ/ لم يكن من معنى الوشي /ع ٢١١ب/ والحلي في شيء ١٤.
وبهذا التفصيل تبين أنّ مرادهم من المعاني التي يضيفون إليها عبارة (الصياغة)
1 / 188
المعاني الأُول. وقد نبهت فيما سبق على صياغتها على نحوين: أحدهما ما يكون بالتصرف في النظم بلا اتساع وتجوز في الكلام. والآخر ما يكون بنحو ١ من الاتساع والتجوز ٢ فيه مع قطع النظر عن حال النظم.
فإن قلتَ: هل تختلف ٣ دلالة المعاني الأُول في كلام مخصوص مركب من مواد معينة، على العاني الثواني بلا اتساع وتجوّز فيه لا من جهة المادة، ولا من جمة الهيئة..؟
قلتُ: نعم إذا تغير النظم وحال ٤ المواد٥ على حالها - على ما نقلناه عن الشيخ فيما تقدم.
فإن قلتَ: هلا تتغير حينئذ صورة الكلام الحاصلة بحسب النظم..؟
قلتُ: بلى إلا أن هذا التغيير لا يؤثر في الدلالة ولا يخرجها عن حد الوضع إلى حد العقل ٦.
فإن قلتَ: هل٧ يحصل بمجرد تغير النظم اختلاف في كيفية دلالة المعاني الأُول على المعاني الثواني.
قلتُ: نعم، ألا ترى أن (يسبُني) في قوله٨:
ولقد أمر على اللئيم يسبني
حال كونه صفة أظهر دلالة على المعنى٩ المقصود، وهو التمدح بالوقار منه حال كونه حالًا؟ ولقد أفصح عن هذا من قال١٠: ".. المرجح للوصفية على الحالية، إن جعله وصفا، أي لئيم عادته١١ المستمرة (يسبني) أفيد في المعنى /س ٩٩ب/ على الوقار " انتهى كلامه.
ومن هنا انكشف سر وهو أن الاختلاف في كيفية الدلالة غير منحصر١٢ في طريق المجاز والكناية كما توهمه صاحب المفتاح حيث قال ١٣: انصباب علم البيان إلى التعرض للمجاز والكناية بناء على ما قدمه من أن التفاوت في الدلالة إنما يكون بالدلالة ١٤ العقلية. وذلك بالطريقين المذكورين لأن قوله (يسبني) في الوجهين المزبورين على حقيقته. والتفاوت المذكور في الدلالة مرجعه إلى المعنى النحوي، لا إلى المعنى اللغوي. فافهم هذا السر الدقيق ١٥، فإنه بالحفظ حقيق.
والحمد لله على التمام، والصلاة والسلام على سيدالأنام، وعلى آله الكرام.
1 / 189