هو كلام الله للبشر على لسان الأنبياء، أو كشف الله نفسه للأنبياء، فالوحي كشف أو رؤية
Offenbarung . في الحالة الأولى يتم كشف الوحي للأنبياء بالكلمات، وفي الحالة الثانية يكشف الله عن نفسه وعن الوحي بالرؤية، وفي بعض الأحيان يتم الكشف بالوسيلتين معا. وتكون هاتان الوسيلتان إما حقيقة من الله، أو خيالا ووهما واختراعا من صنع الإنسان؛ إذ يتخيل النبي وهو في ساعة اليقظة أنه يسمع أو يرى شيئا لا وجود له في الواقع، وقد أوحى الله الشريعة إلى موسى بصوت حقيقي، وهو الصوت الوحيد الذي سمعه موسى في تاريخ النبوة كله، بل في تاريخ التوراة كلها، أما الصوت الذي سمعه النبي دانيال كصوت عالي
Géli
الذي تعود صموئيل سماعه، وكذلك الصوت الذي سمعه أبيملك فصوت خيالي سمعه وهو نائم، إلا أن بعض اليهود يرون أن الوصايا العشر لم تبلغ حرفيا، بل سمع موسى مجرد ضوضاء شديدة، لا تتميز فيها الكلمات، ثم أدركت الوصايا العشر إدراكا روحيا من خلال هذه الضوضاء، وهذا ما يفسر اختلاف النص في الخروج عنه في التثنية ويدل على أن الله قد أبلغ الوصايا العشر معنى لا لفظا. وهذا لا ينفي سماع صوت حقيقي، ثم التعبير عنه بالصوت الإنساني، ولكن يستحيل أن يعبر الصوت المخلوق عن ماهية الله ووجوده؛ وذلك لأن الروح الإنسانية هي التي تحرك الفم، فضلا عن أن اليهود لم يعرفوا من الله حتى ذلك الوقت إلا اسمه وأرادوا أن يوقنوا بوجوده، وبالطبع لا ينفع في ذلك الصوت المخلوق أو حركات الفم، بالإضافة إلى أن الشريعة تنفي صفة الجسمية عن الله حتى لا يحيد اليهود عن عبادته. على أن هذا الاختلاف في نص الوصايا العشر بين السفرين المذكورين، الخروج والتثنية، يرجع في الحقيقة إلى اختلاف في التدوين، وهو أمر يمكن معرفته وتقصيه بالنقد التاريخي للكتاب المقدس، كما سيفعل سبينوزا ويثبت أن موسى ليس هو مؤلف الأسفار الخمسة،
54
أو يمكن التوفيق بينها باستخدام التفسير المجازي لبعض التعبيرات.
وفضلا عن الصوت أو الكلام، ظهر الله أيضا ظهورا حسيا عندما أراد أن يظهر غضبه لداود، فأراه ملكا ممسكا بسيف، بالرغم من إنكار موسى بن ميمون ذلك، واعتباره مجرد حلم، كما كشف الله ليوسف نصره باستعمال بعض الصور الذهنية من مخيلة النبي، لا باستعمال رؤية حقيقية، كما كشف ليشوع عونه لليهود في المعركة بالرؤى والكلمات معا، فأراه ملكا قابضا على سيف على رأس الجنود، مؤيدا بالكلمات في حركاته واتجاهاته، وكشف لأشعيا أيضا بعض المظاهر الحسية، وأخبره بترك الشعب للعناية الإلهية، وتصور النبي الله مستويا على عرش عال، في حين لطخ الإسرائيليون أنفسهم بالوحل، وغاصوا في الدخان. رؤية موسى وحدها كانت بلا رموز، فقد كان موسى كليم الله.
ولكن هناك أيضا وسيلة للاتصال المباشر دون الاستعانة بمظهر حسي، صوتا كان أم جسما، وهي الوسيلة التي يخبرنا بها الله عن ماهيته، وهذا يقتضي وجود روح غير عادية، ولم يصل مخلوق إلى هذه الدرجة العالية إلا المسيح الذي اتصل بالله اتصال الروح بالروح، فصوت المسيح هو صوت الله الذي سمعه موسى من قبل، وحكمة الله التي تفوق الحكمة الإنسانية قد تجسدت في المسيح، وبذلك يصبح المسيح هو طريق الخلاص كما كانت شريعة موسى من قبل. وباستثناء المسيح لم يدرك نبي آخر إلا بالمخيلة باستخدام الكلام أو الصور الحسية؛ ولذلك لا تتطلب هبة النبوة إلا خيالا خصبا.
55
يرفض سبينوزا إذن كل نظريات الكنيسة حول طبيعة المسيح وشخصه، إله أم إنسان. إله وإنسان أم إنسان وإله. ولا يرى المسيح إلا في دوره المعرفي، وسيلة مباشرة للاتصال بالله لمعرفة ماهيته، وسيلة عند المسيح وعند الحواريين وعند الفيلسوف. فإذا كان موسى قد تحدث مع الله وجها لوجه، فإن المسيح قد اتصل بالله اتصال الروح بالروح. المسيح طريق للمعرفة وليس مسيحا شخصيا أو مسيحا كونيا.
Bog aan la aqoon