فما أشد العنف الذي سيسمح الحاكم لنفسه عندئذ باستعماله ضد الرعايا! ولا أظن أن هذا القدر من التطرف قد خطر على بال أحد مطلقا. فيجب إذن أن نسلم بأن الفرد يحتفظ لنفسه بقدر كبير من حقه، وهو، بالتالي، قدر لا يعود رهنا بمشيئة الآخر، بل بمشيئته هو، ومع ذلك، فإذا أردنا أن ندرك إلى أي حد تمتد سلطة الدولة العليا وحقها، يجب أن نلحظ أن سلطتها لا تقتصر على استعمال القهر المرتكز على التخوين فحسب، بل تشمل كافة الوسائل التي تحمل الناس على طاعة أوامرها؛ فليس ما يميز الرعية هو الباعث على الطاعة، بل هو الطاعة ذاتها. ومهما كان الباعث الذي يدفع الإنسان إلى تنفيذ أوامر السلطة العليا - أعني الخوف من العقاب أو الطمع في الثواب أو حب الوطن أو أية عاطفة أخرى - فإنه يكون قد اتخذ قراره بمحض إرادته، ومع ذلك يظل خاضعا لأوامر السلطة العليا. وإذن فمن الواجب، إذا رأينا شخصا يفعل شيئا بمحض إرادته، أن نستنتج من ذلك على الفور أنه يسلك بناء على حقه، لا على حق من يمثل السلطة العليا في الدولة، فلنذكر دائما أنه يسلك بمحض إرادته ومشيئته، سواء أكان مدفوعا بالحب أم كان مضطرا خوفا من العقاب . ومن ثم فإن المرء ما إن يعترف للدولة بحق ما إزاء رعاياها، حتى يمتد هذا الحق بالضرورة ليشمل جميع الوسائل التي يقبل بها الرعايا سيادة هذه الدولة؛ وعلى ذلك فكل ما يفعله أحد أفراد الرعية تنفيذا لأوامر السلطة العليا، سواء كان يفعله، بدافع من الحب أو بفعل الخوف، أو كان صادرا عن الرجاء والرهبة معا (وهو الأغلب) أو عن عاطفة - مثل الاحترام - يجتمع فيها الإعجاب والرهبة أو بأي دافع آخر - أقول إن كل ما يفعله يكون بحق السلطة في الدولة، لا بحقه الخاص. ومن الممكن بلوغ هذه النتيجة نفسها دون عناء إذا أدركنا أن الطاعة ليست فعلا خارجيا، بل هي فعل داخلي للنفس، بحيث إن أكثر الناس خضوعا لسلطة فرد آخر هو من يشرع في تنفيذ أوامر هذا الآخر بنفس راضية تمام الرضا، وبالتالي تكون أقوى السلطات هي أكثرها سيطرة على نفوس رعاياها. ليست قوة السلطة بمقدار ما تثيره من خوف، وإلا كان رعايا الطاغية هم الذين يملكون أقوى سلطة لأنه يخشاهم إلى أبعد حد. ومن ناحية أخرى فإذا كان من الصحيح أن السيطرة على النفوس أصعب من السيطرة على الألسنة، فإن النفوس، مع ذلك، تقع إلى حد ما تحت سيطرة السلطة العليا التي تستطيع بمختلف الوسائل أن تجعل الأغلبية العظمى من الناس تعتقد وتحب وتكره كما تشاء هذه السلطة. وعلى ذلك، فإذا لم تكن هذه المشاعر على الإطلاق نتيجة مباشرة لأوامرها، فإنها تظل مع ذلك صادرة عن سلطة قدرتها، وعن توجيهها، أي عن حقها، كما تشهد التجربة في كثير من الأحيان، ولذلك ففي استطاعتنا أن نتصور - دون أي تناقض ذهني - أناسا لا يعتقدون ولا يحبون ولا يكرهون ولا يحتقرون ولا تدفعهم أية عاطفة إلا بتوجيه من السلطة العليا وحقها، على أننا مهما توسعنا في تصورنا حق من يمارس السيادة في الدولة وقدرته، فإن هذه السلطة لا يمكن على الإطلاق أن تتسع حتى تعطي أصحابها سلطة مطلقة تتيح لهم أن يفعلوا كل ما يشاءون، (وأظن أني قد برهنت على ذلك بما فيه الكفاية).
5
ولقد سبق لي أن ذكرت أنني لا أعتزم أن أعرض هنا للشروط التي يمكن أن تنظم بها السلطة بحيث تظل في أمن دائم، ومع ذلك سأذكر التعاليم التي أعطيت لموسى عن طريق الوحي حتى أبين ما أريد الانتهاء إليه في هذا الموضوع، وبعد ذلك سنفحص تاريخ العبرانيين وتقلباته حتى نرى ما هي التنازلات التي ينبغي أن تقدمها السلطة العليا لرعاياها حتى تضمن للدولة أعظم قدر من الأمن والازدهار.
يعتمد قيام الدولة أولا وقبل كل شيء على ولاء الرعايا وعلى فضيلتهم ومثابرتهم على تنفيذ الأوامر، كما يشهد العقل والتجربة بوضوح تام، ولكن ليس من السهل، بالمقدار نفسه، إدراك الطريقة التي ينبغي بها حكم الرعية لتظل على ولائها وفضيلتها؛ ذلك لأن الحكام والمحكومين على السواء بشر، أي كائنات تميل إلى ترك العمل والسعي وراء اللذة. وكل من عرف طبائع العامة الشديدة التقلب، يكاد ينتابه اليأس التام منها؛ إذ لا يحكمها العقل، بل تحكمها انفعالات النفس وحدها، كما أن افتقارهم التام إلى ضبط النفس يجعلها تنقاد بسهولة لمساوئ البذخ والطمع، وكل فرد منها يعتقد أنه الوحيد الذي يعرف كل شيء ويريد أن يفصل في كل شيء وفقا لهواه، وتبدو له الأشياء منصفة أو مجحفة، مشروعة أو غير مشروعة بمقدار ما يرى فيها من كسب أو خسارة له، ويحتقر أترابه غرورا بنفسه، ولا يقبل منهم أية نصيحة، ويتمنى الشر للآخرين ويتلذذ بوقوعه حسدا لمن هم أكثر منه شرفا أو غنى. تلك، على أية حال، أمور لا نحتاج فيها إلى مزيد من الحصر، إذ لا يجهل أحد الجرائم التي يدفع الناس إلى ارتكابها سأمهم من وضعهم الراهن، والرغبة في التغيير، والغضب الذي لا ضابط له، وكراهية الفقر، كما لا يجهل أحد مدى سيادة هذه الانفعالات على نفوسهم وإشاعتها الاضطراب فيها. وإنه لعمل شاق حقا أن تعمل الدولة ما من شأنه تجنب هذه الشرور، وإقامة سلطة تكفل القضاء على الخداع، وأن تقيم في كل مجال من الأنظمة ما يجعل الجميع - مهما كانت استعدادتهم الشخصية - يضعون المصلحة العامة فوق مصالحهم الخاصة. صحيح أن الضرورة قد دفعت الناس إلى بناء جهود كبيرة في سبيل تحقيق هذه الغاية، ولكن لم يحدث مطلقا أن وصلت الأمور إلى حالة أصبح فيها تهديد المواطنين لسلامة الدولة أقل خطورة من تهديد الأعداء الخارجيين، أو أصبح فيها من يمثلون السلطة العليا يخشون المواطنين أقل مما يخشون الأعداء الخارجيين. وأبلغ دليل على ذلك هو الإمبراطورية الرومانية، التي كانت دائما تنتصر على أعدائها، ولكن هزمها مواطنوها مرات عديدة ووضعوها في أسوأ المواقف، وخاصة في الحرب الأهلية بين فسباسيان وفتليوس. ويمكن الرجوع في ذلك إلى تاكيتوس الذي يصف في أول الكتاب الرابع من تاريخه مظهر المدينة المؤلم. وكذلك كان الإسكندر - على ما يقول كوينتوس كوريتوس في آخر الكتاب الثامن - يفضل أن يمدحه أعداؤه على أن يمدحه مواطنوه؛ لأنه كان يظن أن انهيار عظمته سيأتي على أيدي مواطنيه، وقد وجه إلى أصدقائه هذا الرجاء خشية من أن يلقى هذا المصير: «لو أمنتموني على مؤامرات الداخل ومكائد أعواني لواجهت مخاطر الحروب والمعارك دون تهيب. ولقد كان فيليب أكثر أمانا في ميدان المعركة منه في المسرح، فقد نجا من ضربات الأعداء، ولكنه لم يستطع أن يتجنب ضربات أعوانه. ولو أحصيتم من بين الملوك الآخرين الذين لقوا حتفهم غيلة، أولئك الذين قتلهم مواطنوهم، فستجدونهم أكثر ممن لقوا حتفهم على أيدي الأعداء» (انظر كوينتوس كوريتوس، الكتاب 9: 6). ولهذا السبب حاول الملوك الذين اغتصبوا السلطة قديما أن يؤمنوا أنفسهم بإقناع شعوبهم بأنهم من سلالة الآلهة الخالدة، وكانوا يعتقدون أنه لو عدهم رعاياهم وجميع الناس آلهة لا بشرا مثلهم فسيرضخون لإرادتهم، ويخضعون لهم بسهولة. وهكذا أقنع أوغسطس الرومان بأنه سليل أنياس، الذي كان يعتقده الناس ابنا لفينوس ويعدونه من بين الآلهة، وكان يريد «أن يعبده الناس ويقيموا له في المعابد صورة مقدسة وكهنة كبارا وصغارا» (انظر تاكيتوس، الحوليات، الكتاب الأول). وقد عظم الناس الإسكندر بوصفه ابن جوبتر، ويبدو أن ذلك لم يكن عن غرور منه، بل عن رغبة في التحوط كما يدل على ذلك رده على هجوم هرمولاوس عليه، فقال: «إنه لمضحك حقا أن يطلب مني هرمولاوس أن أكفر بجوبتر الذي اشتهرت بفضل نبوءته، أو يظن الناس أني المسيطر على إجابات الآلهة. لقد اعطاني جوبتر اسم الابن وقد قبلته (لاحظ ذلك جيدا) لمصلحة الأعمال التي أقوم بها، ولقد شاءت السماء أيضا أن يظنوني في الهند إلها! إن الشهرة هي التي تقرر مصير الحروب، وكثيرا ما حل الاعتقاد مكان الحقيقة» (انظر كوينتوس كويتوس، 8: 8). وبهذه الكلمات القليلة استمر ببراعة في إقناع الجهلة بألوهيته المدعاة، وفي الوقت نفسه كشف عن الدافع إلى هذا الادعاء. وقد فعل كليون هذا الشيء نفسه في خطابه إلى المقدونيين، الذي حاول فيه إقناعهم بالطاعة امتثالا لملكهم، فبعد أن مجد الإسكندر في حديثه، وأشاد بمزاياه، وألبس الادعاء بذلك ثوب الحقيقة، أخذ يعدد مزايا هذا الموقف قائلا: «لقد عبد الفرس ملوكهم كما لو كانوا آلهة، لا بدافع من الدين فحسب، بل بدافع من الفطنة. وأنا شخصيا سأركع على الأرض عندما يعطي الملك إشارة بدء الحفل، ومن واجب الآخرين، وخاصة الحكماء منهم، أن يفعلوا مثلي» (المصدر نفسه، 8: 5). ولكن المقدونيين كانوا على قدر وافر من الوعي، ولا يمكن أن يقبل الناس، ما لم يكونوا في إحدى درجات الهمجية، أن يخدعوا بمثل هذه الطريقة المكشوفة، وأن يتحولوا من رعايا إلى عبيد عاجزين عن تحقيق مصلحتهم الخاصة. ومع ذلك فقد نجح بعض الملوك بسهولة أكبر في إقناع الناس بأن لهم جلالا يعلو على البشر، وبأنهم ظل الله في الأرض، وبأن الله هو الذي ولاهم دون اقتراع عام أو موافقة الناس، وأن هناك عناية خاصة تحفظه، وعونا إلهيا يحميه. وعلى المنوال نفسه وجد بعض الملوك وسائل أخرى لتأمين سلطتهم، ولكني لن أتحدث عنها هنا لأنها خارجة عما أود البرهنة عليه، وسأذكر فقط كما قلت من قبل الوسائل التي كشفها الوحي الإلهي لموسى.
لقد ذكرنا من قبل، في الفصل الخامس، أن العبرانيين بعد خروجهم من مصر، لم يكونوا ملتزمين بأي تشريع لأمة أخرى، وكان من حقهم أن يضعوا قواعد جديدة، ويحتلوا ما يشاءون من الأراضي؛ ذلك لأنهم بعد تحررهم من اضطهاد المصريين الذي لا يطاق، لم يعودوا مرتبطين بأي عقد مع أية سلطة بشرية، واستعادوا حقهم الطبيعي على كل ما كان في نطاق قدرتهم، وكان في استطاعة كل فرد منهم أن يتساءل من جديد عما إذا كان يود الاحتفاظ بهذا الحق أو التخلي عنه وتفويضه إلى شخص آخر. واتباعا لنصائح موسى، الذي كان لديهم أعظم قدر من الثقة فيه، قرروا الخروج من هذه الحالة الطبيعية التي وجدوا أنفسهم فيها، وتفويض كل حقهم إلى الله وحده، لا إلى أية سلطة بشرية. وهكذا فإنهم، دون تردد، وبصوت واحد، وعدوا الله بأن ينفذوا أوامره، وبألا يعترفوا منذ ذلك الحين بأي قانون إلا ما يقرره الله نفسه بوحي نبوي، هذا الوعد، أو هذا التحويل للحق إلى الله، قد تم على النحو نفسه الذي ذكرنا من قبل أنه يحدث في حالة المجتمع العادي، عندما يقرر الناس التخلي عن حقهم الطبيعي، فقد تخلى العبرانيون عن حقهم الطبيعي وفوضوه إلى الله (انظر الخروج، 24: 7)
6
وذلك بعهد صريح وقسم، أعطوهما بكامل حريتهم دون أن يكونوا قد خضعوا لقوة قاهرة أو للخوف من وعيد. ومن ناحية أخرى فإن الله، لكي يضمن العهد ويجعله راسخا آمنا من كل خداع، لم يبرم معهم شيئا إلا بعد أن شرعوا بهذه القدرة العجيبة التي أمكن بفضلها وحدها تحقيق الخلاص لهم في الماضي وفي المستقبل (انظر الخروج، 19: 4-5).
7
وإذن فاعتقاد العبرانيين بأنهم يحتاجون دائما في بقائهم إلى عناية القدرة الإلهية، هو الذي جعلهم يفوضون الله كل قدرتهم الطبيعية على البقاء، التي ربما كانوا يعتقدون قبل هذا التفويض أنهم هم الذين يملكونها. وبالتالي فوضوا له جميع حقوقهم. ومنذ ذلك الحين أصبحت سلطة الحاكم عند العبرانيين لله وحده، وأصبحت الدولة التي قامت على هذا النحو هي وحدها التي تستحق، بفضل هذا العهد، اسم مملكة الله، كما أصبح الله يسمى بحق ملك العبرانيين، وبالتالي كان أعداء هذه الدولة أعداء الله، كما أن من أراد من المواطنين اغتصاب السلطة، أصبحوا مدانين بجريمة الطعن في سلطة الله العلية. وأخيرا، أصبح تشريع الدولة هو مجموع قوانين الله وأوامره، في هذه الدولة، إذن كان القانون المدني والدين، الذي يتلخص كما رأينا في طاعة الله، شيئا واحدا. وبعبارة أخرى لم تكن عقائد الدين تعاليم بل مجموعة من القوانين والأوامر، وكانت التقوى تعد عدالة، والفسوق جرما وإثما، فمن ترك دينه لا يعود مواطنا، ويصبح لهذا السبب وحده عدوا، ومن ضحى بحياته في سبيل الدين يكون شهيدا للوطن، فلم يكن هناك أي فرق بين القانون المدني والدين؛ ولذلك أمكن تسمية دولة العبرانيين بالحكم الإلهي (تيوقراطية)؛ إذ إن المواطنين لم يكونوا ملتزمين بالخضوع لأي تشريع سوى ما أوحى الله به، ومع ذلك يجب القول بأن هذا الوصف نظري أكثر منه واقعي، فقد احتفظ العبرانيون - كما سنبين فيما بعد - بحقهم في حكم أنفسهم، ويتضح ذلك في الوسائل التي استخدمت والقواعد التي اتبعت في إدارة الدولة، وهذا ما سأعرضه الآن.
إن العبرانيين لم يخولوا حقهم إلى شخص آخر، بل تخلى عنه الجميع كما هو الحال في النظام الديمقراطي، وصاحوا بصوت واحد: «سنفعل كل ما يطلبه الله منا.» (دون أي وسيط) وبناء على هذا العهد ظل الجميع متساويين تماما؛ فكان لهم جميعا الحق نفسه في مخاطبة الله، وفي تلقي قوانينه وتفسيرها، وكانوا يشاركون جميعا بوجه عام في إدارة شئون الدولة؛ ولهذا السبب كان الجميع، في البداية، يقصدون الله ليسمعوا أوامره، ولكنهم في أثناء هذه الحضرة الأولى فزعوا فزعا شديدا، وآثار فيهم كلام الله من القلق ما جعلهم يظنون أن نهايتهم قد حانت، فتوجهوا إلى موسى للمرة الثانية وهم يرتجفون وقالوا: «ها نحن قد استمعنا إلى الله وهو يحدثنا في النار، وليس هناك ما يدعونا لأن نرغب في الموت. فهذه النار العظيمة ستلتهمنا يقينا، وسنموت حتما لو سمعنا صوت الله مرة أخرى. وإذن فلتذهب أنت ولتستمع إلى كل ما يقوله الله لك وتبلغنا إياه (أنت لا الله) وسنطيعك في كل ما سيقوله الله لك وسنعمل على تنفيذه.» وبهذا الكلام أبطلوا العهد الأول وفوضوا إلى موسى كلية حقهم في التشاور مع الله وتفسير أوامره، ولم يعد وعدهم منصبا على طاعة كل ما يبلغهم الله به، كما كان الحال من قبل، بل على كل ما سيتلقاه موسى من الله (انظر التثنية، 5: الوصايا العشر؛ 18: 15-16).
Bog aan la aqoon