- بسم الله الرحمن الرحيم -
سئل الشيخ الإمام العالم العلامة البحر الفهامة وحيد عصره وفريد دهره أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن الشيخ مجد الدين عبد السلام ابن تيمية رحمهم الله تعالى:
عن رجل شريف متمسك بالسنة، لكن يحصل له أحيانا ريبة في تفضيل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ﵃، فيغلب على ظنه أن عليا ﵁ أفضل منهم، ويستدل بقوله ﷺ: «أنت مني وأنا منك»، وبقوله ﷺ: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»، وهارون كان من موسى بمنزلة رفيعة ولم يكن عنده أعز
1 / 26
منه، وبقوله ﷺ يوم خيبر: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه» فأعطاها لعلي،
1 / 27
وبقوله ﷺ: «من كنت مولاه فعلي مولاه» "اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأدر الحق معه كيف ما دار"، وبقوله يوم غدير خم: «أذكركم الله في أهل بيتي»، وبقوله تعالى: ﴿فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم﴾ الآية،
1 / 28
وبقوله تعالى: ﴿هذان خصمان اختصموا في ربهم﴾ وبقوله ﷾: ﴿هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا﴾ ويزعم أن هذه السورة نزلت في علي ﵁. أفتونا مأجورين.
1 / 29
الجواب:
الحمد لله رب العالمين. يجب أن تعلم أولا أن التفضيل يكون إذا ثبت للفاضل من الخصائص ما لا يوجد للمفضول، فإذا استويا في أسباب الفضل وانفرد أحدهما بخصائص لم يشركه فيها الآخر كان أفضل منه. وأما ما كان مشتركا بين الرجل وغيره من المحاسن، فتلك مناقب وفضائل ومآثر، لكن لا توجب تفضيله على غيره. وإذا كانت مشتركة فليست من خصائصه.
وإذا كان كذلك، ففضائل الصديق ﵁ التي ميز بها خصائص لم يشركه فيها أحد، وأما فضائل علي ﵁ فمشتركة بينه وبين غيره. وذلك أن قوله: «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر، إن أمنّ الناس علي في
1 / 30
صحبته وذات يده أبو بكر» وهذا الحديث فيه ثلاث خصائص لم يشرك أبا بكر فيها غيره:
[الأولى]: قوله ﷺ: «إن أمنّ الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر» بيّن فيه أنه ليس لأحد من الصحابة عليه من حق في صحبته وماله مثل ما لأبي بكر ﵁.
الثانية: قوله: «لا تبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر»، وهذا تخصيص له دون سائر الصحابة. وقد أراد بعض الكذابين أن يروي لعلي ﵁ مثل ذلك، لكن الصحيح والثابت لا يعارض بالضعيف الموضوع.
الثالثة: قوله: «لو كنت متخذا خليلا من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلا» فإنه نص في أنه لا أحد من البشر يستحق الخلة لو كانت ممكنة إلا أبا بكر، ولو كان غيره أفضل منه لكان أحق بها لو كانت واقعة.
1 / 31
وكذلك أمره لأبي بكر أن يصلي بالناس مدة مرضه من خصائصه التي لم يشركه فيها أحد. ولم يأمر النبي ﷺ أمته أن تصلي خلف أحد في حياته بحضرته إلا خلف أبي بكر.
وكذلك تأميره له من المدينة على الحج ليقيم السنة ويمحو أثر الجاهلية، فإن هذا من خصائصه.
وكذلك قوله في الحديث الصحيح: «ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي» ثم قال ﵊: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»
وأمثال هذه الأحاديث كثيرة تبين أنه لم يكن في الصحابة من يساويه.
1 / 32
وأما قوله ﷺ: «أنت مني وأنا منك»، فهذه العبارة قد قالها لغيره من المؤمنين، كما قالها ﵇ لجُلَبيب الذي قتل عدة من الكفار: «هذا مني وأنا منه».
1 / 33
وفي الصحيحين: «إن الأشعريين إذا كانوا في السفر أو نقصت نفقة عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان معهم في ثوب واحد ثم قسموه بينهم بالسوية، هم مني وأنا منهم». فقد جعل الأشعريين أبا موسى وأبا عامر وغيرهما منه وهو منهم، كما قال لعلي: «أنت مني وأنا منك».
1 / 34
وقال تعالى: ﴿والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم﴾ وقال تعالى: ﴿ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم﴾ وقال تعالى: ﴿ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم﴾.
وقال ﷺ: «من غشنا فليس منا، ومن حمل علينا السلاح فليس منا» ونحو ذلك.
1 / 35
وهذه العبارة تستعمل في النوع الواحد فيقال: "هذا من هذا" إذا كان من نوعه، فكل من كان من المؤمنين الكاملي الإيمان فهو من النبي ﷺ والنبي منه.
وقوله ﷺ في قصة بنت حمزة: «أنت مني وأنا منك» وكقوله لزيد بن حارثة: «أنت أخونا ومولانا» ومعلوم أن
1 / 36
هذا ليس مختصا بزيد، بل كل من كان من مواليه يطلق عليه هذا الكلام لقوله تعالى: ﴿فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم﴾. فكذلك قوله لعلي: «أنت مني وأنا منك»، وليس ذلك من خصائصه، بل من كان موافقا للنبي ﷺ في كمال الإيمان كان من النبي ﷺ والنبي منه.
وكذلك قوله: «لأعطين الراية رجلا يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله» هو من أصح الأحاديث وهو أصح حديث روي في فضائل علي ﵁، أخرجاه في الصحيحين. وقد زاد فيه بعض الكذابين أن الراية أخذها أبو بكر وعمر فهربا. وفي الصحيح أنه لما قال ﷺ: «لأعطين الراية رجلا» قال عمر: "ما أحببت الإمارة إلا يومئذ" واستشرف لها عمر وغيره. ولو جاء
1 / 37
منهزما لما استشرف لها، فهذا الحديث رد على الناصبة الواقعين في علي ﵁، تبًّا لهم فإنه مؤمن تقي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. ولكن ليس هذا من خصائصه، بل كل مؤمن كامل الإيمان يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله. وقد قال تعالى: ﴿فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه﴾، وهؤلاء الذين قاتلوا أهل الردة، وإمامهم أبو بكر.
وفي الصحيح أنه قال ﷺ للأنصار: «والله إني لأحبكم».
1 / 38
وفي الصحيح أن عمرو بن العاص سأله: أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة». قال: فمن الرجال؟ قال: «أبوها». وهذا فيه أن أبا بكر أحب الرجال إليه؛ وهذا من خصائصه ﵁.
وكان أسامة بن زيد يسمى الحِب بن الحب، لحب النبي ﷺ له ولأبيه. وأمثال هذه النصوص التي تبين أنه ليس كل شخص عرف أنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يجب أن يكون
1 / 39
أفضل الخلق، فإن هذا الوصف ثابت لخلائق كثيرين، فليس هذا من خصائص الشخص المعين.
وأما قوله: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» فحديث صحيح، وهذا قاله في غزوة تبوك لما استخلفه
1 / 40
على المدينة، فطعن بعض الناس فيه وقالوا: إنما استخلفه لأنه يبغضه، وكان النبي ﷺ إذا خرج من المدينة استخلف رجلا من أمته، وكان يكون بها رجال من المؤمنين القادرين يستخلفه عليهم. فلما كان عام تبوك لم يأذن لأحد من المؤمنين القادرين في التخلف، فلم يتخلف أحد بلا عذر إلا عاص لله ورسوله. فكان ذلك استخلافا ضعيفا، فطعن فيه المنافقون بهذا السبب. فبين له النبي ﷺ أني لم أستخلفك لنقص قدرك عندي، فإن موسى استخلف هارون وهو شريكه في الرسالة، أفما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى فتخلفني في أهلي كما خلف هارون أخاه موسى؟ ومعلوم أنه استخلف غيره قبله، وكان أولئك منه بهذه المنزلة، فلم يكن هذا من خصائصه. ولو كان هذا الاستخلاف أفضل من غيره لم يخف ذلك على علي ﵁ ولم يخرج إليه وهو يبكي ويقول: "أتخلفني في النساء والصبيان؟ "
ومما بين ذلك أنه بعد هذا الاستخلاف أمّر عليه أبا بكر عام تسع.
1 / 41
فإن هذا الاستخلاف كان في غزوة تبوك - في أوائلها - فلما رجع من الغزو أمر أبا بكر على الحج ثم أردفه بعلي، فلما لحقه قال: "أمير أو مأمور؟ " قال: "بل مأمور"، فكان أبو بكر يصلي بعلي وغيره ويأمر على علي، وعلي وغيره من الصحابة يطيعون أبا بكر. وعلي على نبذ العهود التي كانت بين النبي ﷺ وبين المشركين. لأن العادة كانت جارية أنه لا يعقد العهود ولا يحلها إلا رجل من أهل بيته، ولهذا قال ﷺ: "لا يبلغ عني العهد إلا رجل من أهل بيتي"، للعادة الجارية. ولم يكن هذا من خصائص علي ﵁، بل أي رجل من عترته نبذ العهد حصل به المقصود، لكن علي ﵁ أفضل بني هاشم بعد رسول الله ﷺ، فكان أحق الناس بالتقدم من سائر الأقارب. فلما أمر أبا بكر بعد قوله: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» علمنا أنه لا دلالة فيه على أنه بمنزلة هارون من كل وجه، إذ لو كان كذلك لم يقدم عليه أبو بكر لا في الحج ولا في الصلاة، كما أن هارون لم يكن موسى يقدم عليه غيره. وإنما شبهه به في الاستخلاف خاصة، وهذا أمر مشترك بينه وبين غيره.
1 / 42
وقد شبه النبي ﷺ في الصحيح أبا بكر بإبراهيم وعيسى، وشبه عمر بنوح وموسى لما أشارا عليه في أسرى بدر هذا بالفدى وهذا بالقتل، وهذا أعظم من تشبيه علي بهارون، ولم يوجب ذلك أن يكونا بمنزلة أولئك الرسل مطلقا، ولكن تشابها بالرسل هذا في شدته في الله وهذا في لينه في الله، وتشبيه الشيء بالشيء لمشابهته به من بعض الوجوه كثير في الكتاب والسنة وكلام العرب.
وأما قوله: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار" فهذا الحديث ليس في شيء من الأمهات؛ إلا في
1 / 43
الترمذي وليس فيه إلا: «من كنت مولاه فعلي مولاه». وأما الزيادة فليست في الحديث. وقد سئل عنها الإمام أحمد فقال: الزيادة كوفية. ولا ريب أنها كذب لوجوه. أحدها أن الحق لا يدور مع شخص معين بعد النبي ﷺ، لا مع أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ﵃، لأنه لو كان كذلك لكان بمنزلة النبي ﷺ يجب اتباعه في كل ما يقوله، ومعلوم أن عليا كان ينازعه أصحابه وأتباعه في مسائل كثيرة ولا يرجعون فيها إلى قوله، بل فيها مسائل وجد فيها نصوص عن النبي ﷺ توافق قول من نازعه، كالمتوفى عنها زوجها وهي حامل. فإن عليا ﵁ أفتى بأنها تعتد أبعد الأجلين، وعمر وابن مسعود رضي
1 / 44
الله عنهما وغيرهما أفتوا بأنها تعتد بوضع الحمل، وبهذا جاءت سنة النبي ﷺ. وكان أبو السنابل يفتي بمثل قول علي - رضي الله
1 / 45