وجد الاسترقاق عند هذه الأمة منذ الأزمان القديمة جدا، وكان الأرقاء في زمن أنبياء بني إسرائيل معدودين من أصول الثروة وأسباب الغنى عند أولئك الرؤساء، الذين كان دأبهم الحل والترحال والضرب في أطراف البلاد، وكان مقام الأرقاء كمقام الماشية، ولكن كما أن صاحب الدابة لا يرضى بتحميلها فوق طاقاتها، وكما أن صاحب الناقة لا يجهدها أكثر مما في استطاعتها، كذلك كان شأن السيد الحكيم المتبصر، فإنه ما كان يلزم رقيقه بعمل يزيد عن الحد، وكان للأرقاء عندهم بعض الحقوق، فكان لهم أن يستريحوا سبعة أسابيع في السنة، ولا يجوز للرجل أن يضرب عبده ضربا مبرحا مرهقا، ومن فعل ذلك أوخذ بعقاب فيه بعض الشدة، وكذلك من بتر الرقيق أو كسر له عضوا أو سنا. ولهذا يصح القول بأن العبرانيين كانوا يعاملون الأرقاء معاملتهم أنفسهم، وكان كثيرا ما يتفق للمولى أن يميز إحدى إمائه، فيتخذها حليلة له، بل الأغرب من ذلك أن العبد الذكر كان يتاح له في بعض الأحيان أن يتزوج ببنت مولاه، وذلك حينما لا يكون للمولى أولاد ذكور، وفوق ذلك، فإن العبرانيين كانوا يتسرون غالبا بجواريهم.
وخلاصة القول أن الاسترقاق عند العبرانيين، وعند غيرهم من سائر أمم المشرق كان مقرونا بالتلطف والتعطف، اللذين لا يرى لهما مثيل في بلاد اليونان، ولا في مدينة رومة، وفضلا عن ذلك فقد ورد بشريعة سيدنا موسى عليه السلام أن العبد إذا استحق القصاص فلا يصدر الحكم عليه إلا من القاضي دون سواه، فكان في ذلك احتياط دقيق ورحمة بأولئك المساكين؛ لئلا يكونوا عرضة لقساوة الموالي، وغرضا لسهام أهوائهم.
9
الفرع السادس: في الاسترقاق عند الإغريق
10
كان الاسترقاق أمرا شائعا في جميع بلاد اليونان، ولم يكن في الفلاسفة الكثيرين الذين تفتخر بهم هذه البلاد من أنكر الاسترقاق أو اعتبره مخالفا للعدالة والآداب ومكارم الأخلاق، بل إن أرسطو نفسه أيد صحته، وأثبت مشروعيته، معتمدا في رأيه على اختلاف السلائل البشرية وتنوع أصناف بني آدم، وقد عرف الرقيق بأنه «آلة ذات روح أو متاع قائمة به الحياة.»
11
ثم قسم الجنس البشري إلى قسمين؛ وهما: «الأحرار والأرقاء بالطبع».
وكان اليونان يقسمون الرقيق إلى صنفين متباينين؛ فالصنف الأول سكان الأقطار التي افتتحوها، وغلبوا أهلها على أمرهم، وكان هؤلاء الأرقاء تابعين لأرضهم، ومعتبرين كجزء منها، والصنف الثاني أرقاء البيع والشراء، وهؤلاء كان للموالي عليهم حق السيادة المطلقة.
وأغلب الأرقاء كانوا من الفريق الثاني، وما كان للمرأة التي تباع أو تؤسر أن تمتنع عن الافتراش لسيدها، وكانوا يقولون بحرية من يولد من مثل هذه المخالطة، ولكن ذلك كان وصمة عليهم، وموضع معرة تدنسهم، وسببا في سقوط اعتبارهم عن غيرهم.
Bog aan la aqoon