إنهم لم يجيئوا ليتفرجوا على براعة شاب يصارع ثورا في حدود أن يظل حيا ولو لم يصرعه، إنهم جاءوا لينيبوا عنهم بطلا، بطولته أن يواجه المخاطر وينتصر عليها؛ ولهذا فمتعتهم الغامرة ليست هي أن ينقذ نفسه بتجنب المأزق الخطر، ولكن أن يضع نفسه في المأزق الخطر ويخرج منه سالما، أن ينتصر على الخطر بمواجهته وليس بتجنبه؛ فهم في حياتهم يفعلون هذا، هم دائما يتجنبون الخطر ويهربون من المأزق مؤثرين أن يوصفوا بكلمة الجبن أو الرعونة مع النجاة أو البقاء أحياء، وهنا يريدون أن يفعلوا ما يحلمون بفعله ولا يستطيعون، أن يوصفوا بالبطولة ولو كان فيها مواجهة متعمدة للخطر وتعرض أكيد للهلاك.
ولهذا فالمصارع في إسبانيا ليس مجرد نجم رياضي؛ إنه أولا وأساسا بطل شعبي وأداة الشعب للبطولة، وكما لا يمكن أن تقبل الناس من بطلها السياسي أن يساوم أو يهادن، فهي أيضا لا تقبل أبدا من مصارعها أن يقوم بعمل ليس فيه بطولة. يجب أن يرتدي أجمل الثياب ويبدي إعجابه علانية بأجمل السيدات، وأن يتصرف دائما وأبدا كبطل. هذه الوقفة التي ينفخ فيها صدره ويقذف برأسه إلى الخلف رافعا ذقنه في ترفع وكبرياء مستفزا الثور، هذه الوقفة التقليدية لم تأت عبثا، إنها وقفة البطل. هذه المرارة القاتلة إذا هزم أو فشل في إظهار بطولته لم تأت عبثا أيضا؛ فهي ليست هزيمة شخص عادي، إنها هزيمة بطل.
ومسكين ذلك الميتادور الذي كان لا يزال يعلق نفسه من ذراعه بحافة العارضة، حتى الإشفاق لم يكن يحظى به، بل ولا نظرة التشفي. لم يكن منك إلا الإهمال التام غير المتعمد وكأنه مسح من الوجود، وكأنه انتهى دون أن يخلف أثرا، كأنه مات، بل حتى الموتى يبقى لهم بعض الأثر، أما هذا فلم يكن قد تبقى له عند الجمهور شيء، لا شيء بالمرة تبقى.
الفصل التاسع
ونفخ في الأبواق ودخل الثور الثالث.
كانت «الأرينا» لا تزال تعاني من حالة الركود المخيمة، وظلت كذلك لا حيت الثور ولا حيت الميتادور، ومرت أدوار المصارعة الأولى كما يمضي الشيء الروتيني. انتباه حقيقة وتحديق ومتابعة ولكن دون حماس شديد، أحيانا تتصاعد آهة إعجاب بحركة من حركات «الميوليتا»، ولكنها أبدا لا تشمل الساحة كلها وتبقى دائما داخل حيز محدود.
إلى أن حدث شيء لم يكن يتوقعه أحد.
كان الثور مقبلا مهاجما، وفي آخر لحظة أزاح الميتادور العباءة الحمراء كالعادة من جانبه إلى أمامه لينتهي الهجوم إلى لا نتيجة، وكالمعتاد أيضا بدأ يدور حول نفسه ليواجه الثور الذي كان قد توقف عن اندفاعه واستدار ليعود، في تلك اللحظة انزلقت قدم المصارع فوق الأرض الرملية التي تكفلت المصارعات السابقة بإثارة تربتها، وسقط الشاب على الأرض.
وفي أجزاء قليلة جدا من الثانية حدثت أشياء كثيرة مهولة؛ فعلى أثر سقطته تصاعدت من الثلاثين ألف حنجرة شهقة هلع تثير وحدها الهلع في القلوب. وكان الثور يستدير، وما إن لمح خصمه ملقى على الأرض على بعد أمتار قليلة منه حتى أقبل نحوه ككتلة شر عاتية موجهة، بينما من خلف العوارض الخشبية أسرع أكثر من ميتادور يلوح للثور الهائج المقبل كي تتكاثر أمامه الألوان الحمراء وتصرف انتباهه عن الزميل المطروح أرضا، ولكنها محاولات فشلت في صرف انتباه الثور. وفقط حين أصبح بينه وبين الشاب أقل من مترين كان الأخير بالكاد قد نجح في الوقوف وتعريض العباءة له، وهكذا أنقذ في آخر لحظة، بينما الجمهور لا يزال واقفا على أطراف انتباهه وشعوره هلعا، وقبل أن يصفق أحد لنجاة المصارع أو حتى يعود إلى جلسته كان قد حدث شيء آخر!
فبعد مرة أو مرتين والثور يهاجم والميتادور يتنحى، حدث أن فقد الشاب توازنه مرة ثانية فتهاوى، وقبل أن يسقط على الأرض كانت رأس الثور هناك إذ لم يكن قد ابتعد، واعتقد الجميع أنها النهاية هذه المرة، وقبل أن تشيح أي سيدة بوجهها ويزدرد أي رجل ريقه، كان الثور قد دفع الشاب برأسه ليرفعه إلى أعلى وليسقط أمامه ويفترسه بعد هذا، ولكن بدلا من أن يسقط الشاب إلى الأمام، بدفعة حظ واهية سقط إلى الخلف فوق ظهر الثور، وما لبث أن انزلق إلى الأرض إلى حيث استدار الثور، وتجمع الزملاء في غمضة عين يحيطون بالمصارع ويدرءون عنه الخطر، ولكن الشاب حين سقط ما كاد يلامس الأرض حتى كان قد اعتدل وكأنما ب «زمبرك»، وحتى كان ممسكا بالعباءة في يده يحاور الثور مرة أخرى، ويداوره وكأن شيئا لم يحدث.
Bog aan la aqoon