وكذلك لم يتخذ من قواعد العلم كساء مزركشا يخشى عليه اللابس أن تنكسر قصبة فيه إذا طاوع عقله في الحركة بعض المطاوعة، ولم يتخشب مع الكساء المزركش، على سنة الوقار أو على سنة الجمود.
فقد كان على اطلاع واسع في العلوم التجريبية كاطلاعه على بحوث التاريخ والاجتماع، ولكنه كان في سماحة الفكر وسهولة النظر بحيث يحس كما يفهم أن العقل قد يكون «علميا» وهو يخوض في كلام لم يقرره العلم ولم يقرر نقيضه كذلك.
ولهذا كان «جرجي زيدان» يبيح لفكره أن ينظر في «علم الفراسة الحديث» وليس هو من العلوم التي فرغت التجربة من قوانينها كما فرغت - مثلا - من قوانين الحركة.
وكان يبيح لفكره أن ينظر في أصول اللغات وأصول الكلمات وأصول القواعد اللغوية دون أن يكون للعلم حكم قاطع في كل أصل من تلك الأصول.
فإن لم يكن ما يقوله علما مصبوبا في قالبه الأخير، فهو - بلا شك - مادة علمية يجب أن تتهيأ لقالبها على شكل من الأشكال، ويمتنع علما أن تترك بغير التفات إليها؛ فإن عمل العلم في تشكيل المادة قبل ثباتها على شكل من الأشكال أوجب من صب القوالب على الشكل الأخير، وأوجب من ذلك ألا يكون «الشكل الأخير» هذا هو كلمة الختام، وهو الحكم الذي لا يقبل النقض والتنقيح.
وقد كتب «جرجي زيدان » في كل مسألة من مسائل عصره الاجتماعية والفلسفية والأدبية، فكان في كل منها بسيطا تلك البساطة التي عهدناها منه وهو يتكلم عن أسلوب «البكري» أو عن كتاب فلسفة الجمال، أو عن فلسفة التفاؤل والتشاؤم، ولكنه قال فيها جميعا رأيه الذي لم يناقضه العلم ولم يأت بما هو أثبت منه على اختلاف النظر في الأمور.
ولسنا نحسب أن تناول الدراسات المختلفة بمثل هذه البساطة مسموح به لكل صاحب قلم مشتغل بالبحث والتفكير.
إنما يسمح به - في غير حاجة إلى الرخصة من أحد - للعقل الذي يستمد بساطته من مصدر واحد: وهو مصدر القوة التي هي أكبر من قيود البحث ومراسم الدراسة، وهي في طمأنينتها إلى قدرتها على سبك القوالب وصهر المادة التي تملؤها تعالج المادة في دور التشكيل كما تعالجها في قالبها الأخير.
فرح أنطون
مضت عدة سنوات على احتجاب ذلك الطيف الذي كان كثيرا ما يرى في هذه العاصمة غاديا أو رائحا في خطوة وئيدة وعزلة بعيدة، كأنما يسري من حيث لا يعلم الناس إلى حيث لا يعلمون، ذاهب الطرف أنى سار كالعابر من عالم لا يذكره إلى عالم لا يرجوه، غير مشغول بأمر الطريق، على وجهه سماحة تظللها سحابة من أسف شجي ولوعة مخامرة، وفي عينيه حيرة قرت من فرط القلق فعادت في رأي العين طمأنينة راضية، وعلى شفتيه صمت مصر كظيم، يصف لك من صاحبه هاتفا دعا ثم ألحف داعيا مناديا حتى مل وفتر، فلم يستمع إليه مصيخ ولم يجب إلى صوته صدى، فأطبق شفتيه إطباقة من لا ينوي افترارا ولا يهم بصيحة ولو علقت النار بردائه.
Bog aan la aqoon