56

وسألني مرة: «ألا تصدق قول القائل: إن الناس في طلب الدين حتى يصلوا إلى العلم، وفي طلب العلم حتى يصلوا إلى المال؟»

وقبل أن أجيب سؤاله، ولعله سأله وهو لا ينتظر جوابي عليه، قال: «إنك إن صدقته أو لم تصدقه تستطيع أن تكون على يقين من حقيقة حسابية لا خلاف عليها وهي: اجمع الدراهم والدنانير تجمع نفسها!» «ولا أعرف أحدا من كبار الأدباء الذين عرفتهم في أيام نشأتي قد عناه أمر عملي الذي أعول عليه في معيشتي غير اثنين: أحدهما الدكتور صروف، والآخر محمد المويلحي الذي رشحني للعمل بديوان الأوقاف.»

فلما علم الدكتور صروف أنني استقلت من العمل بالمدرسة الإعدادية، فكر مليا ثم قال: «إنني أعلم أن القيادة العسكرية تبحث عن مندوبين صحفيين وتفضل أن يكونوا من المسلمين؛ لأنها تنوي أن تندبهم من حين إلى حين للسفر إلى خطوط القتال وراء القناة وفي حدود سيناء، ولا تريد أن يكونوا متهمين في رواياتهم عن مناعة تلك الخطوط، إن كانوا على غير دين الترك المغيرين على البلاد.»

فلما تبين مني النفور من القيام بهذه المهمة الصحفية مع وفرة العائد منها، قال: «أرى أن شعورك غير مستريح إليها.» وقالها بالإنجليزية.

فأجبته: «نعم؛ فإن المسألة إن كانت من إحدى جهتيها غارة تركية على حدود مصر، فهي من الجهة الأخرى حرب بين الجيش التركي وجيش الاحتلال!»

قال: «فليكن لك رأيك وشعورك.» ثم سألني أن أعود إليه بعد يوم لأمر لا علاقة له بهذه البعثة، فإذا به قد اتصل بمدير مدرسة وادي النيل ليبلغه أنه يرشح لمدرسته معلمين يعرف كفايتهما الأدبية وصلاحهما للتدريس، ويسأله أن يزوره غدا ليلقاهما عنده إذا شاء.

أما اختياره لهذه المدرسة بذاتها، فقد كان سببه - كما علمنا بعد ذلك - أن له «أطيانا» بإقليم الفيوم، وأنه عرف عبد الله وهبي باشا لهذا السبب معرفة وثيقة يوم كان عبد الله باشا كبيرا للمهندسين المشرفين على الري في ذلك الإقليم، وقد ذكر لنا أن الباشا كان حسن العناية بأطيانه، ولم يذكر لنا أنه هو - أي الدكتور صروف - كانت له في تزكية الباشا عند كبار الرؤساء الإنجليز، ودفع الوشاية التي عرضته للمحاكمة، وانتهت باستقالته دون تقديمه إلى مجلس التأديب.

وقد كان من جراء ذلك أن عبد الله وهبي باشا لم يأمل خيرا في وظائف الحكومة لأبنائه، فأنشأ المدرسة الثانوية باسم «وادي النيل» لابنه الأكبر، واتجه أبناؤه الآخرون إسماعيل ويوسف وعباس للعمل «المستقل» في المحاماة وفن التمثيل وشركات الهندسة والمعمار.

وإنني لأذكر كلمة «الأطيان» هنا كما كان يرددها الدكتور في طيبة وديعة لا ننساها؛ لأننا كنا نحس منه ارتياحا لتكرارها وهو يقول: «ذهبت إلى أطياني»، و«شكرت لعبد الله باشا عنايته بأطياني»، و«فكرت في قضاء الصيف بأطياني»، وكنا نحس مع هذا التكرار بغبطة بريئة كغبطة الطفل بكسوته الجديدة في غير عتو ولا خيلاء، ونحس مرة أخرى أننا مع الفيلسوف العليم بحكمة الحياة وحب النجاح.

وتعددت الزيارات لدار المقتطف بعد اشتغالي بمدرسة وادي النيل؛ لأن الدارين كانتا متقاربتين يومئذ بحي باب اللوق، وكانت مكتبتي الخاصة لا تكفي للمراجعة في مباحث التاريخ والأدب التي كنت أتطلب مراجعتها بدار الكتب وفي غيرها، وقد رخص لي الدكتور في الانتفاع بمكتبة المقتطف ومجلداته القديمة كلما وجدت فيها منتفعا لبحوثي، التي كان يسميها بالبحوث «السبنسرية»؛ نسبة إلى هربرت سبنسر إمام مذهب الفلسفة والتقدم في الفلسفة الإنجليزية، إذ كان يقول كلما ناقشته في رأي مخالف لرأيه: «إنها حجة سبنسرية:

Bog aan la aqoon